كلما هطلَ مطرٌ في ديسمبرَ، نبَتَ هاجسٌ في حديقتي. .. هنا .. خلفَ الزُّجاجِ الذي يفصلُني عن بداياتِ الشِّتاءِ، راودني خاطرُ أن أعملَ خبَّازًا، نعم .. أعملُ خبَّازًا، أحببتُ ربَّما، أن يصيرَ الدفءُ جزءًا من طبيعةِ مهنتي، أو أن أراقبَ الخُبزَ وهو ينتفخُ من تلقاءِ نفسِه، كأنَّ ملائكةً صغيرةً تُعشِّشُ في سقيفةِ الفُرْنِ، كأنها مثلنا، تعملُ في المكانِ بأُجرتِها. ثم خطرَ لي، أن أفتحَ دكَّانًا علي رأسِ حارةٍ ببابِ البحر(1)، وأبيعَ للعِيالِ مَلْبَنًا .. وسُكَّرًا. في آخرِ كلِّ يوم، سيكونُ عندي كبشةٌ من العُملاتِ الصَّدئة، أختلي بها، وأشمُّ فيها رائحةَ أطفالٍ ذاهبينَ إلي المدارس. ثم فكَّرتُ، أن أُصبحَ راقصًا في فرقةٍ جوَّالةٍ تختصُّ بالفنِّ الشعبيّْ، بما يُمكِّنني، من وضعِ أناملي فوق أردافِ زميلاتي أمامَ الجمهور، وأنا أحملُ وجهًا محايدًا، يستقبلُ التصفيقَ دون أن تطفوَ فوقَه علامةُ الرَّغبة. فكَّرتُ بعدها في السِّقايةِ، أن أعملَ سقَّاءً يسعي في المدينةِ حاملاً قِربةً من الجِلْد، كلما دخلتُ بيوتَ النَّاسِ صِحْتُ: " يا ساتر "، لعلَّ البنتَ التي شعرُها أصفرُ، وعيناها اخضرارُ بِرسيمٍ، أن ترفعَ لي الغِطاءَ عن زِيرٍ حَطُّوه في فِناءِ البيت، وتسقطَ في حبائلي، ومن يدري، لعلَّ أباها أن يطلعَ شيخًا للعطَّارين. ثم قلتُ، لِمَ لا أكونُ كاتبًا للرَّسائلِ الغراميةِ، مثلَ فلورنتينو أريثا(2)، العاشقِ الذي هزمَ الكوليرا. سِجِلٌّ طويلٌ من العشيقاتِ الخِلاسياتِ سيكونُ آنذاك، في حوزتي، ولسوف يَصِرْنَ جميعُهن من ضحايايَ بعدما أرسمُ علي سُرَّاتِهن سهمًا نازلاً، ثم أكتبُ فوقه: "هذا لي". هكذا، أُصبحُ مصدرَ إلهامٍ لا ينضُبُ لأصدقائي الرُّوائيين. في سُوقِ الخميسِ(1)، سأختارُ مكاني بعيدًا عن بائعي السَّمكِ والدَّواجنِ، وعن كلِّ رائحةٍ تهدِّدُ الخيال، سأكونُ أقربَ ما يكونُ إلي الطَّاولاتِ التي تُباعُ فوقها مشابكُ شَعرِ البنات. تُري .. ما الذي يمكنُ حينئذٍ أن يعملَه واحدٌ مثل صبحي شحاتة(3)؟ هل يمكنُ أن يضيِّعَ بيَّاعُ الخواتمِ هذا فرصةً كتلك، فرصةَ أن يصيرَ ماركيزًا محليًّا علي جثتي، ماركيزًا للمطريَّةِ(1) وضواحيها؟ وهل سيتردَّدُ الوكيلُ(4) في ضمِّ منظري الرثِّ إلي دولابِه؟ بعبارةٍ أوضحَ، هل سيجدُ لي مكانًا في باصِ شُبْرا(1) المزدحمِ بجوارِ نادية نبيل سند(5)، القبطيَّةِ التي عبرَ ذات يومٍ بها إلي جزيرةِ الورَّاق(1)؟ هل سيجعلني أشمُّ عطرَها الشعبيَّ ولو لمرَّةٍ، قبلَ أن يُنزِلَها في محطَّةِ سانت تريز(1)، ويُنهيَ القِصَّة؟ أخيرًا .. تذكَّرتُ النِّفايات! فكَّرتُ في جمعِ النِّفاياتِ من العماراتِ المطلَّةِ علي نِيلِ العجوزةِ(1)، وأُصبحُ زبَّالَ المنطقة، وخازنَ أسرارِها. القُمامةُ، ستكونُ بِلَّوْرتي المسحورةَ التي أري فيها طوالعَ زبائني .. ونوازلَهم: قشرةُ الموزِ هذه انتظارةُ غائبٍ، مزقةُ الفستانِ إطلالةٌ خاطفةٌ علينا من أيَّامِ العافيةِ، قصاصةُ الورقِ فكرةُ عاشقٍ قد انطفأتْ. وكلما سألني أحدٌ عن حِرفتي، قلتُ: "أنا الذي إذا مرَّ بمكانٍ -يا خَلْقُ- صارَ أجملَ مما كان" "أنا ترجمانُ الرَّوائحِ، العاشقُ الذي يعرفُ أحوالَ محبوبتِه علي البُعدِ، من أشيائِها المتروكة، يعرفُ: بمن حلمَتِ البارحة، ماذا أكلَتْ، متي حاضتْ، وكيف أفرغَتْ في الليلِ شهوتَها". فكَّرتُ، أن أخلدَ إلي شيءٍ من النَّومِ ريثما يمرُّ ديسمبر، غيرَ أن المطرَ، عاودَ تركَ رسائلِه علي زجاجِ نافذتي، وكان عليَّ أن أبدأَ من جديدٍ، من النُّقطةِ البعيدةِ التي خطرَ لي فيها للمرَّةِ الأُولي، أن أعملَ خبَّازًا، من أجلِ أن يكونَ الدفءُ جزءًا من طبيعةِ المهنة، ومن أجلِ أن يتاحَ لي مراقبةُ الخبزِ وهو ينتفخُ من تلقاءِ نفسِه، وكأن ملائكةً صغيرةً تُعشِّشُ في سقيفةِ الفُرْن. إشارات 1 - أسماء أمكنة بمدينة القاهرة. 2 - اسم بطل رواية «الحب في زمن الكوليرا» لجارسيا ماركيز. 3 - صبحي شحاتة روائي مصري معاصر يعمل بائعاً في الأسواق الشعبية. 4 - سيد الوكيل روائي مصري معاصر. 5 - اسم البطلة في قصة «حكاية ننس» لسيد الوكيل.