يري هاينز يواكيم فيشر أن غياب الروح التنويرية العقلانية هو العقبة الأولي زمام الحوار الإسلامي المسيحي، ويؤكد أن مشكلة الإسلام والمسيحية واحدة. يسائل رابطة العالم الإسلامي (تأسست في سبتمبر 1969) عما يمنعها أن تكون "فاتيكان الإسلام" أو مرجعية للمسلمين، يدين اكتفاء البابوات المتعاقبين خلال سبعين عاما ببث "إشارات ودية" في خطاباتهم تناسب الصور الإكليشيه المشوشة التي ألفوها عن الإسلام، يراجع معطيات التاريخ ليؤكد أن مشكلة الإسلام والمسيحية واحدة، هي الافتقار إلي نظام عقيدة فلسفي لاهوتي يمكن محاججته علي نحو ما فعله سبينوزا في اليهودية، والنتيجة حروب صليبية من جهة.. يقابلها جهاد مقدس! من المجحف أن تقتصر قراءة هذا الكتاب علي كونه أول بحث تحليلي متكامل للخطبة الأزمة للبابا بينيديكت السادس عشر - تداول اعتبارها حملة صليبية ثالثة - وتقييم ما أثارته وقتها في 2006 من موجة غضب واسعة في العالم الإسلامي يصفها المؤلف اليوم بعبارات "لهيب جهنمي ورياح عاتية ومعزوفة قلق متضخمة"، ذلك لأن الصحفي الألماني هاينز يواكيم فيشر في كتابه "بين روما ومكة.. البابوات والإسلام" يناقش قضية حوار الأديان بموضوعية وعمق يتجاوزان أحداث بعينها إلي القوة التفجيرية الكامنة وراء الأسئلة والأجوبة. من هنا بدا موضوع الكتاب آني بل موضوع الساعة بامتياز. حين يطلب المؤلف تجرع كلمات بابا الفاتيكان بأن النبي محمد صلي الله عليه وسلم لا إنساني وداعي للإسلام بحد السيف كالدواء المر لكنه شاف في رسم "خارطة طريق" للحوار لا يبدو متناقضا مع ذاته وهو يري هذه الكلمات في نفس الوقت "حشوا زائدا كالورم"، والسبب أن فيشر يسخر في الكتاب - صدرت ترجمته عن مشروع كلمة التابع لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث - خبرته الطويلة كمراسل ل"فرانكفورتر الجماينة" في روما والفاتيكان منذ عام 1978 وكباحث دكتوراه في فلسفة الأديان من أجل تتبع العلاقة بين المسيحية (الكاثوليكية) والإسلام أو بين البابوية والإسلام خلال 40 عاما، دون إنكار الموروث التاريخي الثقيل بين الديانتين العالميتين. ليس للمسلمين بابا، هل يبدو هذا التصور الذي يطرحه فيشر ساذجا أو مرفوضا؟ هل هو مستحيل؟ هل ممكن فعلا أن يستقيم التشبيه؟ إلامَ يرمي وهل معني هذا أن النظام البابوي لا يشوبه نواقص؟ إن خلو الإسلام من نظام بابوي يعكس من وجهة نظر المؤلف خلافات في الرأي من قبل الجانب الإسلامي، في الوقت الذي يسود المسيحية التسامح والانتشار السلمي و"حب الأعداء" كأسس تقوم عليها السياسة البابوية - في الفاتيكان مجلس الحوار بين الأديان واللجنة الخاصة للعلاقات الدينية مع المسلمين - أما الإسلام في المقابل فيظهر باعتباره دين ودولة، يجمع بين السياسة والديانة، "بيت الله يضم مساكن كثيرة" كما تقول أمثولة إنجيلية: فهناك مساجد متعددة وشيوخ كثر ومرجعية حائرة! وهذا الوضع مقلق بالنسبة للمعنيين في الفاتيكان بحسب ما يشرح فيشر، المشكلة عنده إذن تتلخص في "الإفراط في التدين والإيديولوجيا" وعدم الفصل بين صدام