لا يمكن فهم مجزرة ماسبيرو وملابساتها، في رأيي، إلا في إطار الصراع بين مبدأي الدولة الأمنية (أو البوليسية)، والدولة الديمقراطية، أي الصراع بين القوي المختلفة التي تؤيد أيا منهما. وبالتبعية لا يمكن فهم السياسة الإعلامية التي اتُّبعت في شأن المجزرة إلا في نفس السياق. كانت ثورة يناير حدثا فاصلا في تاريخ البلاد، عتبة انتقال من دولة أمنية عاشت لمدة ستين عاما حتي هرمت وتآكلت، ودولة ديمقراطية وليدة، هي الكفيلة بوضع البلاد علي عتبة انطلاق جديدة بتحريرها للمواطنين وتمتعهم بالكرامة الشخصية كحق طبيعي وقدرتهم علي الاختلاف والصراع والتفاوض في مجال مفتوح لتحقيق العدالة الاجتماعية والنهضة وغيرها من الأهداف. ولكن الثورة حدثت بغير أن تقودها قوي منظمة، نظرا لأن الدولة البوليسية تحول دون تنظيم الناس بحرية علي أي وجه، سواء سياسيا أو نقابيا أو حتي في جمعيات أهلية، بعيدة عن قبضتها الأمنية. ومن هنا نشأ الازدواج بين مؤسسات الدولة الأمنية التي أصيبت بجرح بالغ وقوي الثورة الديمقراطية الوليدة التي لم تبن مؤسساتها بعد. وبقدر ما يظل الفراغ السياسي قائما بفعل هذا الازدواج بين قوتين عاجزتين حتي الآن عن تحقيق انتصار حاسم، ستظل ألعاب الدولة الأمنية وجهازها الإعلامي تطل برأسها بين الحين والآخر. لكن الصراع لن يكرر نفسه في أحداث كهذه إلي ما لا نهاية. تشير الأحداث المتكررة للإخلال بالأمن بعد الثورة إلي تزايد تبلور وتنظيم قوي الثورة المضادة وقوي الثورة أيضا. ويظل الانقسام العلماني الإسلامي بمشكلاته المعقدة حجر عثرة أمام وصول قوي الثورة إلي توافق يحقق نقلة حقيقية في الصراع لصالح الديمقراطية. ومع تزايد التبلور من الجهتين، تصبح المواجهات أقوي وأكثر عنفا، ويطل خيار فاشي أو شبه فاشي برأسه. لم يعد ممكنا إعادة النظام القديم.. الممكن من وجهة نظر الثورة المضادة، وهو ما تكتشفه بالتدريج، هو دولة رجعية فاشية صريحة أو شبه صريحة، علي نمط انقلابات كولونيلات أمريكا اللاتينية. لكن النجاح في تحقيق ذلك مسألة أخري.. فقوي الثورة حية لم تمت، وهي لا تشمل فقط من ثاروا ضد مبارك، ولكن أيضا حركة الإضرابات الواسعة والحركات المنادية بالإصلاح التي تتصدي للفساد في كل مؤسسات الدولة. فالدولة الأمنية رأس مالها العجز والفساد (الذي يسمح بتجنيد منتفعين)، وكذا الإخلال بالأمن نفسه والتلاعب به، وصولا إلي تفتيت المجتمع لذرات متصارعة لا تثق في بعضها البعض، وتحتكم جميعا لجهاز الدولة الأمنية، المعز المذل. في هذا السياق نستطيع أن نفهم سياسة ماسبيرو وقنوات الفلول تجاه الحدث الذي جري أمام أسوار مبناه.. بين قتل وحشي بالجملة وبلا تمييز، ونداءات تطالب المواطنين "بإنقاذ" الجيش. أولا: الحدث بين المجلس العسكري وماسبيرو ماسبيرو وشركاها: هذه هي "العملية" التي كان علي إعلام الدولة ومشايعيه من القنوات الخاصة أن يشاركوا فيها.. ويبرروها.. ويخفون أبعادها إن أمكن. بينما كان القتلي من الأقباط ومؤيديهم من المسلمين المستنيرين يسقطون بالعشرات، والجرحي بالمئات، والرصاص حي ينطلق بشكل عشوائي من أعلي ومن أسفل، والمركبات المسلحة تجري بين الناس بسرعة جنونية.. في جريمة كاملة الأركان ضد الإنسانية، طرحت ماسبيرو ومشايعيها رواية تقول أن الجيش يتعرض لاعتداء مسلح، صادر عن مظاهرات الأقباط أمام ماسبيرو ودعت "الشعب" للنزول "لحماية الجيش" منهم. في نفس الوقت كانت مجموعات مسلحة من بولاق تتحرك، ولا نعرف بعد من حركها، بالسنج والمطاوي والعصي، وربما أسلحة نارية، لتحمي الجيش وتضرب الأقباط