عرفات الكلمات: وقود الاحتلال والتحرير من رحم الكلمات ولد الاستيطان الصهيوني لفلسطين. واستنادًا إلي نصوص مجازية أعيد مرارًا وتكرارًا كتابتها وتأويلها علي مدار أكثر من ألفي عام، زعم أشتات من البشر ملكيتهم لأرض لم تطئها أقدامهم، ولم يرها آباؤهم أو أجدادهم، ولم يحبوا عليها أبناؤهم. أرض لا يصوغ حدودها ولا ملامحها إلا حشد من أساطير، تستمد قداستها من قدرتها المدهشة علي تبرير ادعاءات الاحتلال والهيمنة. وبعد أن نُسجت بمهارة حبائل أساطير أرض الميعاد، جاء دور الحيل والمؤامرات، التي تكللت بوعد منْ لا يملك لمنْ لا يستحق، الذي ساعدت قوة الاحتلال البريطاني لفلسطين بموجبه الصهاينة علي المضي في مشروع توطينهم في فلسطين وتعزيز نفوذهم. وحين اكتملت المؤامرة جاء دور البنادق، التي حولت خرائط الأساطير إلي أسلاك شائكة وجدران عازلة وحدود مفخخة بالقنابل. علي مدار أكثر من ستين عامًا كان ثالوث الكلمات والمؤامرات والبنادق الصهيونية يُسيل أنهار دماء الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين. ويحوِّل أرض المسيح (رمز المحبة)، والإسراء (رمز التسامي)، إلي مستنقعٍ للحقد والعنف والكراهية. وشهد العالم واحدًا من أبشع أنواع الظلم الإنساني، تزامن مع واحدة من كبري عمليات التضليل الإعلامي المحكم في تاريخ البشر. ولم يكن أمام الفلسطينيين لمواجهة تحالف قوي الاستعمار القديمة والهيمنة المعاصرة سوي أن يلجأوا إلي ثالوث آخر يتكون من الكلمات والحجارة وأغصان الزيتون. منذ شحذت الصهيونية العالمية مخالبها وأنيابها في آواخر القرن التاسع عشر لتقتنص أرض فلسطين، قاوم الفلسطينيون عملية سرقة واغتصاب بلادهم بكل ما يستطيعون. كانت ثوراتهم ضد المحتل الإنجليزي، ومعاركهم ضد العصابات الصهيونية وجيش الاحتلال وحجارتهم المصوبة نحو المدرعات والدبابات المصفحة وسائل لاسترداد الحقوق. ولم تكن الخطابة السياسية في المحافل الدولية أقل تأثيرًا في ميدان الصراع بين قوي احتلال مستأسدة، وقوي مقاومة صامدة. وقد كان خطاب ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 نوفمبر 1974 لحظة حاسمة في تاريخ هذا الصراع. بعد مرور عام علي حرب أكتوبر 1973، وفي لحظة نادرة من التوافق العربي الذي تجلي في التعاون العسكري والسياسي أثناء الحرب، كان العالم بأكمله ينصت لزعيم منظمة التحرير الفلسطينية التي اعتادت كثير من وسائل الإعلام الغربية آنذاك علي انتقاده هو والمنظمة معًا. كان العالم يُفيق ببطء من إحدي أشمل عمليات التلاعب والتضليل الأممي. فقد استطاعت وسائل الإعلام الصهيونية والموالية لها من إحداث تشويه شبه كامل لحقائق القضية الفلسطينية؛ فصورت عمليات الإبادة والتطهير العرقي التي قامت بها العصابات الصهيونية في فلسطين علي أنها عمليات تحرير وصورت الاغتصاب الدموي للأراضي الفلسطينية بأنه حرب استقلال وأظهرت إخفاء معالم الوجود الفلسطيني في أرضهم التي سكنوها لآلاف السنين كأنه حركة تعمير ووسمت حركة المقاومة الفلسطينية التي أدارتها ببراعة منظمة التحرير الفلسطينية بأنها إرهاب وتوارت حقيقة طرد شعب كامل من أرضه ودفعه إلي المنافي، لتحل محلها إحدي أكثر أساطير الصهيونية كذبًا ورواجًا؛ أعني أسطورة أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض. وفي ظل سماء ملغمة بالتضليل وقف ياسر عرفات بكوفيته الفلسطينية العتيقة يفند تاريخًا من الأكاذيب. كانت لهجة عرفات الواثقة، ونبرته العميقة لا توحي بصدق شخصي فحسب، بل بعدالة قضية. وعلي مدار خمسة آلاف كلمة حاول عرفات أن يقدم الرواية المهمشة التي تحكي قصة شعب مشرَّد. كانت عباراته تضفر خيوط الشعر والتأريخ، تمزج بين الحسم والمرونة، بين الحكي والتوصيف، وبين الإقناع والإيحاء. كانت كلماته مشبعة بكبرياء المناضل، وعزة الثائر. لم يتسرب إليها وهن لغة المنهزم، ولا مذلة لغة الضحية، ولم تطغ عليها خشونة المقاتل. كانت حججه تفند الأساطير التي تروجها آلة الإعلام الصهيوني الفتاكة، التي تُلبس الجزار رداء الضحية. فتسمي الأشياء بأسمائها، وتعري عن الوجوه الأقنعة. ومثل كل الخطابات الخالدة، كان الخطاب يعرض قضيته الخاصة- يتلفع بنزعة إنسانية شاملة. فالعبارات الافتتاحية الأولي من الخطاب والتي تمثل ما يزيد علي 15٪ من حجمه، كانت أشبه بمناشدة إنسانية لتحرير البشر من الاستعمار والقهر والهيمنة. وحين تحدث أخيرًا عن القضية الفلسطينية برر هذا بأن قضية فلسطين تدخل كجزء هام بين القضايا العادلة التي تناضل في سبيلها الشعوب التي تعاني الاستعمار والاضطهاد، وإذا كانت الفرصة قد أُتيحت لي أن أعرضها أمامكم فإنني لن أنسي أن مثل هذه الفرصة يجب أن تتاح لكل حركات التحرر المناضلة ضد العنصرية والاستعمار في تقرير مصيرها، أدعوكم أن تعيروا قضاياهم، كما قضيتنا، من همومكم واهتمامكم الأولوية ذاتها مما يشكل مرتكزاً أساسياً لحماية السلم في العالم وتكريس عالم جديد تعيش الشعوب في ظلاله بعيداً عن الاضطهاد والظلم والخوف والاستغلال، ولهذا فإنني سأعرض قضيتنا ضمن هذا الإطار وفي سبيل هذا الهدف. وهكذا لم يكن العالم يصغي إلي صوت فلسطين منفردًا وهو يعرض مآساته، بل يستمع إلي إنشاد لأجل مستقبل أفضل للبشرية جمعاء. أغصان الزيتون: حين يتجاوز الرمز حدود التاريخ كان خطاب عرفات تعرية لاستعمار استيطاني أجاد الاختفاء وراء غيوم التضليل. وكانت شجرة الزيتون العتيقة حاضرة بقوة في مشهد الخطاب. فقد كانت مفتتح حديث تفصيلي عن جرائم الصهاينة في الأرض المقدسة الذين اوصل إرهابهم إلي الحقد حتي علي شجرة الزيتون في بلادي التي اعتبروها علماً شامخاً يذكرهم بسكان البلاد الأصليين، يصرخ: إن الأرض فلسطينية، فراحوا يعملون علي اقتلاعها أو قتلها بالإهمال والتحطيب. ماذا يمكن أن يسمي تصريح غولدا مئير عندما عبرت عن قلقها من الأطفال الفلسطينيين الذين يولدون كل صباح. إنهم يرون في الطفل الفلسطيني والشجرة الفلسطينية عدواً يجب التخلص منه (..) طيلة عشرات السنين وهم يتعقبون قيادات شعبنا الثقافية والسياسية والاجتماعية والفنية بالإرهاب والتقتيل والاغتيال والتشريد. لقد سرقوا تراثنا الحضاري، وفولكلورنا الشعبي وادعوه لهم، ومدوا إرهابهم إلي مقدساتنا في مدينة السلام، القدس الحبيبة، وعمدوا إلي إفقادها طابعها العربي المسيحي الإسلامي من خلال تهجير سكانها وضمها لدولتهم. ولا حاجة لان نسترسل في ذكر حرق المسجد الأقصي، وسرقة ثروات كنيسة القيامة، والتشويه الذي لحق بعمرانها وطابعها الحضاري. كان