اللقاء مع أمل عفيفي في روايتها الجديدة نقطة ومن أول السطر يكشف عن مبدعة بالمعني الشامل, جديدة ومقتحمة, فهي حكاءة بارعة, لا تفلت منها أدق التفاصيل والملامح, وهي صاحبة أسلوب سردي يتراوح بين التلقائية الحرة والكتابة المنضبطة الكاشفة عن التمكن والسيطرة, وبخاصة أنها اختارت لروايتها اللغة العربية الصحيحة, كأفضل ما أتيح لأي كاتبة مصرية أو عربية في زماننا, حتي في الحوارات التي تنطق بها الشخصيات, في صيغة لغوية صحيحة, لا يحس قارئها قلقا أو افتعالا أو خروجا علي مقتضيات الفن الروائي وتقاليده. وهذه الرواية في مسيرة إنتاجها, تفيد من رحلة إبداعية طويلة وجادة, مع روايات سابقة وقصص قصيرة, وحكايات للأطفال, الأمر الذي جعل كتابتها تستقر في هذا العمل الجديد مع رواية هادئة في مظهرها الخارجي, شديدة الجيشان والتوتر في جوهرها العميق, تتصاعد أحداثها ومواقفها وإفضاءات شخصياتها عبر فصولها درجة بعد أخري, في لغتها المتوهجة بسلاستها ورشاقتها وعذوبتها, حية علي قلمها بصورة مدهشة, محققة لغاياتها الفنية, بكل ألفة وبساطة, كما ينساب الماء في الجدول الرقراق. تقول علي لسان مشيرة بطلة روايتها وهي تعاني من لحظات الشك القاتل في سلوك زوجها أخذت مشيرة تنظر في المكالمات الصادرة والواردة في هاتف زوجها والفضول يكاد يفتك بها, وهي لا تعرف عم تبحث, فكل ما علي الهاتف أرقام لا معني لها, وأسماء لرجال ونساء, زملاء من عمله السابق وأقارب وآخرين لا تعرفهم, وتقلب زوجها في السرير فوضعت الهاتف مسرعة علي الكوميدينو وانحنت وهي تتلفت وكأنها تجمع جرائد الأمس الملقاة علي الأرض. وصولا إلي قولها: وضعت يدها علي فمها ودعكت وجهها ورقبتها وشعور بالاختناق يطبق علي صدرها, ثم تذكرت مهمتها فنظرت إلي الهاتف من جديد, وأكملت نقل باقي الأرقام, فلما لم يستيقظ خطر لها أن تفحص الصور الموجودة علي المحمول. فوجدت صورا لرجال ونساء لا تعرفهم يبتسمون, واندهشت كثيرا عندما وجدت فيهم ممثلة تونسية مغمورة كانت جارتهم لفترة ثم انتقلت إلي سكن آخر, وتملكها شعور بالغضب والحنق من مقدار بعدها عن حياته, وإلا فلماذا احتفظ بصورهم علي هاتفه؟ أتكون كل تلك النساء عشيقاته؟ أم منهن صداقات بريئة؟ إن الفرق بين الصداقة واللابراءة شعرة فهل تخطاها؟ وإن كن مجرد صديقات فلم لم يعرفها بهن, ويعرفهن بها؟ علي الأقل حتي تكون لهما حياة اجتماعية معا, ولكن منذ متي وهي تقابل أيا من أصدقائه؟ إنهما يعيشان في عزلة, ليس أحدهما عن الآخر فقط, وإنما أيضا عن كل الناس. القارئ لهذا العمل الناضج لأمل عفيفي يفاجئه حجم ما بذلته من جهد ومعاناة مع الكتابة علي مدار سنوات متصلة وصولا إلي أن تحقق لنفسها هذه اللغة وهذا الأسلوب, لم تحاول القفز أو تخطي أحد, ولم تستعن بشيء غير فنها وموهبتها, ودأبها وصبرها لبلوغ ما بلغته, وهي تعلم أنها ستجذب الانتباه إليها ذات يوم برغم الضجيج الذي يلف الآخرين والأخريات, ولأنها تجيد العزف علي أوتار النفس الإنسانية, والنفاذ إلي أغوار هذا العالم الشديد التعقيد والغموض في الإنسان فهي بصبرها ودأبها تنسج خيوطها الحريرية الناعمة والدقيقة خيطا خيطا, فإذا الملامح تتضح والصورة تظهر وتسطع, ونري القبح والجمال نقيضين متجاورين يتصارعان في خشونة حينا وفي مكر ودهاء حينا آخر, وهي ممسكة بالخيوط بين أصابعها المحكمة, لا يفلت منها خيط ولا يند عنها تصرف غير منطقي ولا تترك لفعل المصادفة ممارسة سيطرته علي المصائر والتحولات. وهي بحس الأمومة فيها تحنو علي أبطالها وشخوصها جميعا, حتي الذين لا نطيقهم ولا نتحملهم ولا نتعاطف معهم نجدها بوعيها الروائي وخبراتها الحية وعمق بصيرتها بمنعطفات الضعف الإنساني تكاد ترثي لهم وتشفق عليهم, وتمنحهم في نهاية الأمر فرصة وضع النقطة, ليبدأوا من أول السطر. أخرجت مشيرة هاتفها المحمول من حقيبتها بيدين مثلجتين وصدر يكاد ينشطر من قوة دق قلبها, وفتحت الصورة التي نقلتها من هاتف زوجها ثم استدارت ببطء شديد لتخرج من القاعة, ودموعها الصامتة تسيل علي خدها, وشعور بجرح عميق في روحها لا تظن أنه سيندمل أبدا, فبالرغم من أنها كانت شبه متأكدة من أن زوجها متزوج بأخري, ومن أنها شكت في نصف من تعرفهن, لم تتخيل أبدا أن يكون متزوجا من أماني. فأن يكون زوجها متزوجا شيء, وأن يختار أعز صديقاتها شيء آخر تماما. يبدو أن ما تقوم به أمل عفيفي من جهود إبداعية في مجال كتابة السيناريو لبرامج وثائقية وتسجيلية, وقدرة فذة علي تحويل الخواطر والمشاعر والأحاسيس إلي مشاهد مجسدة ومرئية, ومواقف مغموسة في دراما العمل وتفاصيله, متصلة بنسيج الحوار الذي يحتوي دائما علي مساحة أقل, جعل الرؤية البصرية والحسية تغني عنه في كثير من المشاهد, التي لا تتطلب كلاما منطوقا لم تعد له ضرورة. وعلي مستوي هذه الرواية الهادئة في الظاهر المنسابة في يسر وطواعية دون أن يعوق القراءة المتأملة والفاحصة عائق لغوي أو بلاغي فإن لغة أمل عفيفي الصافية, الخالية من الشوائب, تتسم دوما بدرجة عالية من النقاء والشفافية والقدرة علي توصيل المعني والفكرة والإيحاء بالغايات البعيدة. وواضح لقارئ هذا العمل أن الكاتبة لم تفتها النماذج والصيغ الروائية المختلفة التي تتسع لها الساحة المصرية والعربية الآن, فعينها عليها, لا لتقليدها أو الانخراط فيها والابتعاد عن الصيغة التي ارتضها لنفسها, ووجدت فيها ذاتها في الكتابة, وأسلوبها الذي تتقنه وتبدو وكأنها لا تتقنه أو تهتم به, وتجهد في إحكام بنائها الروائي من غير أن تشعرنا بمجهود هذا البناء, وهذا سر من أسرار صنعتها وفطرتها في آن. هذا هو فضاء التحدي في إبداعاتها القادمة, التي تتجاوز أول السطر. المزيد من مقالات فاروق شوشة