كل مخلوق صغير أو كبير في هذا البلد يذوب حبا في واحدة ست أسمها أم كلثوم، ويجد هناءه وسعادته في صوتها القوي الحنون الذي مازال يحملنا منذ سنوات طوال مع ملايين العرب الآخرين بين ذراعيه الدافئتين ويضمنا إلي نقطة في القلب من صدر الوجود هي الطرب، والطرب هو النشوة، والنشوة هي الاتحاد مع الكون، أمل المتصوفين والسكاري والعشاق المتيمين. ولكن هناك مسألة جديدة استجدت وأدت بالموقع أدناه إلي أن يطوح بنفسه في الهواء طربا وفرحا- لأنه بصراحة ما عندوش طربوش يطوحه ويصيح بملء حنجرته المتواضعة: الله يا ست! فقد قررت «الست» أن تغني أغنيات لاتزيد مدتها عن عشر دقائق..بعد أن اصبحت الإذاعة مثل الطعام «الصايط»: دسم متكتل في سائل ماسخ لا طعم له.. الدسم هو أغانيها العملاقة والسائل الماسخ معروف. كانت المسألة قد وصلت إلي حد من الخطورة يهدد محصول الفن في السنوات المقبلة، وجذور المواهب أوشكت أن تذبل إلي الأبد من أرضنا السمراء... كانت الاذاعة تقول لنفسها: أنا مالي أقلب مخي واكتشف وأربي وادادي وأهنن في عيال لسه طالعين..كفاية عندي أغاني «ثومة» لو أذعت لي اثنتين منها ملأت البرنامج وكان الله يحب المحسنين. وكان إللي لسه طالعين يقولون لنفسهم: يا نهار أسوح يا ولاد... إحنا نروح فين جنب ناطحات السحاب دي..لا يا عم الجبن سيد الأخلاق.. ثم قررت أم كلثوم- الله يقويها علي رأي محمود السعدني- أن تغني هذه الشوية الأغاني المحندقين.. سيقول البعض: حتي الأغنية القصيرة جاية أم كلثوم تزاحم فيها؟ وأنا أقول لهم إن القصة القصيرة كانت ستموت ويتوفاها الله لولا أن دخل نجيب محفوظ ميدانها مرة أخري.. فردت فيها الروح وظهر لها فرسان جدد عسي أن يرزقنا الله بمثلهم في الغناء.. إنه سميع مجيب الدعاء.