الحضور الثاني للشجرة المقدسة في ساحة الخطاب هو الأكثر خلودًا في الذاكرة الإنسانية جمعاء القد جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي. لكن يد عرفات الممدودة بالسلام لم تجد في يد الأعداء إلا نصال السكاكين. كما كان طول الاستسلام لألاعيب السلام، سببًا في جفاف غصن الزيتون الأخضر وصدأ البندقية. فعاد المناضل خالي الوفاض من الحلم والإمكانية. وبعد ما يقرب من أربعين عامًا كان العالم علي موعد مع خطاب آخر، لزعيم فلسطيني آخر، وعلي الرغم من تغير الشخوص والزمان، بدا أن الأزمة لم تراوح مكانها. ولعل هذا ما جعل استحضار الخطاب الأول داخل الخطاب الثاني أمرًا طبيعيًا ومتوقعًا. خطاب أبو مازن: مواجهة سياسة التهام الأيدي الممدودة للسلام في العام 1974 جاء إلي هذه القاعة قائدنا الراحل ياسر عرفات، وأكد لأعضاء الجمعية العامة سعينا الأكيد نحو السلام، مناشداً الأممالمتحدة إحقاق الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني قائلاً: لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. لا تسقطوا الغصن الأخضر . هكذا استعاد محمود عباس في خطابه الأسبوع الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خطاب عرفات في نفس المكان قبل 38 عامًا. وبمثل ما حفر خطاب عرفات لنفسه في ذاكرة الإنسانية موقعًا، سوف يسطر خطاب عباس الكثير من المداد في كتب التاريخ القادمة. فعلي الرغم من فروق الزمان والمكان والظروف فقد حمل الخطابان سمات بلاغية متقاربة. وقدم كلاهما نموذجًا في بلاغة التحدي والمقاومة. كان خطاب عرفات يحاول كسر قيد التاريخ المزيف الذي اخترعته آلة الدعاية الصهيونية، أما محمود عباس فيحاول تمزيق قناع السلام الذي تخفي وراءه إسرائيل مطامعها واحتلالها. وهكذا كان التاريخ الحقيقي عماد خطاب عرفات في حين كانت وقائع الحاضر هي عماد خطاب عباس. وبقدر ما اقترن نجاح خطاب عرفات ببناء رواية أكثر مصداقية لتاريخ النكبة، اقترن نجاح خطاب عباس بإبراز الرواية الأكثر مصداقية لواقع مناورات السلام. وبقدر ما استطاع خطاب أبو عمار تعرية الوجه القبيح للصهيونية والاحتلال، استطاع خطاب أبو مازن كشف ألاعيب التسويف والمناورة الإسرائيلية، وتجسيد فظائع الاحتلال وفضح غايات الاستيطان. في كثير من الأحيان حين يبلغ الظلم الاجتماعي المدي، لا يكفي المتكلم حشد البراهين للتدليل علي ظلم، عادة ما يكون أوضح للناظر من وضوح الشمس الصيفية في فضاء الصحراء، بل يحتاج إلي مخاطبة عواطف المستمعين، ليمس مشاعر إنسانية عامة، لم تزيفها المصالح أو التحالفات. وفي فقرة طويلة من فقرات خطاب أبو مازن استطاع بكلمات مقطرة أن يجسد مأساة شعب يعيش بين أنياب الاحتلال. جئتكم اليوم من الأرض المقدسة، أرض فلسطين، أرض الرسالات السماوية، مسري النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) ومهد سيدنا المسيح عليه السلام، لأتحدث باسم أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن وفي الشتات، لأقول: بعد 63 عاماً من عذابات النكبة المستمرة: كفي..