عبدالرحمن عرنوس عرنوس أيقونة بورسعيدية صرفة، امترجت بحب الوطن الكبير وعشقت ثراه، فنان بكل جوارحه يملأ النفس شجنًا، ويرصع بكلماته المنطلقة كطلقات الرصاص الأماني وعذب المعاني المعلم هو صاحب ضربة المعول الأولي في حقل طفولتنا، فلا يمكن أن تمر هذه العلاقة سدي بل تترك بصمة مهمة في حياة التلميذ منذ نعومة أظفاره. كان عبد الرحمن عرنوس هو المعلم الذي غرس بذرة الفن في نفس وروح كل من عرفه من التلاميذ أو الأصحاب، كان عرنوس من فئة المعطائين بلا حدود بعمل دؤوب وقلب فنان شعاره الجد والاجتهاد وبذل الجهد. لا يكف عن الحركة، تجد في كل مكان شعلة متوهجة، لا يكف في حديثه الشائق عن ضرب الأمثلة وسرد الحقائق، صمته مدوٍّ كطلقات مدفع مكتومة. تأصلت بصمة عبد الرحمن عرنوس وتجذرت نبتا صحيحا في حياة كل من عرفهم وعرفوه، ليس ثمة هوة بينه وبينهم، علاقة حميمية ومشاعر إنسانية، وعطاء دافق كعطاء الأنهار جهة الأرض الشراقي، لا أي مساحة فارغة بينه وبين معارفه في دنيا الإبداع الراقي، حضوره يتسم بجلال الموقف وعظيم التجربة والقدرة علي الصمود في مواجهة الزمن. لا يمكن للمرء أن ينسي معلمه الأول، إنه معلم حقيقي بدرجة فنان يمتلك أدواته، باق بيننا بما قدم علي الأصعدة كافة بكتاباته وإبداعه وكأنما كتب علي جبينه أن مهنته الأصلية التي خلق من أجلها أن يكون معلما لأجيال مصرية وعربية عشقت أسلوبه وتدربت علي يديه، فأحبها وأحبته. وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي : قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا عبد الرحمن عرنوس معلم فذ سبق عصره وأوانه، معلم رأيته للمرة الأولي، وجدتي تصحبني لتلقي بي في أتون المدارس وأصبح تلميذا في مدرسة الفاتح الابتدائية لأجد أمامي هذا المعلم الجميل ذا الملامح الأوربية الذي يؤدي مهام وظيفته بكل إتقان وتفان وحرفية، معلم يشكل وجدان تلاميذه وهو يزرع في نفوسهم أمنيات وأغنيات وفنا رفيعا هو فن "مسرحة المناهج" قبل أن تدشنه وزارة التربية والتعليم ضمن مناهجها. استمر عرنوس في سلك التعليم لسنوات بوظيفة معلم إلزامي حتي دار في فلك الفن كنجم صار يشار إليه بالبنان وظل لسنوات يؤدي عمله بعشق بينما ظل فريق من مجايليه في وظائفهم حتي سن المعاش. من المؤكد أن عرنوس بقدراته الخاصة كان أول الناجحين في كل درب سلكه، معلم مستنير تفوق بعبقرية غير مسبوقة وبنجاح لا نظير له فأصبح مدرسة وحده يؤمها الجميع لينهلوا من معين عطائه في كل الفنون المسرحية. كنا في أوائل أكتوبرعام 1959م حين التحقتُ تلميذا بمدرسة الفاتح الابتدائية بحي المناخ أحد أعرق الأحياء الشعبية في بورسعيد أقطع الخطوات الأولي وأنا بيد جدتي العجوز خائفا من سجن أسوارها، وجهامة الناظر وقسوة المعلم بعصاه التي تشق الهواء فيسقط القلب هلعًا. غير أنني رأيت في ذلك الصباح البعيد الفصل الدراسي أكثر رحابة من العالم بأسره، امتدت يد المعلم حانية تربت علي كتفي ليصحبني إلي حيث "التختة الأولانية". شاب جميل الطلعة، ذو شعر كستنائي، وعينين بلون الزرع أو لون مياه البحر المتوسط لم أميز يومها وظللت طوال معرفتي به لا أفكر إلا