إنهم يطبعون كتبا في اليمن. عبارة قد تكون صادمة للكثير من المتابعين العرب الذين ترتسم علي ملامحهم علامة اندهاش كبيرة عندما يقع في أيديهم، مصادفة، كتاب مطبوع في اليمن، هذا البلد المنزوي بداخل ركن بعيد في شبه الجزيرة العربية. و قد تكون مسؤولية هذا التناسي شبه المعمم لما يحدث في اليمن واقعة علي المبدع اليمني نفسه الذي لا يجيد موهبة التسويق ولا يدفع بنتاجه إلي خارج المجال اليمني. في المحصلة: إنهم يطبعون كتبا في اليمن. يترك الأدباء (هناك ) الحياة الصعبة وراء ظهورهم ويذهبون لطباعة كتبهم مهما كلفهم الأمر. المسألة ليست سهلة لمن يراها من بعيد أو من فوق تلة عالية لا تُظهر سوي جغرافيا عامة لا تبدو واضحة فيها تفاصيل حياة خشنة يحتك بها مثقفو البلاد بشكل يومي مظهرة أمر طباعة الكتب ترفاً في عيون الآخرين. أتحدث هنا عن الطبقة العريضة منهم من المنتمين لما تحت الطبقة الوسطي بقليل ولا يملكون في الحياة سوي رواتبهم الشهرية والعديد منهم عاطل عن العمل في الأصل. وفي اليمن مطابع تجارية فقط تجدها موزعة علي مساحة الجمهورية تتفاوت جودة ما تنتجه من كتب بحسب حداثة الطراز المستخدم في الطباعة كما وبحسب المبلغ المتوفر لدي الأديب. فإذا كان قادرا علي دفع ما يساوي طباعة فاخرة فله ذلك حيث توجد مطابع تجارية يمكنها إنتاج مطبوعات تضاهي أرقي المطابع العربية المعروفة بل وتتفوق عليها حتي أن من يشاهدها لا يمكنه تصديق أن طباعتها قد تمت في اليمن. لكن هي قلة من تقدر علي الطباعة في هذه الأماكن من المنتمين إلي طبقة الأثرياء الجدد الذين لديهم فائض من المال ولا يعرفون كيف يصرفونه فاتجهوا إلي الأدب و الشعر علي وجه الخصوص لعله يعطيهم بعضا من وجاهة اجتماعية إضافية أيضا. لكن هذا في الغالب نتاج رديء لا يترك أثرا في الطريق ويذهب للأرشيف سريعاً. أمّا الغالبية من الأدباء فهم يخترعون وسائلهم الخاصة التي تمكنهم من تدبير المال اللازم لطباعة نتاجهم وتختلف هذه الوسائل بحسب قدرات كل واحد منهم لكن تبقي وسيلة الاستدانة من هنا وهناك هي الوسيلة الأكثر شيوعا وذلك علي أمل استعادة ذلك المال المصروف علي الطباعة بعد بيع الكتب التي يقومون بطباعتها. وهذه طريقة قد لا تكون متواجدة في غير اليمن حيث يقدم الأديب علي حمل كتبه والمرور علي الوزارات والمصالح الحكومية والمكاتب التجارية عارضاً عليهم شراء بعض النسخ ويكون هذا بأسعار تشجيعية تفوق قيمة الكلفة الحقيقية لكل نسخة وهكذا يستطيع الأديب باستعادة المبلغ الذي كلفه لطباعة الكتاب. لكن تبقي ملاحظات علي هذه الطريقة المتعارف عليها في الوسط الثقافي حيث يتعرض الأديب لمواقف مهينة في حقه أثناء عرضه لكتبه لدي بعض من تلك المصالح الحكومية التي قد يكون علي رأسها أو الشخص الذي تكون مهمته شراء هذه الكتب علي علاقة ليست جيدة مع الكتب والمثقفين أو لا يعرف بشكل جيد الجهد الذي تم بذله من أجل أن تجد