في نفس الوقت. ظهرت فيديوهات الموبايلات والكاميرات الخاصة علي اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي لتطيح بالرواية "الرسمية" عن عساكر الجيش المقتولين، لتتكشف جريمة وحشية لا تتعارض فحسب مع حقوق المواطنة، بل مع أبسط مبادئ الإنسانية بل تخالف اتفاقيات جنيف المتعلقة بسلوك جيوش الاحتلال تجاة المدنيين في المناطق المحتله الهزيمة الاولي لإعلام فرانكشتاين. بعدها أخذ الإعلام منحي آخر: تصوير الموضوع كفتنة طائفية، وكمؤامرة مسيحية، تشترك فيها أصابع خارجية وداخلية. ليست مؤامرات ضد القتلي، بل ضد القتلة: قوات الشرطة العسكرية و"المواطنين الشرفاء". فالقتلي فلا حساب لهم ولا وزن. ثم جري إحضار معلقين ليست صلاتهم بالمؤسسات الأمنية خافية علي المثقفين ليربطوا هذا كله بالثورة: بعد "المليونيات الفاشلة"، فيما قال بعضهم، يقوم مدبرو المليونيات هذه بتعويض الفشل بارتكاب جريمة. بالفعل أسفر التحريض الإعلامي المخطط عن حوادث صدام طائفي في عدة مدن وأحياء قاهرية.. ولكن هذا الشعب المسالم لم يرتكب أبدا في صداماته ما قامت به الشرطة العسكرية. حدثت الفتنة الطائفية وانتشرت بالفعل، ولكن ليس علي النطاق المتوقع. ثانيا: ما وراء الحدث: لعبة الأمن والتلاعب بالأمن والآن، ما علاقة هذا الخطاب الإعلامي والمجزرة المصاحبة له بقضية الدولة البوليسية؟ لنقدم إجابة مبدئية: إشعال فتنة طائفية من شأنه أن يبرر، لا المجزرة وحدها، بل ومجازر قادمة تعيد إقرار "القانون والنظام"، وباختصار: الدولة البوليسية، مع ألحان مصاحبة عن "الوحدة الوطنية"، علي إيقاعات عسكرية. كيف يكون ذلك؟ أليست الدولة الأمنية هي التي تقوم علي إقرار الأمن؟ صحيح.. الدولة الأمنية تقدم نفسها، لا باعتبارها دولة العدل والقانون، بل دولة الأمن. لكن الأمن فيها لا يتحقق بمجرد إقرار الأمن، بل أساسا بالإخلال به. الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية وترتيب الحملات الإعلامية ضد شخص أو جماعة أو مجموعات سكانية بأكملها، أو إيقافها بالنسبة لهم، التحكم في القضاء، تعيين النائب العام.. كل ذلك هو من أدوات الدولة الأمنية. يجب أن يشعر الجميع بأنهم مهددون، وفي نفس الوقت أن هناك إمكانية للإفلات إذا انصاعوا ورضوا، علي أن يلتزموا غاية الحذر. وليس ما يحدث في سوريا سوي حالة متطرفة من ذلك. النظام الحاكم هو التهديد الأكبر والحامي الأعظم في نفس الوقت. هناك رابطة أخري لا تقل أهمية: الدولة الأمنية تقوم بنفس الدرجة، وبالضرورة، علي إفقاد الناس الثقة بأنفسهم وفيما بينهم. بقدر ما يزداد الصراع الاجتماعي غير المنظم في أحزاب ونقابات وهيئات مدنية مستقلة، بقدر ما تستطيع الدولة الأمنية أن تبدو كضرورة. لا محل هنا لشعارات من قبيل "إرفع راسك فوق.. إنت مصري"، بل العكس تماما: أنتم غير قادرون علي حماية أنفسكم.. لو تركناكم لأنفسكم لذبحتم بعضكم البعض.. "الشعب وسخ"، كما يقول الكلام المنتشر الدارج الآن في أوساط الفلول والمحيطين بهم. فإذا أضفنا تهويلات المؤامرات الخارجية، الخفية بالضرورة في الإعلام الأمني، تكتمل عناصر إشعار الناس بأنهم لا حول لهم ولا قوة، إلا حين يتم استدعائهم إعلاميا للعب دور الكومبارس في مذابح مدبرة. في هذا السياق السياسي، لا أنسب ولا أفضل من اللعب علي الفتنة الطائفية لترميم الدولة الأمنية. لا يهم أن يكون الحدث نفسه بعيدا عن هذا (مثل مجزرة ماسبيرو)، المهم أن يُستعمل في هذا الاتجاه. الإخلال بالأمن العام، إثارة الفتن، هو مدخل الدولة الأمنية، في عهد مبارك كما في