في أنه معلم مختلف عن باقي المعلمين، ابتسامته واسعة وحديثه مرح وملبسه أنيق، حازم الرأي، جاد في العمل، باسم الثغر وقت الفراغ، تنطلق من فمه الكلمات مدوية فتقتحم الأذن الصغيرة لتوقظها وتبث فيها الوعي في هذه السن الباكرة. لم يكن عرنوس معلما نمطيا مثل أي معلم آخر بل هو واثق متمرد هادر بصوته مثل موج البحر، لا يكف عن شرح الدرس لتلاميذه وهم في انتباه شديد كأن علي رؤوسهم الطير بأداء مسرحي منقطع النظير يقدمه بطريقة غير مألوفة وبأسلوب غير معتاد فيحفظونها عن ظهر قلب. ينتقي عرنوس فريق العمل من تلاميذ الفصل والفصول الأخري ممن يجيدون القراءة والإلقاء لتدريبهم بشكل جديد مكونا أول فريق لمسرحة المناهج قبل أن تعممه وزارة التربية والتعليم بكل الوسائل والأنماط التعليمية. كنا نعيش زمن المد الثوري والقومية العربية، غرس عرنوس فينا حب جمال عبد الناصر وعشنا حلم تأميم القناة 1956م، وانتصارنا في بورسعيد علي قوي العدوان الثلاثي. واكب عرنوس أحلام ثورة يوليو، أفراحها وأتراحها، الوحدة بين مصر وسوريا ومحنة الانفصال، بناء السد العالي حتي جاءت الضربة القاصمة في يونيو 1967م. في الفصل كوَّن عبد الرحمن عرنوس فريق الصاروخ للتمثيل والإلقاء وجعل علي رأسه القاهر والظافر عاش التلاميذ يقلدونه في سيره ووقوفه، في نطقه وصمته، في ضحكه وعبوسه، مجموعة من دراويش ومريدين حملوا عنه أوراقه حتي باب بيته، يطمئنون علي وصوله ثم يقفل كل واحد منهم عائدًا إلي بيته مستريحا. عبد الرحمن عرنوس أيقونة بورسعيدية صرفة، امترجت بحب الوطن الكبير وعشقت ثراه، فنان بكل جوارحه يملأ النفس شجنًا، ويرصع بكلماته المنطلقة كطلقات الرصاص الأماني وعذب المعاني لا يقف بحواره عند حد معين بل يخترق كل الآفاق كصاروخ بعيد المدي يتأجج بحب الوطن والناس، لا يكف عن العمل فيغرس بذوره في كل حقل تطؤه رجله، ولا ينتهي عن التحليق في كل سماء حل تحتها، لا شئ يغنيه عن احتضان المواهب الواعدة فيلهمها من عطاياه ونفحاته دون كلل أو ملل، لا يعتريه تعب كأنما من تحته الريح كما يقول المتنبي. أسدل الموت ستاره ليحجب عنا عبد الرحمن عرنوس، ولكنه لم يرحل، فقد ترك من بعده أجيالا امتدت جذورها في كل الأرض العربية من تلاميذ لم يحصهم عددا، ولم ولن تذهب سيرته بينهم بددا. كرَّس عبد الرحمن عرنوس رحلة حياته للمسرح وقدم كتبًا في فنونه المتعددة تعد حجر الزاوية في تدريب وإعداد الممثل وتأهيله لتتخرج علي يديه مواهب بلا حصر. وحين حاقت بالوطن هزيمة يونية 1967م ظل الجميع يعاني من وقعها الأليم، وخرجت من بين الألم آمال وأحلام كبار تجلت في عزيمة الرجال والتدريب المستمر لتحقيق النصر، وتولدت من رحم الجماهير العديد من فرق المقاومة الشعبية، وهتفت فرق السمسمية علي طول القناة وفرقة شباب النصر في بورسعيد بقيادة الشاعر كامل عيد وفرقة أولاد الأرض في السويس بقيادة كابتن غزالي وفرقة شباب الصامدين بقيادة حافظ الصادق بينما أسس عبد الرحمن عرنوس فرقة شباب البحر وأخذ يؤلف الأغاني فترتفع وتصدح أوتار آلة السمسمية الساحرة التي شكلت بثرائها عالما غنيا وخصبا في حقل النغم الشعبي علي امتداد