تلك الكتب طريقها للحياة فيكون تعامله معها ومع أصحابها جافاً غير متسم باللياقة أو بالأدب وهو ما يجعل عدد من الأدباء يتحاشون الذهاب إلي تلك الجهات التي يعرفون بشكل مسبق أنه علي رأسها مثل تلك النوعية من المعنيين بأمر شراء الكتب. لكن علي الرغم من هذه التعامل القاسي معهم لا يجد البعض منهم غير الذهاب إلي تلك الأماكن لعرض مالديهم من كتب فعليهم دين يجب عليهم تسويته. لكن مع هذه الحالة التي قد تُظهر الصورة العامة لأمر طباعة الكتب في اليمن شخصية بحتة تتوقف عملية إتمامها علي الأديب نفسه من غير مشاركة من أي جهة حكومية كوزارة الثقافة مثلا أو الجهات الأخري التابعة لها يمكن الحديث عن طفرات تحدث في هذه الجهات الحكومية تدفعها للعودة إلي بعض من مهامها الأساسية ومنها طباعة الكتب. وتأتي هذه الطفرات اعتمادا علي شخص المسئول نفسه القادم إلي هذه الجهة الثقافية أو تلك وقياس حجم تقاطعه واهتمامه الفعلي والحقيقي بالشأن الثقافي في تعارض مع التوجه العام للدولة التي تعتبر وزارة الثقافة بشكل عام والجهات التابعة لها عبئا علي كاهل ميزانية الدولة وينبغي تقليص حجم الإنفاق الكلي عليها إلي حدود النفقات التشغيلية في مستوياتها الأدني. و قد حدث أن جاء مثقف علي رأس الهيئة اليمنية العامة للكتاب انتقل لاحقا إلي كرسي وزارة الثقافة اليمنية وكان ذلك بداية من العام 2000 تقريبا وانتهي في العام 2009 . وكان أن شهدت الساحة الثقافية وقتها ظاهرة لم يشهدها المناخ الثقافي اليمني في تاريخه تمكن الأدباء فيها من طباعة معظم كتبهم وبلغ الأمر مداه إلي درجة أن وجدت الهيئة العامة للكتاب نفسها عاطلة عن العمل بسبب عدم تلقيها مخطوطات من قبل الأدباء لطباعتها وهو نفس ماحدث مع وزارة الثقافة لاحقا وبالتوازي مع مناسبة إعلان مدينة صنعاء عاصمة للثقافة العربية في العام 2004 حيث اضطرت الوزارة ،بعد توقف الأدباء عن مدها بمخطوطاتهم إلي طباعة رسائل الدكتوراه الجامعية وإصدارها في كتب خصوصا تلك التي تحمل طابعا ثقافيا وأدبيا والتي تمت مناقشتها في كليات الآداب الموزعة علي مختلف الجامعات اليمنية. وكما يظهر فالمسألة تتخذ لنفسها طابعا شخصيا لا علاقة له بالتوجه العام للدولة وهو ما يتكرر في حالة الاتحاد العام للأدباء والكتاب اليمنيين حيث يكون أمر اهتمامه بطباعة الكتب لأعضائه متوقفا علي شخصية الأمين العام الذي يأتي علي رأس هيئته التنفيذية بعد كل دورة انتخابية وبحسب توجهه ونظرته لطباعة الكتب يكون التوجه العام. لكن قد يتأثر هذا الأمر أيضاً في حالة ما كان التوجه العام لأعضاء الهيئة التنفيذية للاتحاد فإذا كان مائلا باتجاه تيسير طباعة الكتب للأعضاء يكون ميل الأمين العام أو رئيس الاتحاد. وقد حدثت هذه الحالة مرة واحدة وجاءت مصادفة لفترة ازدهار طباعة الكتب التي شهدتها اليمن خلال الفترة السابق ذكرها. وحصل هذا بسبب صعود تيار يساري إلي قمة اتحاد