كفي.. كفي. آن الأوان أن ينال الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله، حان الوقت أن تنتهي معاناة ومحنة ملايين اللاجئين الفلسطينيين في الوطن والشتات، وأن ينتهي تشريدهم وأن ينالوا حقوقهم، ومنهم من أجبر علي اللجوء أكثر من مرة في أماكن مختلفة من العالم. وفي وقت تؤكد الشعوب العربية سعيها للديمقراطية فيما عرف بالربيع العربي، فقد دقت أيضا ساعة الربيع الفلسطيني، ساعة الاستقلال. حان الوقت أن يتمكن رجالنا ونساؤنا وأطفالنا من أن يعيشوا حياة طبيعية، أن يتمكنوا من الخلود إلي النوم دون انتظار الأسوأ في اليوم التالي، أن تطمئن الأمهات إلي أن أبناءهن سيعودون إلي البيوت دون أن يتعرضوا للقتل أو الاعتقال أو الإهانة، أن يتمكن التلاميذ والطلبة من الذهاب إلي مدارسهم وجامعاتهم دون حواجز تعيقهم، حان الوقت كي يتمكن المرضي من الوصول بصورة طبيعية إلي المستشفيات، وأن يتمكن مزارعونا من الاعتناء بأرضهم الطيبة دون خوف من احتلال يصادرها وينهب مياهها، وجدار يمنع الوصول إليها، أو مستوطنين، ومعهم كلابهم، يبنون فوقها بيوتا لهم، ويقتلعون ويحرقون أشجار الزيتون المعمرة فيها منذ مئات السنين. حان الوقت لكي ينطلق آلاف من أسري الحرية من سجونهم ليعودوا إلي أسَرهم والي أطفالهم ليسهموا في بناء وطنهم الذي ضحوا من أجل حريته. إن شعبي يريد ممارسة حقه في التمتع بوقائع حياة عادية كغيره من أبناء البشر، وهو يؤمن بما قاله شاعرنا الكبير محمود درويش: واقفون هنا، قاعدون هنا، دائمون هنا، خالدون هنا، ولنا هدف واحد.. واحد.. واحد.. أن نكون.. وسنكون. هذه العبارات التي تصف جوع شعب لحياة آدمية، صيغت برهافة بالغة، لتكشف معاناة يومية لشعب بأكمله. وقد جاءت العبارات البسيطة عادية متخففة من المجاز لتوازي شكل الحياة البسيطة الآدمية التي يحلم بها الفلسطينيون. وإذا كان التصفيق هو العلامة الأبرز علي التأييد والاستحسان والمؤازرة في الخطب السياسية فإن تصفيق أعضاء الجمعية العمومية العاصف لهذه الفقرات أبرز رمز لمساندة حقوق شعب فلسطين في لحظة عارية من المصالح والمؤامرات. لكن التصفيق للكلام لا يستعيد حقوقًا ولا يرفع ضيمًا، وهكذا جاءت عبارة عباس قبيل خاتمة خطابه محفزة علي الفعل الذي تتطلبه المعرفة؛ إنها لحظة الحقيقة، وشعبنا ينتظر أن يسمع الجواب من العالم. ما بين التصفيق علي الكلام الطيب البليغ، واتخاذ أفعال مادية ملموسة لإزالة العدوان ثمة فجوات ومسافات. فقوة الكلمات لا تكمن في بلاغة الصياغة أو صدق المحتوي فحسب، بل في القوة المادية الفعلية التي تساندها. لقد كانت قوة كلمات عرفات محمية بظلال بنادق المقاومة، وتكتل العرب خلف قضيتهم العادلة. وكان غصن الزيتون أخضر في يده لأن أرض فلسطين لم يكن قد لوثها الاقتتال الداخلي، ولا حرقها لهيب المصالح المذهبية والفئوية والفردية. ثمَّ أتي حين من الدهر رفع الفلسطيني بندقيته في وجه الفلسطيني وأطلق النيران؛ فخسر الجميع قوة الكلمة، وهرست ثيران الاحتلال العمياء أغصان الزيتون. ولكي يتحول التصفيق إلي أفعال لابد أن نستجمع عربًا وفلسطينيين- قوتنا، التي تبدأ بالمعرفة ولا تتوقف عند الديمقراطية. ولكي يكون للكلمة ثقل، لابد أن يكون هناك دومًا خيارات أخري، متاحة حين توصد كل السبل أمام الأيدي الممدودة للسلام. خيارات لا تتوقف عند مقاومة اغتصاب الحق، بل تطمح لاسترداد ما سلبه الطغيان.