يتزايد الشعور لدي الرأي العام في مصر مع مرور الوقت - بعد تنحي الرئيس السابق حسني مبارك في 11 فبراير 1102 - بأننا لانعيش أجواء ثورة، وبأن جمبع الأمور تسير في مجراها المعتاد قبل 52 يناير، وأنها تدار بنفس الأشخاص والتوجهات والأجندات السابقة، وكأن مطلب الجماهير في ميدان التحرير وبقية المحافظات - وهو: »الشعب يريد إسقاط النظام« - قد انتهت مدة صلاحيته بتنحية بعض رموز هذا النظام، التي لاتمثل إلا القشرة الخارجية لهيكله، في الوقت الذي لاتزال دعائمه وطاقته الحيوية وآلياته وكوادره التحتية قائمة وفاعلة في مختلف المجالات والقطاعات، والأهم من ذلك: أن الخطط والمهام التي يقومون بتنفيذها هي هي كما كانت قبل الثورة، ولم يكن أغلبها في مصلحة الشعب بل في مصلحة النخب والمنتفعين. 1 ما أريد التركيز عليه هنا هو مجال الثقافة بوجه عام، وقطاع الفنون التشكيلية نموذجا.. فكل ما حدث في وزارة الثقافة هو استبدال الوزير السابق فاروق حسني بأحد معاونيه لسنوات طويلة - د. عماد أبوغازي- وفي المسافة القصيرة بينهما عين د. جابر عصفور لأيام معدودة خلفا لفاروق حسني، علما بأنه كان أبرز معاونيه الذي قام باستقطاب المثقفين حوله طوال فترة وزارته عبر رئاسته للمجلس الأعلي للثقافة، وكانت حالة الحراك الثوري آنذاك - في الأسابيع الأولي للثورة- من القوة بحيث مارس المثقفون الضغط عليه وإخراجه حتي قدم استقالته، لكونه ضمن وزارة ينتمي أغلب أعضائها إلي الحزب الوطني والنظام الذي سقط، وتوقع المثقفون أن يبادر الوزير الجديد - أبوغازي - في أول عهده بالوزارة، بالاستماع إلي آراء المثقفين عبر مؤتمر عام يمثل إرادتهم ومفهومهم للتغيير، لا سيما وأنه كان يعد لمثل هذا المؤتمر قبل قيام الثورة بقليل، أو علي الأقل، أن يطرح علي الرأي العام مشروعا ثقافيا جديدا، يستلهم تطلعات المرحلة الثورية ويلبي مبدأ العدالة الاجتماعية ويضمن حقوق الشعب في الثقافة، وهو المبدأ الغائب عنا طوال فترة بقاء الوزير الأسبق ما يقرب من ربع قرن بنظامه المظهري الذي كان يكرس التبعية الثقافية ويعطي ظهره للهوية المصرية متوجها إلي النخبة، ومتبعا سياسة المهرجانات القشرية، لكنه لم يفعل هذا ولاذاك، واكتفي ببعض المقابلات والمؤتمرات الصحفية واللقاءات مع قلة من المثقفين، طرحت خلالها آراء عامة لاتشكل استراتيجية تعكس تغييرا حقيقيا في العمل الثقافي، واكتفي - في التطبيق - بنقل مسئول هنا مكان مسئول هناك في بعض الهيئات العامة للوزارة، بدون شفافية تكشف مبررات ذلك ومظاهر الفشل هنا أو مؤشرات النجاح هناك، وبدون أن يتطرق إلي صميم أوجه التردي والفساد الإداري والمالي التي ترعرعت في أغلب القطاعات والهيئات عبر السنوات الماضية، وقد وصل القليل منها إلي المحاكم في العهد السابق وصدرت بشأنه أحكام بالسجن، وهي حالات قليلة من كثير، أدت إلي خلل هيكل وأوضاع مختلة، حتي تحولت إلي بؤر للمنتفعين بالمال العام علي حساب العاملين الحقيقيين، فضلا عن المحرومين من ثمار الثقافة. إن كل ذلك مجرد عينة تؤكد ما توصف به الوزارة الحالية - بجميع وزرائها - من أنها وزارة تسيير أعمال ليس إلا، ما يجعلها غير مؤهلة لإحداث تغيير حقيقي في الأوضاع القائمة في اتجاه أهداف الثورة، إلي أن تنتهي المرحلة الانتقالية بعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية ووضع الدستور الدائم. كان يمكن استيعاب هذا المعني لو لم يحصل رئيس الوزراء - د. عصام شرف - علي تفويض ثوري من ميدان التحرير، وهي سابقة تاريخية لأول رئيس وزراء يأتي به الشعب محمولا علي الأعناق، ويجعله يحلف اليمين أمامه بتحقيق آمال الثورة في التغيير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومن بينها مستحقات المجتمع من الثقافة بلاشك، ومن ثم فلا يمكن تصور أن يكون معني »تسيير الأعمال« هو: »أن يبقي الحال علي ما هو عليه« تحت أي ظرف من الظروف أو بأي مبرر من المبررات. 