علي مدي ما يزيد علي الأربعمائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط، يدخلك فواز حداد إلي عالم يفوق ما أبدع السرياليون علي مرّ العقود، عالم واقعي كلنا شهود عليه، مازال يتخلّق في لحظتنا الراهنة، يسمّرنا أمام شاشات التلفزيون، حتي صارت مشاهد القتل والدم المسفوح والأجساد المقطعة، والأعضاء المتناثرة، وكل مشاهد التوحّش البشري، منظراً طوّرنا في دواخلنا حصانة ضدّه. لكن رواية "جنود الله" تعيدنا إلي قلقنا الإنساني، إلي غضبنا، إلي حزننا، إلي نقمتنا، إلي ذاكرتنا التي حاولنا تعطيلها بتواطؤ مع لا شعورنا. تستفز رواية "جنود الله" القارئ ابتداء من غلافها، أشجار عارية تنتصب سيقانها الملتحمة في الأسفل بجذور مندغمة فوق أرضية سوداء، هي القاعدة، ورؤوسها ذات الأغصان العارية الجافة، المتجهة كلها إلي الأمام، وكأنها مدفوعة بريح عاتية من الخلف، في فراغ ضبابي كالح، توحي بصف من الجنود. غلاف يرمز إلي جنود الله، الذين هم عناصر القاعدة. "جنود الله" رواية بثلاثة أجزاء، كل جزء يحمل عنواناً، ويوزع علي عدة مقاطع، ويستهلّه الكاتب بمقدمة لها علاقة بالذاكرة التي شكّلت مسألة مهمة، وحاملاّ أساسياً للسرد. الجزء الأول تحت عنوان : "طريق آخر إلي الجنة"، تنهض شخصيات الرواية فيه بأريحية، حتي ليشعر القارئ أنه يواكبها في مراحلها العمرية، ويعيش معها الأماني والأحلام والطموحات، ثم الألم والخيبات، لتشكل الأحداث فيها من خلال السرد الحاضر، والقص الرجعي الأرضية الأساسية للحكاية. يبدأ السرد بوصول رجل مصاب عائد من بغداد إلي دمشق في صندوق سيارة بيك آب بيضاء عتيقة، مجهزة بأدوات ومواد إسعافية. حيث تجتاز السيارة الشوارع مغادرة بغداد في طريقها إلي الحدود السورية. هو أبٌ عائدٌ من رحلة البحث عن ابنه الشاب الذي التحق بجماعة القاعدة في العراق، ويقدم لنا مدخلاً إلي ما سوف يشغل الرواية من مشاهد فظيعة للموت الجماعي والفردي. يدخل دمشق معطّل الذاكرة لأن النسيان "أدعي إلي الأمان لا الاطمئنان"، فما شاهده في العراق من مشاهد الموت كان أفظع من احتمال البشر: "بينما من الفتحة المكشوفة في مؤخرة السيارة، تتتالي لافتات النعي دون انقطاع... أموات علي مدّ النظر، كلّ منهم يحمل لقب شهيد... نحن في بلد الشهداء". لم يتذكر من بين الوجوه التي زارته غير "حسان" رفيق الدراسة والنضال والخيبات، الذي يخبره بملخص عن محنته "اختطفت من مقهي في شارع الرشيد، اقتادني مسلحون إلي جهة مجهولة، اختفت أخباري بعدها، لم يطالب أحد بفدية، أو يظهر وسيط، ولم يتمكن أحد من معرفة مكاني، إلي أن دهمت القوات الأمريكية موقعاً في محافظة الرمادي، تعرفوا إليّ من خلال صورة لي". يبدأ القص الرجعي عن بداياته مع حسان، فهما ينتميان إلي الجيل الخائب، الذي كان يحلم بتحرير الأراضي المغتصبة،"الحرب انطلقت، لكن وقف إطلاق النار أحبط الآمال... وتأجل التحرير إلي أجل غير معلوم" و "الانتقادات التي وجهت للسلام الذي بات استسلاماً" دفعت بهذا الجيل إلي التعلق برموز أخري، وصار لهم تطلعاتهم الثورية، فاستأثرت ثورة أكتوبر بخيالاتهم الحالمة. لكن المتغيرات الكبري أخذت