نشرت »المصري اليوم« في نسختها الانجليزية الصادرة في 9ديسمبر2011 خبرا مؤداه أن دارسوثبي العالمية للمزادات ستعرض للبيع في لندن، مجموعة ثمينة من مخطوطات نجيب محفوظ ومن المقدر أن تباع المجموعة بثمن يتراوح بين 50 و 70 ألف جنيه استرليني. وبالبحث عن مضمون هذا الخبر، تبين أن هذه المجموعة من المخطوطات تنطوي علي نوادر من انتاج محفوظ، منها مالم ينشر من قبل، علي حد قول الدكتور جابريال هيتون، خبير قسم المخطوطات بسوثبي ويضيف د. هيتون »أنه من المشهور عن نجيب محفوظ أنه ظل طوال حياته يعاود ارتياد موضوعه الرئيسي ألا هو مدينة القاهرة وقد يكون أهم ما تكشف عنه نصوص هذه المخطوطات، التي تقدم مادة ممتدة من بداياته إلي آخر انتاجه، هو أنها تمكنا من تتبع التطور المستمر في أسلوب هذا الكاتب الكبير»ويضيف د. هيتون«أن بها كثيراً من تفاصيل نصوصه المبكرة وقصاصات لم تنشر، تشع فيها حيوية حواري القاهرة - وثقافة القهاوي بما ينعقد فيها من قصص الحب والصداقات - هناك مثلا قصة بعنوان «البحث عن زوج« بتاريخ 1937 تسبق مجموعة »همس الجنون« بالاضافة إلي كراسة من الملاحظات الفلسفية التي تدل علي طموح محفوظ المبكر لتأليف عمل فلسفي» وقد نتج عن محاولة اغتيال محفوظ في سنة 1994، التي طعنه فيها مهووس ديني في عنقه، أن أصيب عصب في يده اليمني، أدي إلي عجزه عن الكتابة لسنوات، و استمر يواجه صعوبة في الكتابة بعد ذلك، حيث يضيف د. هيتون «الأمر الذي ظهر في اهتزاز مخطوطاته الاخيرة وجاءت كتاباته بعد ذلك في صورة أحلام قصيرة، أظهرت تمكنه من تركيز السرد واختصاره نهل فيها من التراث العربي القديم في تفسير الاحلام، ثم تجميع هذه الاحلام بين دفتي كتاب» وقد أثار هذا الخبر كثيرا من التساؤلات في نفسي. بداية شعرت بأسي كبير نفرط في تراث نجيب محفوظ بينما نحتفل بمئويته!! نهجره للآخرين بهذا الثمن البخس؟! إذ بينما قدر ثمن مجموعة مخطوطات محفوظ بين 50 - 70 ألف جنيه استرليني، يعرض في نفس مزاد سوثبي الخاص بالمخطوطات والمطبوعات في 15 ديسمبر، مخطوط واحد للكاتبة الانجليزية شارلوت برونتي (صاحبة جين إير) عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها بثمن يتراوح بين 200 و300 ألف جنيه استرليني! ألا في ذاك مدعاة للآسي. أين سجلاتنا؟ إذا حاول أحدنا كتابة سيرة أي من كتابنا الكبار فلن يجد ما يركن إليه لايوجد أرشيف لمخطوطات هؤلاء الكتاب أومراسلاتهم ويتكرر هذا التفريط في التراث في جميع المجالات أين سجلات سعد زغلول وثورة 1919، جمال عبدالناصر؟ بل أين سجلات حرب أكتوبر؟
»إن آفة حارتنا النسيان« كما يكرر نجيب محفوظ ومثالا لهذا العوز عندما أراد عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي نيكولاس هوبكنز أن يكتب مقالا عن محمد جلال (1906 - 1943) أول باحث مصري في الأنثروبولوجيا، لم يوجد له ذكر في مصر!! لم يرد عنه شيء في أي من المجلات، الدوريات أوالمكتبات وكان يعلم أن محمد جلال درس مع مارسيل موس عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي الكبير في باريس فاتصل بالأيميك (IMEC ومقره في دير الأردين في مدينة كون CAEN في شمال فرنسا) وهومركز لذاكرة النشر الفرنسي المعاصر يجمع سجلات كبار العلماء والكتاب والمفكرين- يفهرسها وينظمها ويضعها تحت إمرة الباحثين ومن يريد الاطلاع عليها عندما اتصل الدكتور هوبكنز (برسالة E -MAIL) بالمركز أفادوه أن لديهم ثلاث عشرة رسالة تبادلها محمد جلال مع أستاذه مارسيل موس وآخرين في ثلاثينيات القرن الماضي سافر د. هوبكنز إلي فرنسا، واستطاع الاطلاع علي الرسائل التي تبادلها التلميذ مع أستاذه ومنها استعاد مسار محمد جلال العلمي، ونشر نتيجة بحثه في مقال مثير للاهتمام بعنوان »محمد جلال أحد رواد علم الانثرويولوجيا في مصر«. ومن المذهل احتفاظ مارسيل موس بمراسلاته مع طلابه من جانب، ثم حفاظ هذه الثقافة علي أدق مظاهر المسار العلمي لروادها من أجل العلماء إلي أصغر المشاركين في بنائها من طلاب وتلاميذ، فأين نحن من هذا الحرص بالنسبة لتراثنا! من العار أن يوضع تراث كاتب في قامة نجيب محفوظ في مهب الريح ولكن بعد التمزق الذي انتابني راجعت نفسي! فرحت أن يباع أرشيف محفوظ في المزاد. من يسعي لشراء مثل هذا السجل لم تخطر علي بالي أي من جامعاتنا المصرية! آمل أن تحظي به إحدي الجامعات الاجنبية الكبيرة ،تصونه وتفهرسه أداة قيمة للباحثين حفاظا عليه بعد أن تركه أصحابه الذين يتركون تراثهم يغطيه تراب النسيان وتأكله الفئران. وآمل أن يقع عليه دارس يكشف الغطاء عن ذخائر محفوظ التي فرطنا فيها. إذ أنه في المثل الذي ضربته عاليه لم يهتم أي من مواطنينا الباحثين بتقفي أثر الانثروبولوجي محمد جلال وترك الأمر لباحث أمريكي.. وأرشيف فرنسي!!!