ما أحوج مصر اليوم لأمثال نصر حامد أبو زيد، مصر التي تتهدد ثورتها من طرفين: الأول، بقايا النظام الذي خلعته الثورة، والذي يتمثل بأشخاص وبني اجتماعية وفكرية ومصالح ووسائل هيمنة... والثاني، التيارات الدينية المتشددة التي لا تنتمي، أبداً، إلي روح ثورة 25 يناير بل تنتمي إلي الماضي. فهذه الثورة تطمح لوضع مصر علي طريق التنمية وبناء الدولة التي تمثل المجتمع بكل أطيافه الدينية والاجتماعية والسياسية. في حين أن بقايا النظام والتيارات الدينية المتشددة، تريد إجهاض الثورة والعودة بمصر إلي دولة الاستبداد وإقصاء المخالف والهيمنة... في مرحلة كهذه، ما كان أحوج مصر لأمثال نصر حامد أبو زيد، الذي مثل رمزاً كبيراً لروح هذه الثورة، فقد كان مثال المفكر الذي واجه استبداد النظام البائد بدءا بموقفه من كامب ديفيد واعتراضه المعلن علي سياسات الإفقار والتبعية وتزوير إرادة الناس، وتسليط الضوء علي تحالف التيار الديني مع السلطة، مما أوصله إلي المحكمة التي أصدرت حكماً لم يكن النظام بعيداً عن إصداره إرضاءً لحلفائه من التيارات الدينية البائسة، وإقفالاً لباب حرية التفكير والإبداع، هذه الحرية التي طالب نصر حامد أبو زيد بها، وأمضي حياته مدافعاً عنها، وعن حق كل مواطن في التعبير عن رأيه من دون ضغط أو إكراه. اليوم تسعي قوي الثورة الحقيقية في مصر لتأكيد أن حق الإيمان والاعتقاد يجب أن يكون مكفولاً لكل مواطن مصري، وتأكيد أن هذا الحق لا يتماشي مع ممارسة أي نوع من أنواع الإكراه علي الذين يخالفون عقيدة هذا الدين أو ذاك. وتأكيد أن العقيدة الدينية ليست أبداً دوغما تنكر علي المخالف حقه في اختيار عقيدة أخري وتطالب بإخضاعه لقوانين فوق المجتمع. اليوم في مصر الثورة، تتصارع الخطابات، وهذه الخطابات تعبر عن قوي سياسية، ومن بين هذه الخطابات الخطاب الديني، وعلي الرغم من تلك الوحدة الوطنية الرائعة التي تمثلت في الثورة، يعود مرة أخري الخطاب الديني ليقدم نفسه ناطقاً باسم كل الشعب المصري، ولا يعترف باختلاف الآراء والطموحات والنظرة لبناء الدولة والمجتمع. فهذا الخطاب ينبني علي شعارات مثل: الشعب المصري شعب متدين بفطرته (أو بطبيعته)، الشعب المصري يرفض العلمانية والليبرالية، الشعب المصري يرفض الغرب وأفكاره... إلي آخر هذه الشعارات. وهكذا نجد أن هذا التيار بتعدد أحزابه وخاصة المتشدد منها، يتصرف علي أنه ممثل الشعب المصري، وممثل الإسلام، وممثل الشريعة... فيصادر حق غيره، حتي الحق في الاختلاف أو المعارضة الذي كان أساس ثورة 25 يناير التي أطلقتها مجموعات من الشباب يدفعهم التوق إلي الحرية واختلاف الآراء والاجتهادات، وحق العمل والحياة الكريمة... بما يؤسس لدولة تتغير وفق تغير وجهات نظر وآراء المواطنين المعبّر عنهم بالقوي الاجتماعية وتمثيلاتها السياسية، وليس، أبداً، الدينية. لهذه الأسباب، ولأن الثورة مهددة بمنطق الدوغما والعقيدة المغلقة، وهو منطق مقفل، بل هو أشد استبدادية من صنوه البائد، ما أحوج مصر الآن لأمثال نصر حامد أبو زيد الذي واجه، وبأكبر شجاعة، هذا الخطاب الذي يدعي لنفسه امتلاك الحقيقة وتمثيل الشعب والمجتمع. إنه خطاب باسم الحقيقة المطلقة، يعتبر من يخالفه في الرأي أو في الدين خارجا علي الملة ويجب تكفيره، وقد حصل ذلك في عهد مبارك مع نصر حامد أبو زيد، وهو يحصل اليوم بواسطة القوة والعنف في مدن مصر وأريافها. إنها عملية فرض للرأي تتم بواسطة اللحية والسبحة واللباس والتخويف من عذاب الآخرة، بقدر ما تتم بواسطة الأموال التي تتدفق علي شكل مساعدات ومنح تعليم ووظائف ومراكز إعانة وطبابة... مما يؤثر علي رأي المواطن العادي الذي يسير خلف هذه المنافع المغلفة بمساعدة الأخ لأخيه، في حين أنها تجعله تابعاً محتاجاً لهؤلاء الذين يساعدونه باسم الدين وكل همهم أن ينتخب لصالح أولئك الذين تميزهم لحاهم ولباسهم وليس أفكارهم حول التنمية والمستقبل. ما أحوج مصر اليوم لأمثال نصر حامد أبو زيد لأن ما يحصل يؤسس للمرحلة الأخطر، وهي مرحلة مواجهة التشدد بالتشدد، وهكذا لا يعود التشدد ميزة لتيارات إسلامية فقط بل هو صفة أيضاً لتيارات مسيحية متشددة، بل وأيضاً تيارات علمانية وليبرالية وإشتراكية... متشددة. وهذا هو الخطر الأكبر علي تلك الثورة التي لا زالت مدفوعة بحلم بناء دولة المواطن الذي اندفع للمساهمة فيها بروح من الوحدة الوطنية لا مثيل لها. علي مدي عقود ظل نصر حامد أبو زيد في الواجهة مدافعاً عن البحث العلمي والمعرفي عاملاً الكشف عن عقم الخطاب الدوغمائي ولم يتراجع أمام الضغوط الكبيرة والقاسية التي تعرض لها، وما أوهنت همته الإغراءات الكثيرة، ولا أضعفت ثباته علي قناعاته واستقلاليته وحريته في التفكير. بل ظل متفائلاً بأن هذا الليل الطويل سينجلي، وقد أطلت بشائره ونصر غائب عنّا. لقد كتبت في مقدمة آخر كتاب نشرته لنصر أبو زيد "التجديد والتحريم والتأويل" مشيراً إلي أن كل هواجسه كانت منصبة علي مصر، كان يفكر بقضايا نظرية أو اجتهادية أو بحثية، ومصر هي النموذج الذي في باله، معتبراً أن مصر يجب أن تتغير، وأن تغيّر مصر سيقود العالم العربي بكامله، وسيترك تأثيراً كبيراً في إفريقيا المنهوبة، بل لدي كل شعوب العالم المقهور . ها هي الذكري الأولي لوفاة نصر أبو زيد، وفي هذه الذكري أقو ل لك يا صديقي، نعم إن مصر بدأت هذه المرحلة، وأن مصر، مصرك، مصرنا، فتحت لنا باب الأمل، وحققت ثورتها. ونحن ننتظر أن تسير علي طريق التقدم والحياة الكريمة وبناء الروح الإنسانية الخلاقة مدافعة عن الحق الفلسطيني والحق العربي في مواجهة أشرس أنواع القهر الذي تمثله إسرائيل.