كدت أن أتركه لولا قبضة يده المتشبثة. التصقت أصابعه برسغي وشدتني لأسفل فجلست. غرفته مقبضة الرائحة أعلي سطح منزل من ثلاثة طوابق. طلاؤها ملصقات بألوان بهتت من تبدل الفصول: ممثلات أجنبيات وعربيات، ولوحة لطفل جميل يحدق للأمام وبعينيه الدامعتين حزن آسر. خلف شباك السرير الخشبي الذي يحتل نصف الحجرة صورة لجيفارا بخلفية حمراء، والسيجار الكوبي في فمه. أسفلها صورة جماعية للنادي الأهلي أمامه إحدي دروع الدوري. كان جالسا علي طرف السرير. في عينيه إعياء الجوع وحدة نظرته. وجهه الأسمر الهزيل كأنما هو بذلة عتيقة لا تصلح معها المكواة. قال مطوحا يده اليسري في الهواء بنشاط مفاجئ:- - لن أسكت. ومثل الأفكار الكاذبة التي تهاجمك لحظات مثل الرعد لكن دون أمطار لم أستطع الإمساك بشيء محدد في تهديده. لن يسكت لمن؟ كثيرون هم الذين أصبحوا خارج ضفاف قلبه الشحيحة. أحسست بالخواء، وتيبس حلقي في هواء الحجرة الساكن. وقفت وخطوت بضع خطوت لأعطي نفسي فرصة للخروج مع تمهيد مناسب؛ محاولاً تفادي كتبه وأوانيه، وأشياءه البسيطة التي تتراص في فوضي حول السرير. كنت أشك في عدم جدوي الزيارة وانتظر خيطاً لأتشبث به للهرب؛ قلت:- - أنا معك. قال:- - فعلا؟ أومأت برأسي لأعلي ولأسفل ببطء. سلط عينيه في وجهي الذي أشعلته سخونة النظرة.. - لست محتاجا لأحد منكم ينقذني من الموت. إما أن تنطق بلسانك وتكون معي فعلا، وإلا فلا تهز لي رأسك مثل أفعي تراوغ قبل أن تنقض. أشعل سيجارة أخيرة من علبته فارتفع دخانها وامتزج بدخان المدينة العجوز. لن أحتاج إلي النظر في تلك الوحوش الدخانية المتصارعة، والتي تملأ سقف المدينة لأتأكد من التهديد المريع بالفناء. قلت:- - لا ترسل ما تكتبه إلي الجريدة مرة أخري فهذا يورطك ويورطنا باعتبارنا أصدقاء. أقصد في الوقت الحالي؛ لأن التحالفات تتغير وما ستحتاجه سندبره لك. كان جلد وجهه قد بدأ ينتفض من سباته، فتراجعت محافظا علي مسافة الأمان.. - هذه الأيام صعب أن تمنح نفسك لأحد أو لفكرة بشكل كلي، رأسك هذا قنبلة وسيفجرك أنت وحدك. صرخ:- - يا كلاب، تؤمنون بما أقول في السر، وقد كنا شركاء في صنع مستقبلنا وتنكرونني أمام الجميع! - يا صديقي أنت لست المسيح.. لقد عملت أول ما جئت هنا مهناً عديدة؛ نقاشا وساعياً، ولفظتني هذه الأعمال كطعام كريه الرائحة، ثم عملت مراسلا للصحيفة قبل أن أصبح كاتباً بها. وجدت الفرصة التي جئت لأجلها أنا وأنت. باختصار أرسلني باقي الأصدقاء في محاولة أخيرة لتليين هذا الرأس حتي تعبر العاصفة. قال:- - لم يعد ممكنا أن تظل علاقاتنا هكذا، إما أن تكونوا معي وإما لا يريني أحد منكم وجهه؛ أما العاصفة فستستمر طالما أنكم تنحنون. - ما تقوله لن يفيدك ولن يغير في واقع الأمر شيئا. - ماذا تريدون مني أن أقول، ما تقولونه أنتم ؟ من نفس الظروف خرجنا، وكنا جيران هنا لكنك طعنتني بخنجر التجاهل؛ لذلك اختاروك لتكون الطعم حتي أُسلّم، ونصير جميعا أسماك شهية في بطن الحوت. بحركة مباغتة أمسكني من ياقة القميص متجها إلي الشباك. قبض عنقي من الخلف بحركة لا تتوائم مع ضعفه البادي علي جسده، وألقي برأسي وكتفي خارج الشباك فصرت مقلوبا كخفاش نائم؛ وهو يمسك بي من الخلف:- أنظر للعفن الذي أعيش فيه، أنسيت. كان صراخي يخرج ضعيفا ويجرح حنجرتي. جدفت بيدي لأصعد مرة أخري. سحبني بقوة فانطرحت علي الأرض، وقمت مفزوعاً. انطلقت قافزاً إلي الباب. فتحته وجريت وأنا أرهف أذني مفتتاً الصخب الذي ملأهما لأي دبيب يتبعني. لعله يأتي ورائي ويمارس جنون الانتقام الذي فاجأني به الآن. ذبت في كتلة الظلام علي السلالم. انفرط الظلام مرة أخري علي الرصيف، ونظرت للخلف ولأعلي فلم أر إلا ظلالاً شاحبة وراء النوافذ المغلقة وفي شباكه الموارب، وبعض النجوم التي تنبض في السماء البعيدة. أحسست أنه ربما يراقبني، وأن عينيه تخترق الفراغ لتمسك بي؛ فأسرعت خطاي مرة أخري. دببت بقدمين راسختين متخلصاً من رعشتهما، حين ولجت الشارع الرئيسي المزدحم في ذلك الحي الشعبي. علي أرض الرصيف تفاديت العربات الرامحة، وعيون الغرباء التي تصطدم ببعضها للحظات لتفتش عن شيء تائه. لن أعاود زيارته مرة أخري وإن راهنوا علي قدرة صداقتي معه في فعل المستحيل. ألم نترك بلدتنا الصغيرة ونأتي إلي هنا إلا لنبحث عن ثقب إبرة ننبعث منه إلي العالم؟ أراه الآن يعاود النظر، مثل زمان حين كنا معا، إلي وجه المدينة الغارق في ضباب أسود، ومساحيق مبتذلة. بالرغم من ذلك يحملها كطفل يتيم في قلبه. جربت مرة أن أبصق عليها، قال لي: " لن أسامحك، أبصق في أي اتجاه إلا هنا في الأسفل؛ فهؤلاء لا يتحملون لعنة أخري " قد يعاود النوم ملفوفاً في بطانيته القديمة. سيستيقظ اثر كابوس سببته الذكريات أو الأمعاء الخاوية. سيفتش في كتبه وأوراقه وأشعاره التي لم تعد تصلح إلا للإيمان السري عن يقين الارتواء. لن يجد حتماً إلا الكلمات التي مزقتنا وشتتتنا في كل النواحي إلا باتجاه اليقين. قد يدفن نفسه حتي الصباح بين أكداس فوضاه العارمة. ربما يستعيد قليلاً من عقل التخاذل ليندم علي قذفه المال الذي أعطيته. قلبي معلق بمأساته ولا أستطيع أن أحمل إلا عبء نفسي هنا. سأفكر حتي يأتي الصباح الذي نكرهه؛ لأنه يأتي كل مرة بما هو أسوأ... الصباح لم يأت بعد. اتصلت الشرطة بمدير التحرير فور إبلاغهم بالحادث، ثم جئ بنا.. كان رأسه المستطيل الذي لم تفلح معاولنا في حرثه ليصبح أرضاً خصبة هنا قد تهشم، أما جسده فكان ملتوياً، ودمه.. دمه الذي شعرنا باتقاده ونحن حوله، مثل حر المدينة ساعة الذروة. كنا وسط دائرة كبيرة من البشر الذين تجمعوا.. أنكرت معرفته أمام الضابط، وأنكرت أنني كنت آخر من رآه مرات عديدة قبل أن يصيح الديك.