منطقة القناة الزاخرة بالعطاء والفداء والمقاومة. في خلال سنوات الإعداد والتأهب للثأر من العدو الإسرائيلي وذات ليلة ظلماء غاب البدر، ورحل جمال عبد الناصر، خرجت مصر عن بكرة أبيها والجماهير العربية في كل أنحاء الوطن العربي تودع زعيمها بمرثاة تلقائية رددتها ألسنة الناس سطرها من فوره يراع عبد الرحمن عرنوس "الوداع يا جمال يا حبيب الملايين / ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين / إنت عايش ف قلوبنا يا جمال الملايين / إنت ثورة إنت جمرة / إنت نوارة بلدنا واحنا لوعنا الحنين / إنت أنهار مية صافية تسقي كل العطشانين / إنت قنديل الغلابة تهدي كل الحيرانين / إنت ريحانة زكية في قلوب الفلاحين / إنت جمعت بعزيمتك النفوس الغضبانين / يا حبيب الإنسانية لأجل كل الإنسانية". قطع عبدالرحمن عرنوس رحلة حياته باحثا عن الأحلام والأماني، قطع الدروب والفيافي، طرق الأبواب التي انفتحت رحبة تحتضن الموهبة غير المألوفة ل "المعلم الإلزامي" الذي ترك المدرسة الابتدائية بتلاميذها الذين انتظروا طويلاً عودته والتحق بأكاديمية الفنون وتخرج فيها عام 1965م وعين معلمًا بها حتي العام 1983م ثم سافرإلي المملكة الأردنية الهاشمية ليعمل هناك وليضع أساسًا شامخًا للمسرح الأردني حيث عمل مدرسًا في كلية الفنون الجميلة بجامعة اليرموك، وأنشأ "المختبر المسرحي" واهتم بالمسرح التجريبي الذي ظل علي مدي ما يقرب من ربع قرن من الزمان منجمًا ثريًّا يقدم في كل عام النجباء من الطلاب. تجاوز عبدالرحمن عرنوس كل ما هو سائد ومألوف، فكرمته المملكة الأردنية الهاشمية ومنحته ميدالية الملك الحسين بن طلال في العام 1995م تكريمًا لما قدمه من إبداع حقيقي في خلال فترة عمله هناك. في مصر امتدت أياديه البيضاء لفنانين تركوا بصمة ذات تأثير في الساحة الفنية من أمثال الراحل أحمد زكي والرائع محمد صبحي والفنانة إلهام شاهين والفنان الشاب أحمد السقا. ولد عبد الرحمن عرنوس في العام 1934م بمدينة الإسكندرية لأسرة مصرية تمتد جذورها لمدينة المطرية دقهلية، وعاش فترة حياته الأولي وصدر شبابه في المدينة الساحرة بورسعيد التي ألهبت خياله، عاصر زمن العدوان الثلاثي علي أرضها فاشتعل في صدره أوار الثورات مبكرًا فنشأ عاشقًا ولهانا نذر روحه ونفسه لها، محبًّا لثراها وناسها وتاريخها ولياليها وسهرها وقدم نفسه قربانًا بموهبته لإعداد أجيال لن تنسي دوره، وغادر دنيانا إلي رحمة الله في الأول من ديسمبر 2009م بعد أن أصيب بجلطة في المخ. كانت بداية شهرة عرنوس حين قام بدور "ريتشارد الثالث" لمسرح التليفزيون المصري، وأدي دورًا مهمًّا في مسرحية البؤساء، ودور الصعلوك في مسرحية زيارة السيدة العجوز وقام بدور الجنرال كليبر في مسرحية »حياتي والزمن«، كما شارك في العديد من الأدوار عبر شاشة التليفزيون. قدم من خلال رحلته المسرحية نموذجًا لمسرح السيارة، ومسرح الصيادين ومسرح المناقشة ومونودراما المسرح ولكنه كان يحلم بتحقيق الهدف الأكبر، حلم خلق أجيال مسرحية تحمل مشاعل التنوير، كما ترك لها زادًا تمثل في مؤلفاته المهمَّة التي تعد نبراسًا للعاشقين يهتدون به.