2 هل نجد فيما قلناه ابتعادا عن قضية الثقافة والفن التي بدأنا بها المقال؟.. أعتقد أنها نفس القضية، إن لم يكن الأمر أشد ارتباطا، لأن حجر الزاوية في أي تغيير هو الفكر، وأن البناء الثقافي الصحيح هو القادر علي توجيه مراحل التحول السياسي والاجتماعي، وعلي حمايتها من الانحراف والشطط، فلو افتقد العاملون في ميدان الثقافة الإحساس بجدية النظام الحاكم في بناء نظام ثقافي جديد، ولو أنهم وجدوا بونا شاسعا بين القول والفعل، ورأوا أسباب الفوضي والفساد تتغلغل، ورموز العهد البائد وسدنته تتسلق علي الكراسي وتمارس ما كان يتم قبل الثورة، انهارت ثقتهم فيما يجري، وتحولوا إلي أحد أمرين: إما إلي الاعتصام والتظاهر للحصول علي مطالبهم، وإما إلي المربع رقم صفر، وهو الإحباط واللامبالاة، ونفس المعني ينطبق علي الجمهور المتلقي للثقافة. 3 في الحركة التشكيلية - علي سبيل المثال - نري علي قمة القطاع المختص بها رئيساً كان من بين المتنفذين في الحزب الوطني هو د. أشرف رضا، وقد أصدر وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني قرارا بتعيينه عشية قيام ثورة 52 يناير، ولم يمكن يعرف عن د. أشرف طوال تاريخه المهني الاشتغال بأي فرع من فروع القطاع وأنشطته، وقد يكون أكاديميا ناجحا كأستاذ للديكور بكلية الفنون الجميلة، وقد يكون رجل أعمال ناجحا من خلال مكتبه الخاص ومشاريعه أو من خلال لجان الحزب، أو من خلال إشرافه علي تجهيز مبني أكاديمية الفنون المصرية بروما حتي يليق بافتتاح الرئيس السابق له قبل نقله إلي القطاع... لكن كل ذلك شيء، وإدارة قطاع الفنون التشكيلية شيء آخر!.. حيث تتراكم به مشكلات لايعرف طبيعتها إلا من كان قريبا منها، في مجالات المتاحف الفنية والقومية ومراكز الحرف التقليدية، ومراسم الفنانين ببعض المواقع الأثرية، وحيث يجد نفسه أمام ميراث ثقيل من الأزمات المالية الإدارية، سواء لاستكمال البنية الأساسية للمتاحف ومراكز الإنتاج الفني، أو لمواجهة أوجه القصور والارتباك في شتي الإدارات، من عجز مزمن في التمويل وفي الخبرات وفي الخطط، وما يتطلبه كل ذلك من إدراك للأهداف الثقافية الكبري ولفلسفة ما يقدم من مشروعات ومد الجسور بينها وبين المجتمع والوزارات والهيئات الحكومية والأهلية ذات الصلة برسالة القطاع، ومن إيمان بمسئوليته عن الارتقاء بالثقافة الفنية والذوق الجمالي للمجتمع والكشف عن المواهب الابداعية لدي أبناء الشعب، وما يستدعيه ذلك كله من رؤية ثورية لكسر احتكار النخبة من الأثرياء ورجال الأعمال وتجار الفن للاستحواذ علي تراث الأجيال من الإبداع الفني بالمتاجرة به وإقصاء بقية قطاعات الشعب خارج الدائرة، ويدخل ضمن هذه الرؤية استصدار التشريعات اللازمة لخروج الفن إلي الأماكن العامة، وهناك بالفعل مشروع قانون معطل لهذا الشأن (قانون التجميل المعماري والميداني) مدفون بأدراج مجلس الشعب منذ 53 عاما... وأخيرا وليس آخرا: فإن هذا التطوير يقتضي البحث عن مداخل جديدة للنهوض بأوضاع الفنانين المنتجين: اقتصاديا واجتماعيا، ووضعهم في المكانة اللائقة بهم علي خريطة المجتمع، بعد أن وصلت مكانتهم إلي الدرك الأسفل علي السلم الاجتماعي، وتم تغييبهم عن مشروعات التنمية والتعمير وعن أجهزة الإعلام. 