الحضارات وصدام المعتدلين والمتطرفين في كل حضارة، ورغم نبل الطرح إلا أن المؤلف يتحامل علي الإسلام الخال من المرجعيات، يصف المساجد في روما ب"الصرح التذكاري الفخم للإسلام" فهي مكتظة حين صلاة الجمعة وملل يسودها في باقي الأوقات، كل ذلك في مقابل تعظيم دولة البابا الحائز علي لقب الكرسي الرسولي باعتباره المرجعية الأخلاقية علي الصعيد الدولي. لكن هذا الاقتناع لا يمنع فيشر من تناول مواقف البابا بينديكت السادس عشر الذي رافقه كثيرا باعتبارها "استفزازا للإسلام بلا ضرورة". من ناحية أخري، هناك مآخذ لا يخلو منها تحليل فيشر وهو صاحب كتاب آخر بعنوان "اللقاء مع الإسلام بوصفي مسيحيا"، هو مثلا أسقط من حساباته "تعقد" العلاقة التي تشكلت بين العالم الإسلامي والغرب نتيجة الحركات الاستعمارية وما رافقها من أبعاد، صحيح أنه تحدث بالتفصيل في أحد الفصول من 36 فصلا عن جهود بعض البابوات في الحروب الصليبية كإحدي معوقات الحوار، لكنه ما يلبث أن يقفز سريعا إلي توصيف حالة "الخوف الهستيري" التي تنتاب الغرب من احتمال وقوع عمليات اعتداء من الانتحاريين والمتطرفين، فنجده يفرد صفحات للإجابة علي أسئلة اعتدناها من نوعية: ما الذي يدفع المتدينين إلي ممارسة العنف؟ والحرب والعنف من أجل اقتناص الجنة؟ الأهم ما يحكيه المؤلف في فصل بعنوان "أعباء تاريخية" عما ساد في روما بأن الدين الإسلامي هو المسئول عن بداية العداء للكنيسة والمسجد، ورغم أن الظاهر في هذا الفصل هو مجرد استعراض وقائع تاريخية إلا أن فيشر لم يمدنا بتحليلات وتفسيرات لمعني ما يقوله بأن حملات الحروب الصليبية ليست هي التي شكلت بدء الحوار المسيحي الإسلامي بقدر احتلال مناطق مسيحية من قبل محاربين مسلمين في بداية ظهور الإسلام مع نهاية القرن الخامس الميلادي. يريد فيشر التخلص من طريقة إجراء الحوار بين الكنيسة والمسجد علي غرار "مفاوضات مفتوحة" و"علاقات عامة" بين أتباع الديانات المختلفة مستثني منها معتقداتهم الإيمانية ومبادئ الدين الجوهرية، ويدعو إلي الإفادة من كتابات عصر التنوير من أجل طرح أسئلة نقدية للدين الإسلامي تطال "الله والوحي والإيمان الحرفي بالكتاب". إن غياب الروح التنويرية العقلانية تلك هي في نظر المؤلف العقبة الأساسية أمام الحوار المسيحي الإسلامي وفتيلا مشتعلا للفتنة، وينتهي طرح الصحفي الألماني في هذا الخصوص إلي أن الإسلام يواجه تحديا حقيقيا مع شروحات الفيلسوف اللاهوتي سبينوزا التي بحسبه لا يمكن تجاوزها سواء في أيامنا الراهنة وحتي في المستقبل. في نهاية كتابه يشير فيشر إلي صعوبة الحوار مع الإسلام إذا لم يقم المسلمون بالإفادة من كتابات عصر التنوير التي أفادت منها المسيحية، وإذا لم يطرح الإسلام الأسئلة التي طرحها فلاسفة عصر التنوير علي المسيحية، لأن هذه التساؤلات وأبرزها ما قدمه سبينوزا منذ ما يزيد علي 300 عام ليس لها وجود من الأساس في عالم الإسلام كما يؤكد فيشر الكتلب: بين روما ومكة المؤلف : هاينز يواكيم فيشر المترجم: سامي أبو يحيي فؤاد إسماعيل الناشر : مشروع كلمة