مجراها: انهيار جدار برلين، انفراط عقد دول الاشتراكيات الأوربية، تفكك الاتحاد السوفييتي، وانتصرت الثورة المضادة انتصاراً ساحقاً. لم يبقَ لهم سوي إنقاذ ما تبقي من قضيتهم المثالية: العدالة وتحرير الإنسان، فيبدو الرجل كما لو كان يجري جرد حسابات مع الماضي. في الجزء الثاني من الرواية، تحت عنوان "رسائل من بغداد"، تتدفق الذاكرة عند الأب المصاب المنهك العائد من بغداد. كانت الرسائل التي أرسلها إلي سناء من العراق هي مفتاح الذاكرة، فقد غادرها علي أمل العودة لاستكمال تدابير الزواج، ليكتشف هناك بأنها حامل، وتريد الاحتفاظ بالجنين، وهي حريصة علي أن يكون له أب أيضاً، فطال غيابه في رحلة البحث عن ابنه سامر في بلد الموت. يبدو الوصف المشهدي دقيقاً وعالياً في هذا الجزء، وصف للأمكنة والأحداث، والقتل، يدفعك إلي قلب الحدث، لترغب بتعطيل ذاكرتك كما حدث للأب الخائب. لم يبق أمام الأب إلا أن يبيع نفسه لجماعة القاعدة، آملاّ أن يستطيع الوصول إلي ابنه، وتبدأ المغامرة الكبري في الجزء الثالث "حافة الجحيم": سامر ابنه صار اسمه "عبد الله السوري" وهو يشغل مركزاً قيادياً في الجماعة، وهو "داعية الانتحار، يبيع أحلام القصور والحور العين مقابل الأجساد والأرواح ووهم عالم جميل مجهول، هو الفناء ليس غير". كان قد دار حوار بين الأب والزرقاوي، يخبره الزرقاوي فيه بأنهم يخوضون معركتهم مع الشيطان الأكبر، وأنهم لن يتوقفوا بعد أن يهزموهم في العراق، سيذهبون لتحرير سوريا والأردن ومصر من الطغاة، ثم سينطلقون إلي القدس فاتحين. يبدأ الصراع بين الأب وابنه، يتكشف من خلاله البون الشاسع بين مفاهيمهما عن قضايا أساسية في الحياة، الله، الدين، الإيمان، الجهاد، حتي النظرة إلي الحياة. كان الأب ينتمي إلي جيل الهزيمة، جيل انهيار الرموز والقيم، الذي كان يتردد في باله صدي الفكر الغربي الذي تحكمه فلسفة قائمة علي موت الله، وأن فكرة الإله هي فكرة بالية بلا جدوي، تجاوزها عالم تحكمه الحتمية وتتلاعب به المصادفات، وجاءت كل تلك الخسارات، لتترك خلفها ذلك الفراغ المريع، يستدرج الدين ليملأه ويرسم تصوراً للعالم، ويتبناه جيل الأبناء، جيل التدين والصحوة الإسلامية والجماعات المتطرفة. حتي إن الابن يدين أباه: "لا تهددني بأبوتك. أنت ترتع في جهلك" ثم: "سأقولها لك، اسمعها مني: أنت ملحد". ويخبره : "نحن نخوض معارك الله علي الأرض.. معارك الحق والإيمان... نحن جنود الله، وموعدنا الجنة إن شاء الله". لا يستطيع الأب ثني الابن عن هدفه، يصاب بخيبة فظيعة : "بكل مرارة تنبهت إلي نفسي، أنا الأب المجنون، أتمني الموت لولدي، هذا الذي تمنيت أن أمنحه حياتي". ثم أخيراً: "كنت الخاسر الأكبر والمهزوم الأوحد. لم يعد ابني نقيضاً لي، بل صار عدوي". هذه هي رواية جنود الله، راوٍ وحيد، يتنقل بين مستويات سرد عديدة، بين ماضٍ مستذكر، وحاضرٍ في الماضي، وماض يستدرج إلي الحاضر، دائرة سرد تكثف الزمن والأحداث فيها، أمكنة واقعية، تمنحها الأحداث شكلاً غرائبياً، فتودي بنا مجتمعة إلي فضاء كبير مخيف، يدفع إلي الجنون، فضاء العراق بما آلت إليه، وفضاء محتمل لأي بلد عربي آخر.