إنه الصمت، صمت الصياد القديم، يوصل عبر خيط شفيف رسائله إلي جوف النيل، إلي كائناته الحرّة اللاهية، عينه علي قطعة الفلين مرّة، وعلي سطح الماء مرّة أخري، حيث تطيش النظرة مع الرجفة الآسرة ذاهبة نحو أفق بعيد، ستأتي الغمزة، يا إبراهيم، تعرف ذلك مثل أبناء الحواري المنحدرة عن طريق النيل، في إمبابة، وستصطاد، حتي لو كان صيدك مثل صيد عبد الرحيم: عصفورة علقت في هلب السنارة، ها أنت تمضي مثله قابضاً علي الغابة الطويلة والعصفورة المشبوكة تأخذ طرف الخيط، تأخذك، تحلّق بك. صمت مكتنز، وإيقاع هادئ بليغ، هما عدّة إبراهيم أصلان في النظر إلي العالم، وترصّد الحياة في تقلباتها الضاجة، كأن الرجل أنتج عبر الكتابة مرآته التي تعيد بناء المشهد اليومي عبر تنقيته من شوائب العادي وغبار العابر المنفلت، لكن كتابته، في جوهرها، وبما يشبه الحكمة اللامعة، التقاط صبور للعابر وإحياء للعادي في حنينه الزائل ولهفته المنقضية، براعتها في تدوين المشهد اليومي بطاقة هي بعض من روحه، وهي ما جعلت من كتابته ظاهرة سردية نادرة في خصوصيتها، ظاهرة تحققت عبر سعي مترفع افتتحه صاحبه بقصص قصيرة علمتنا بصمتها العميق معني الكتابة التي تترصد الحياة، معني الحياة التي تنبض في قاع الكتابة، تتفتح تحت جلدها المشع، بإيمان مفعم بالطمأنينة، حيث لا يكون مهماً أن نحقق أحلامنا أو لا نحقق، فالأمور لا تقاس بنتائجها، ولكن بما نبذل من جهد، كلام يكتبه أصلان، من بين كلام قديم، في (شيء من هذا القبيل)، وهو المعني نفسه الذي ينبض في عتبة (مالك الحزين) عبر وصية بول فاليري لناثائيل: "ياناثائيل أوصيك بالدقة، لا بالوضوح"، فهل تكون الدقة إلا ثمرة الجهد اليانعة؟ غالباً ما تأخذنا الكتابة السردية للتفكير بالمسافة الفاصلة، وهي مسافة زمانية مكانية في آن، تفصل بين الكاتب وكتابته، وتؤمّن له مجالاً للنظر ومعايرة المشهد، حالة تتعدي المراقبة والترصد وتتجاوز معانيهما، بما يمكّن من تحديد طبيعة الكتابة السردية عموماً عبر فهم المسافة وملاحظة أثرها، لكنها مع أصلان تتشكّل علي نحو مختلف حيث تذوب الفواصل بين الكاتب وعالمه، تتلاشي وتغيب، كأن لم تكن، من دون أن تخلّف تورطاً، أو تخفف من اكتناز الصمت وتربك انتظام الإيقاع. إن للتورط في عمل أصلان معني آخر ينمو داخل الوجدان، حيث يكون الدافع إلي التعبير عن الهموم، في تصوّره، دافعاً وجدانياً.. الوجدان، في عمله، يقود حركة السرد ويرعي عوالمه، كما يهيئ لصوت السارد أقرب ما يمكن من القنوات، هذا الصوت الذي يتفتق، في جوف الصمت، عن ضحكة حارة، أقرب إلي الطيبة والعفوية منها إلي التهكم الجارح، سخرية حانية، رقيقة، لا شخصية، تتحرك في جوف العالم، تضئ طبقاته المعتمة، فيها من الألمعية والألم أكثر مما فيها من القسوة القاهرة، كأن صاحبها يقبض، بيد راجفة، علي جمرة القهر والهوان. " حسن إذن أن تخرج في نهاية كل شوط بما يضحكك. إنه جزاء عادل. ولكن أشك في هذا كثيرا. فليست الأشياء مضحكة في ذاتها، ولكن الأمر موقوف علي تلك الطريقة التي ننظر بها إلي هذا الشيء أو ذاك"، هكذا يفهم أصلان طريقته في النظر، وهكذا يُعبّر عنها في رسالة قديمة لمحمد حافظ رجب، مكتوبة في إمبابة ومؤرخة في 17 ابريل 1966. رسائل أصلان تتواصل، لا لكائنات النيل الحرّة اللاهية ولا لأصدقائه القدامي فحسب، بل لشخصياته أنفسها: الشيخ حسني والهرم وبائع المخدرات وفاطمة ويوسف وتاجر الطيور وغيرهم، كأنما ليؤكد ارتباطاً حميماً مع العالم، عالم الكيت كات بالطبع، ويوثق صلة علي سبيل وصل ما انقطع. الكاتب يستعيد موقعه في قلب الحكاية، إلي جوار شخصياتها، يري ويسمع، لتكمل الحكاية دورتها، دورة الحكاية بالنسبة له لا تقف عند حدود الجملة، ولا تُغلق بانغلاقها، إنها حكاية أخري لتعالق الكتابة بالحياة، الهرم ينتابه، بعد موت زوجته، الهلع العظيم.. تنقطع أخبار المعلم تاجر الطيور بعدما اشتري وهدّم عن أصلان، يفتقده ويسأل عنه ليستعيد موته العجيب.. " الحقيقة، أنا استغربت" يقول أصلان. الحياة تكتب والكاتب يُنصت بأناة، ذلك ما تعلمناه منك أيضاً. أصل إلي السطر الأخير، في الوصل، ودائماً ثمة سطر أخير، حيث يموت الشيخ حسني، بعد دورة حياة جديدة، وتبقي الصورة، الصورة التي ينسحب عنها أصلان نفسه، بهدوء، مثلما دخل. في رحيل أصلان نداء خفي يتصاعد من إمبابة حتي آخر سطر في متتاليته المنزلية، في فصل ختامي هو، للدعابة، أول النهار، حيث يعطي الأستاذ خليل للصبي جنيهاً، ويغلق الباب.. هل وصلت أول النهار يا إبراهيم، هل أعطيت للصبي ما أعطيت، وهل أغلقت، حقاً، من خلفك الباب؟