الأدباء وتوفيره لإمكانيات طباعة مفتوحة لكافة أعضائه من يغر تمييز بينهم بسبب الانتماء السياسي أو الفكري. وهي المعضلة التي حدثت بعد أن خسر هذا التيار انتخابات الفترة التالية للاتحاد والتي ماتزال مستمرة حتي اليوم و كان هذا لصالح قوي يمينية تابعة لحزب المؤتمر العام الحاكم (حزب الرئيس علي عبد الله صالح)، وترافق هذا بالأساس مع هجمة رسمية علي كافة المؤسسات المدنية بهدف جرّها إلي حظيرة الحزب الحاكم بغرض تدجينها وذلك بالتزامن مع فوز الرئيس صالح في الانتخابات الرئاسية التي جرت في منتصف العام 2006 ما أدي لظهور توجه رسمي من قبل حزب الرئيس لإقصاء كافة التيارات الأخري وامتد ذلك لرئاسة الوظائف العامة. وهو التوجه الذي كان واحدا من الأسباب التي دفعت لحصول غليان شعبي عارم ظهر علي شكل احتجاجات سلمية بدأت في التشكل تدريجيا لتصير موجة عامة ضمت في كيانها مختلف أطياف العمل السياسي اليمني لينتهي في نهاية الأمر بالثورة الشبابية الشعبية التي بدأت مع تشكل كيان الربيع العربي وهو الوضع الذي انعكس بطبيعة الحال علي كل أوضاع البلاد بما فيها حالة النشر باعتبارها جزء واقعا تحت تأثير البيئة المحيطة بها. لنجد حالة توقف شاملة في عملية الطبع بسبب توقف تلك الجهات الحكومية عن الشراء تحت ضغط تقليص الميزانية العامة لها وحصرها علي أضيق نطاق بعكس ماكان حاصلا في السابق وبالتالي امتنع الأدباء عن طبع كتبهم لانغلاق الباب الذي كانوا عبره يقومون بتسديد النفقات التي كانوا يقومون بها من أجل إتمام عملية طباعة كتبهم. لكن مع ذلك بقي أمامهم صدر الصحف المحلية المستقلة والحزبية مفتوحا لنشر نتاجهم الأدبي وهي نفس الصحف التي كانت تمكنهم من نشر نصوصهم بعد أن سُدّت أمامهم فسحات الصحف الحكومية والملاحق الثقافية الأسبوعية التي كانت تصدر عنها وذلك بسبب وقوعها تحت سيطرة مشرفون تُسيطر عليهم حالة من الرهاب إزاء أي نص إبداعي قادم من الأدباء الشباب علي وجه الخصوص والمعرفون بميلهم إلي التنظير الحداثي ما يعطي نصوصهم فتحات للتأويل من قبل الجهات الأمنية العليا المراقبة لتلك الملاحق أو للصفحات الثقافية اليومية بشكل عام. ويأتي عدم تعاطي مشرفو تلك النوافذ الثقافية مع أصحاب تلك النصوص من باب اتقاء الوقوع في سوء تأويل لواحدة من تلك النصوص وهو ماسوف يوقعهم في مصيدة العقاب الذي لا بد منه في مثل هذه الحالات. لكن مع ذلك يظهر فضاء الانترنت وما يتيحه من وسائل تواصلية حديثة من مدونات وصفحات مشرعة علي أرضية "الفايسبوك" بديلا متاحا بوفرة وبلا قيود مفترضة قدّم لهؤلاء الشباب وسيلة يقدرون من خلالها التعبير عن ذواتهم كما ونقل صورة للآخرين عن الوضع الداخلي لليمن، هذه البلاد التي كانت سعيدة وتحاول اليوم أن تعود إلي تلك الأيام التي عاشتها قديما ويحاول شبابها اليوم استعادتها عبر ربيعهم القادم علي خطوات ثورة شبابية سلمية تعبر اليوم شهرها الثامن.