عهد ما بعد مبارك. وخطة التفريغ الأمني التي جري تنفيذها وقت ثورة يناير لم تكن سوي أحد تطبيقات الفكرة التي لا غني عنها. ولكن الإخلال في حد ذاته لا يصلح. يتطلب الأمر أيضا "ترجمته" إلي "أفكار" طائفية أو غيرها، تبرز حالة من الهلع والرعب، رعب الشعب من نفسه، من تناقضاته ومشاكله، لتأتي العصا السحرية، القاتلة، حالة الطوارئ، لتصبح هي النظام السياسي المتاح. ثالثا: السياق السياسي العام للمجزرة.. ومرة أخري.. ماسبيرو بالفعل كما أشار المعلقون التابعون للأمن الي أن هناك صلة وثيقة بين الصغر النسبي لحجم المظاهرات المسماة "مليونية" في التحرير والإخلال الجسيم للأمن بعدها. ولكن ما السبب؟ المنطقي أنه إذا كانت حركة الاحتجاج أقل قوة من المتوقع، سيبدو الأمر لأنصار الدولة الأمنية، الثورة المضادة، وكأن اللحظة مناسبة لإشعال فوضي تنتقص من قوة ثقة الشعب الذي ثار ودفع الثمن، وصولا إلي إشعال "حريق الجيزة" (يوم الهجوم الثاني علي السفارة الإسرائيلية ومبان أخري)، والعويل علي الانفلات الأمني والإخلال بأمن البلاد والإضرار بوضعها الدولي.. تمهيدا لتقبل "تفعيل قانون الطوارئ" بعدها مباشرة. لم يجر السيناريو كما هو متوقع. ففي نفس الوقت كانت حركة الإضرابات التي قام بها من ظُلموا طويلا في مختلف المؤسسات تصل إلي ذروة جديدة، ليبتلع المجلس العسكري ما هدد به وتوعد. ومع تزايد الضغط علي المجلس واعترافه للمرة الأولي للأحزاب كشريك مدني يتم التفاوض معه وإقرار ورقة عمل مشتركة، تجري المذبحة في سياق يتكلم عن المؤامرة والطائفية والجيش "المهدَّد" من جانب مدنيين في نفس الوقت! فشل الموضوع نسبيا، ولكنه بالمقابل حقق نجاحا ملحوظا بالمقارنة بحادث السفارة. أصبح الناس أكثر خوفا من أنفسهم.. ولكنهم شاهدوا مستويات من الوحشية غير مسبوقة.. وفشلت أيضا عمليات البلطجية لتخريب المستشفي القبطي لطمس الأدلة.. واضطر خيار الدولة الأمنية للتراجع، ليواجه الآن كشف حساب قاس بشأن ما حدث وكيف حدث.. وليس الكلام عن "المدرعة المسروقة" سوي نكتة جديدة في هذا السياق. تتبين بشكل أكبر أعماق الدولة الأمنية، بأجهزة "تحقيقها" غير المستقلة، وانحيازها السافر ضد الثورة، تلاعبها بالأدلة والضغط علي الشهود، ولكن لحساب المجلس العسكري هذه المرة. وها هي الجوقة الإعلامية تنظم الانسحاب: تعلو أصوات تطالب باستقالة شرف، كما لو كانت هذه الوزارة العاجزة عن التنفس أصلا تحت وطأة المجلس العسكري هي المسئولة. يجري البحث عن كبش فداء، ريثما "يحدث" حدث جديد، إخلال أكثر جسامة بالأمن. السياق العام هو إذن الصراع بين الدولة الأمنية التي جرحتها الثورة ومشروع الدولة الديمقراطية الوليد. ويظل السيناريو الخاص باستعادة الدولة الأمنية، ولكن علي نطاق أقسي شبه فاشستي هو السيناريو المفضل. ويظل النموذج الرائد والمثل الأعلي هو حريق القاهرة الذي دشن الأحكام العرفية في غير وقت الحرب في يناير 1952 ومهد للانقلاب العسكري، لنعيش نظام الدولة الأمنية، نظام الطوارئ، سواء أُعلنت حالة الطوارئ أم لا، لستين عاما. والسيناريو التالي قد يتضمن أيضا أن تدبر الدولة الأمنية نفسها انقلابا علي المجلس العسكري الحالي، بما يتيح في نفس الوقت القمع، والقول بعهد جديد مُصْلح، يحقق "مبادئ الثورة" العظيمة. لكن مبادئ ثورة يناير ليست شيئا معلقا في الهواء.. إنها الحرية.. إنها التحرر من الحكم العسكري.. إنها بناء الدولة الديمقراطية.. إنها أولا وثانيا وأخيرا: إرفع راسك فوق.. إنت مصري". ما زالت رؤوسنا عالية.. ولن نستسلم.. والأيام بيننا.