في مقدمة رواية " مالك الحزين" لإبراهيم اصلان، هناك جملة لبول فاليري، يصدر بها أصلان روايته، يقول فيها" ياناثانيل أوصيك بالدقة لا بالوضوح". لم يتخل أصلان خلال أعماله كلها عن هذه الدقة. ربما تكشفت جوانب وزوايا عالمه، في أعماله التالية، ولكن ظلت دقته كما هي وتطورت مع الزمن إلي أن أصبحت طريقة رؤية في الحياة. بالتأكيد ليست رؤية غامضة أو باطنية، ولكنها تتعامل مع عالم مليء بالتشابك والعلاقات البينية، عالم من الصعب أن تخرج منه بتصورات واضحة أو حكمة ملخصة. وربما هذه الدقة توضح مدي احترام أصلان وحبه لتلك الهوامش المدينية وناسها، واللذين لم يبارحا أعماله. ليست بالضرورة أن تعني الدقة دقة تفاصيل هذا العالم الروائي الذي يحكي عنه، ولكنها دقة تلك الروح الساخرة بهدوء ورصانة وبدون افتعال، وهي تكشف وتعري مفارقات هذا الواقع المعيش لأبطاله. أيضا دقة اللغة التي تشير من بعيد، لأنه الطريق الذي اختاره، أن تشير لغته من بعيد حتي لايصيبها حزن هذا العالم الذي يحكي عنه. من البداية كان لابد أن يتخذ هذا القرار الصارم، أن تتغرب لغته عن هذا العالم الحزين والموجع، حتي لاتقول أو تعبر عن هذا النوع من الحقائق أو المشاعر المجانية. إنه انحياز لطريق ما في التعبير عن الجمال. أن يصفيه من شوائبه اللغوية، من عقله الباطن، ويصقله بلغة وأحاسيس وصور محسوبة. إنه، عبر الأدب، يتخذ مسافة عن هذا العالم الذي يكتب عنه، وفي الوقت نفسه يكتب من داخله. إنها مسافة وهمية أو غير مرئية لاتُلحظ إلا في اللغة. لقد صُقلت الروح المرحة والساخرة لإبراهيم أصلان، وصقل وجهه وازداد تسامحا، مع حفاظه علي شاربه، الذي أصبح جزءا أصيلا من شخصيته، هو وشعره المهوش. وسامة مرتجلة، تشي من بعيد لرحلة تمرد هادئة. إنه واحد من الآباء الروحيين، معلم بدون أفكار واضحة، ولكن بوجه، وعمر، وأسلوب حياة، وكتابة، جميعها كافية للإحساس برداء الأبوة الروحية الذي يرتديه. كتابته خالية من الصراع الظاهر، تشعر بأن هناك صراعا كان موجودا، ومضي، ربما في حياة أخري، أو في مكان آخر، وبقيت بعض آثاره. أنه من الكتاب الذين يتحلون بمخيلة وخيال غير طبقيين، فهو ليس مهزوما أو متحديا لخيال آخر. وربما عوض هذا الصراع الهام، بالإيمان بالطبقة التي يكتب عنها. إيمان يتقبل الآخر، حتي ولو لم يكن موجودا. إبراهيم أصلان بالنسبة لي من أكثر الكتاب الذين لم يغتربوا عن عالمهم الذي جاءوا منه، حمله معه أينما ذهب أو كتب، ومنحه موهبته ودقته، ليكون ثريا عند قراءته، وهي الرحلة الأصعب في نظري. أجد في إبراهيم أصلان اتساقا، كأن مفردات هذا العالم الأصلي وجدت طريقها لتعيش جنبا إلي جنب مع عالمه الجديد، عالم الكاتب المشهور والروائي. إنه من القلة الذين يشبهون أعمالهم، وربما هذه هي رحلته، أن ينحت بدقة تمثال وعيه بالقرب من المادة الأساسية لحياته. ربما تكون رحلة الكتابة هي رحلة اغتراب عن الواقع، كونها كتابة، ولكن تحري الدقة هو الذي يؤدي بها أن تصنع رحلة عكسية، ضد اغتراب الكتابة والكاتب. هناك وصية في هذه الجملة التي قالها بول فاليري وصدر بها أصلان روايته: أن تقول الحقيقة، كأن الحقيقة كامنة في الدقة، وليست واضحة، وستظهر دائما ملتبسة، وخبيئة، وفي الزوايا، وتحت هذا الركام المصطنع من الوضوح. وكأن الوضوح أيضا سيكشف حقيقة فعلا، ولكنها حقيقة مجانية يعرفها الجميع، أما عتمة الحواري، والنفس، فلها مكان آخر. ربما تأخذنا الدقة إلي الكثير من التناقضات، والتفريعات بعيدا عن المجري العام للوعي، وبعيدا عن أفكار هامة وضرورية للحياة، ولكن هناك عالما آخر سيظهر عبر هذا التشظي والتشابك، عالما مرحا، وقليل الإضاءة؛ عالم إبراهيم أصلان.يرحمه الله.