عندما وصل إلي السبعين، أعلن الروائي الراحل خيري شلبي، في حوار أجراه معه الصديق محمد شعير أنه يتهيأ لكتابة مختلفة تمام الاختلاف، عمّا كتبه سابقاً. "أشعر بأن ما كتبته قبلاً لم يكن إلاّ نوعاً من التدريبات المهنية، أخطط لكتابة مختصرة، وبسيطة، وأكثر غني من السابق، كتابة من علو". يحتاج مثل هذا التصريح، إلي شجاعة كبيرة وروح شابة لم يخضعها الزمن أو يروضها. وقتها بدا كأنما يرغب في "ثورة" ما علي ذاته وطريقته في الكتابة، كأنه يتمرد علي ما اعتاده قراؤه منه. خيري شلبي، بكلماته هو في الحوار نفسه، لا يلائمه كبر السن. وبكلماتنا، لا يلائمه الموت. فابن الحياة والواقع الحي المتفجر صخباً لا يلائمه سوي تشّرب الحياة والمشاكسة حتي الرمق الأخير. "أن تعيش لتحكي" العنوان الشهير لسيرة ماركيز ينطبق تماماً علي الحكاء المصري البارع وريث الحكائين الشعبيين ورواة الملاحم في ربوع مصر. عاش صاحب "وكالة عطية" للكتابة وبها، لم يفصلها عن حياته، ولم ينفصل من أجلها عن العوالم التحتية التي خبرها وصورها في أعماله. معه تنزاح الحدود بين الحياة والكتابة وتتلاشي، بين اللغة الفصحي الرصينة والعامية البليغة في قدرتها التعبيرية. بتدفق الحكي الشفاهي وغزارته وحيويته كتب خيري شلبي روياته، وبمشهدية السرد الروائي وتشويقه اعتاد أن يتكلم. الحديث معه، يفتح أبواباً مغلقة ويكشف عن حكايات منسية من تاريخنا اللا رسمي، تاريخ الهامشيين، والصعاليك. يتكلم فيفاجئنا بما لم نكن نعرفه. موسوعة شاملة وذاكرة فوتوغرافية لا تغفل حتي أبسط التفاصيل في تاريخنا السياسي والفني والثقافي. أهاتفه، بالصدفة، يوم رحيل سعاد محمد فيحكي لي من تفاصيل حياتها ما لا يعرفه الكثيرون، يؤكد إن ابنتها امتلكت صوتاً جميلاً هي الأخري لكنّ النجاح خاصمها. أسافر معه للمشاركة في مؤتمر أدبي، فأتعرف علي جانب جديد في شخصيته هو تبحره في التراث الصوفي. بفضله أصبح ابن عربي رفيقاً لمجموعة الكتّاب المصريين طوال أيام المؤتمر، وأصبح الفولكلور المصري، بمعناه الأغني، حاضراً بينهم بقوة. هذه الثقافة الموسوعية، إضافة إلي حضوره الإنساني المميز، هي أكثر ما سنفتقده برحيل خيري شلبي. فالأعمال الأدبية، لحسن الحظ، تظل موجودة بعد رحيل أصحابها. لكنّ الذكريات والتفاصيل والثقافة الحياتية الهائلة تتحول إلي كنز ضائع يخلّف فراغاً كبيراً. عاش خيري شلبي معظم حياته في المدينة، وتعرّف أكثر من غيره، علي وجوهها المتنوعة والثرية، بل والمتناقضة. عايش سكان المقابر، ومن يكافحون كل ليلة بحثاً عن مكان للمبيت، و"الأوباش"، والصعاليك. واقترب من أرفع الشخصيات الثقافية والفنية بوصفه واحداً منهم، لكنه احتفظ، دائماً، من الريف بطيبة أبنائه الممتزجة بالمكر الجميل الذي يحميهم من "الشراك" المنصوبة هنا وهناك. وفي هذا، ربما يكون أحد الكتاب المصريين القلائل، الذين خبروا عالميّ الريف والمدينة بالقدر نفسه من العمق. وداعاً خيري شلبي.. ابن الحياة وراويها.