خرجت من منزلي ضحي يوم الجمعة أتجول قبل أن أذهب إلي المسجد القريب من داري.. بسطة مبهجة وانشراح وسعة صدر عندما اقتربت من بيت الله، فلأول مرة منذ سنوات لا تصدمني عند أرصفة المساجد عربات الأمن المركزي الزرقاء والداكنة تحيط بالمكان وكأننا في حرب.. ندخل متوترين ونخرج متوجسين خشية وقوع ما لا تحمد عقباه، كلمة يقولها شاكٍ يتطلع واعيا إلي الله فتؤولها أجهزة ترصد غير ما قصد المتكلم وتبدأ معركة لا يعرف منتهاها إلا أركان السلطة. اليوم استعدتُ سعادة يوم الجمعة.. سعادتي الطفولية حين كنت أذهب بصحبة أبي - رحمه الله - إلي الجامع الأزهر أو الحسين أو الرفاعي أو السيدة زينب أو السيدة نفيسة.. أصلي وأتأمل المكان وأصافح وجوه الناس، وألمسُ روح المحبة وجمال الأدعية التي يرددها مرتادو المساجد والجالسون علي أبوابها من طالبي الصدقة.. روح آمنة مسالمة مطمئنة. وأذكر أني كنت أخلو إلي نفسي في ركن من المسجد أرتكن إلي عمود من أعمدته الرخامية، وأنا أنصت إلي المقرئ وهو يتلو بعض الأجزاء من كتاب الله تمهيدا وتهيئة روحية تسبق الأذان وخطبة الجمعة وصلاتها، وهي صيغة مصرية لم أرها في بعض البلاد، حيث يجلس الناس وكل منهم يمسك بين يديه مصحفا ويقرأ في صمت ما يتيسر له من آي الذكر الحكيم. لكن الاستماع له فضل آخر.. وسواء استمعت إلي مشاهير القراء الذين نسميهم "السَّيِّيطة" أو مغموري القراء في المساجد الصغيرة، فإنك تشعر بجلال الكلمات مع جمال التلاوة.. "ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا. قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا" (الكهف: 25، 26). يا لها من لحظة ملائكية ردتني إلي طفولة محببة.. في المسجد ذاته.. منذ سنوات غير قليلة، كان مقرئ آخر يجلس علي دكة القراء في يوم الجمعة ويتلو أجزاء من سورة الكهف، وسرحت في طفولتي مع الآيات والقصة والحدث وجلال الكلمات، وهو ما دار بخلدي هذا اليوم وأنا أتأمل في معاني الآيات بقدر ما سمح لي به ما قرأته في بعض كتب التفسير، لكني تذكرت وبِتداعٍ حر شيخا من كتابنا عرفته في مطلع حياتي الصحفية هو أستاذنا توفيق الحكيم، وأسعدتني الظروف بالتعرف إليه والاقتراب منه ومن عالمه المسرحي - فأنا خريج الفنون المسرحية قسم نقد - وللحكيم عند طلاب الفنون المسرحية بجميع تخصصاتها منزلة فريدة، كرائد ومُلهم ومبدع ومفكر وصاحب رؤي متطورة. تذكرت حديث الحكيم عن أول مسرحية كتبها "أهل الكهف" وكيف تحركت أحداثها في ذهنه وهو يجلس في المسجد يسمع المقرئ يقرأ من سورة الكهف ما يتيسر له قراءته.. مصادفة سعيدة أن أذهب إلي المسجد فأستعيد طفولة مضت وشبابا أتعلق بذكرياته الجميلة وهو يفارقني مع قطار الحياة الحي السائر دائما، ونحن ركابه نصعد أو ننزل، لكل إنسان محطة بدايته ونقطة نهايته. هل قلت: إنني أحسست بسعادة لمرأي المسجد يوم الجمعة وقد انقشعت من أرصفته عربات الأمن المركزي الزرقاء الداكنة؟ نعم قلت، فها هي المساجد تمتلئ بالمصلين يدخلون مطمئنين ويخرجون منها فرحين متفائلين ولم يرتكب أحد جريمة تستحق ذاك الحشد القديم كلما اجتمع الناس أمام مسجد أو كنيسة. وأدعو الله أن تعود روح السلام والمحبة بين أبناء الوطن الواحد بجميع أطيافه وأديانه، فكلنا في النهاية نصلي لله الواحد ونشعر بالسعادة لأننا نؤدي ركنا من أركان الدين في مسجد أو كنيسة.. ما دام الحب في الله شعارنا.. والأمان في الوطن منتهي أملنا.. حينما يشعر الإنسان بحريته يشعر بأنه قوي وحي وموجود. الحرية تأبي الوصاية وتسمح بتبادل الآراء فالاختلاف حق للإنسان، ودرب من دروب التعبير عن الرأي من غير إفراط ولا تفريط.. من غير كراهية ولا تجريح.. نختلف حتي نجد طريقا نتفق عليه هو المصلحة العامة.. ليس اختلافا بهدف الاختلاف، لكنه اختلاف يسمح لكل طرف بالتعبير عما يراه صوابا.. حتي يقتنع بالصواب أو يقنع غيره بصوابه. واختلاف الرأي له أصول وقواعد وإلا صار سفسطة وفوضي.. نختلف لأن لدينا أسبابا للاختلاف هي كذا وكذا وكذا.. فإذا عُرضت المسائل علي طاولة النقاش سقط المتهافت من الآراء، وكسب الأطراف ما هو مفيد.. أما الاختلاف لمجرد الاختلاف بلا حيثيات فهو تصلب للرأي بلا حجة، ولذلك فرحتُ كثيرا بشباب 25 يناير حين أعلنوا أن هذه الجمعة "جمعة الهدوء" بلا مظاهرات، لا لأنهم ملوا التظاهر بل لأنهم نجحوا ونجحت الثورة. راقبوا الحدث واطمأنوا إلي صحة الطريق فهدأوا.. هم لم يسكتوا، ولم يتوقفوا عن مطالبهم، ولكنهم أدركوا أن الحركة والدفع الثوري حركتان محسوبتان وليستا قفزا في فضاء. فلما اطمأنوا.. هدأوا وبدأوا العمل للخطوات القادمة أو ما يعرف بالاستحقاقات القادمة التي تحتاج تخطيطا وعملا منظما وتغييرا لأساليب العمل وفن التعامل مع أبناء الوطن كله في التحضير للانتخابات القادمة من تشريعية وتنفيذية وخروج إلي الميدان الكبير "الوطن"، وليس ميدان التجميع "ميدان التحرير"، أمامهم جهد كبير في الريف والدلتا والصعيد، لا بد أن يتعرفوا علي مشكلات الناس الاجتماعية والإنسانية ومطالبهم التي حمَّلوهم أمانة تحقيقها في قادم الأيام، سواء دخلوا المجالس النيابية أو بقوا في أماكن تجمعهم، فهم - أقصد "شباب الثورة" - من حملوا أمانة هذا الشعب والعمل من أجل مستقبله وأيضا حاضره. ونحن جميعا معهم، ولكننا ندرك أن هذا زمانهم وعليهم أن يتقدموا بكل ما يحملونه من حب لهذا الوطن ليطهروه قبل أن يؤسسوا مجتمعًا جديدًا. من هنا أقول: إني سعيد ومتفائل بمستقبل بلدي لأني متفائل بهذا الجيل الذي فاجأ الدنيا وأدهش العالم، وأظن أنه فوجئ هو ذاته بنجاحه الساحق، وهي مفاجأة سعيدة لنا، وبلا شك سعيدة لهم أيضا.