4 لن أتعرض تفصيلا لما يمتلئ به القطاع من تصدعات ومخالفاتإ إدارية ومالية، ومن غياب العدالة في توزيع المكافآت والامتيازات بغير حساب، وكان ذلك طبيعيا في ظل المرحلة السابقة. حيث كانت المقاولات لاتتوقف لتشييد المباني للمتاحف وقاعات العرض بعشرات الملايين، ولايهم بعد ذلك أن تظل خاوية علي عروشها تنفي من بناها حيث لايرتادها أي جمهور، أو تتعطل أجهزة الاضاءة والإنذار وكاميرات المراقبة فيها، فلا تجد من يصلحها حتي ينتهي الأمر بكارثة، وآخر حادثة من هذا النوع هي سرقة لوحة زهرة الخشخاش من متحف محمد محمود خليل في الخريف الماضي، وحيث كانت المهرجانات المحلية والدولية تبتلع الجانب الأكبر من ميزانية الأنشطة بالقطاع، من بيناليات وتريناليات وصالونات وما إلي ذلك، وما إن تشرق شمس يوم جديد علي قاعاتها حتي تجدها قاعا صفصفا لايدخلها »صريخ ابن يومين«... فقد ركب الخليفة وانفض المولد، أقصد الحفل الباذخ، وتم صرف المكافآت بآلاف الجنيهات للمحسوبين والمحظوظين، ولاعزاء لصغار العاملين... أما الفنانون الذين يقيمون بنيان الحركة الفنية فلا يجدون تكاليف طبع كتالوجات متواضعة لمعارضهم، فضلا عن توفير الدعاية والإعلام عنها في الصحف ووسائل الإعلام، إلا من حظي بالرضا عنه من سادة القطاع، ولايتبقي لهم من ميزانية المقتنيات الفنية للمتاحف إلا فتات المائدة، بعد أن توزع مئات الألوف منها علي المقربين و»الشلة«، وهي ميزانية معصومة من الكشف عن المستفيدين منها، فضلا عن أنها مخصومة - أساساً - من اعتمادات بناء المتاحف المعطلة منذ ربع قرن، مثل متحف الجزيرة، الذي أهدرت مقتنياته العالمية المقدرة في التسعينيات من القرن الماضي بثلاثين مليار دولار، وألقيت في مخازن لا تليق إلا بسقط المتاع ولاتؤنس وحدتها في محبسها المؤبد إلا الفئران والزواحف، أما عن الإدارة المركزية للحرف التقليدية - وهي عمود الأساس الثاني لهيكل القطاع بعد إدارة المتاحف والمعارض - فقد أهملت مراكزها الستة الموزعة بأحياء القاهرة حتي نضبت مواردها وشاخ العاملون فيها وفارقوها الواحد تلو الآخر بدون تجديد الدماء فيها، فبقيت مجرد هياكل جوفاء بغير إنتاج أو تطوير، ثم انتهي الأمر بالتخلص من ورش الحرفيين بمبني وكالة الغوري، وإلقائها في (الفناء الخلفي) لصندوق التنمية الثقافية، حيث لا خبرة علي الإطلاق بمثل هذا المجال ولا كوادر لإدارته، ووضع تحت مسئولية مدير الصندوق الذي لايعرف الفرق بين التنمية الثقافية والاستثمار التجاري، وسرعان ما زج به في السجن بتهمة الرشوة والفساد، لكن بعد أن أجهز علي ما تبقي من مراكز الحرف بوكالة الغوري، بتهجيرها من بيئتها التاريخية بحي الأزهر إلي أرض الفسطاط، في المبني الجديد الذي كان مقدرا أن يكون النواة لأكبر مدينة للحرف التقليدية بالشرق الأوسط، فإذا به يبيعه (تسليم مفتاح) إلي وكلاء الأمير تشارلز بعدة ملايين من الدولارات، واشترط العقد المبرم مع الوزارة أن يتولي الإشراف علي تدريب الحرفيين من ورثة شيوخ الحرف بالقاهرة التاريخية وإعادة تأهيلهم لمهمتهم الجديدة خبراء إنجليز من نكرات الحرفيين الهنود والباكستانيين المقيمين بانجلترا، وفي النهاية: لا طالت أيدي الحرفيين المصريين أموال الأمير، ولا طالت الوزارة خبرات ذات قيمة، ولاحصلت علي منتخبات فنية تصلح رصيدا محترما في سجل الحرف المصرية، كل ما حدث هو إجهاض مشروع مدينة الحرف التقليدية وضياع دمها بين القبائل! تلك جريمة حضارية يندي لها جبين أي مسئول ثقافي لديه حس وطني، ولا أظنها تسقط بالتقادم، حتي لو كانت قد مرت في صمت وأغلقت عنها أعين قيادات.. كان علي رأسها الوزير السابق، انتهكت تراث البلاد وأكلت الأخضر واليابس من مقدرات العمل الثقافي ومن مستحقات الشعب، وربما ضحي الوزير فاروق حسني بكبش فداء أو اثنين من تلك القيادات بتقديمها للعدالة.. لكن ما خفي كان أعظم! 5 أين وزارة الثقافة في عهد ثورة 52 يناير من كل هذا؟.. لا أعني فقط الوقائع والمحاسبات، بل أعني قبل ذلك: الخطط والسياسات.. إن مصر - تراثا حضاريا وإبداعا حداثيا - لاتستحق بعد الثورة أقل من مشروع استراتيجي جديد يعدل الهرم المقلوب، أي أن تكون قاعدته الأساس هي المجتمع وثقافة الشعب، وتكون توجهاته الرئيسية نحو الشعب، وأن تتجه بوصلة قمته من المبدعين في كل المجالات نحو المواطن والوطن، ويكتشفون ملامح هويته ويستلهمونها في أعمال إبداعية نتميز بها كمصريين بين الأمم يوم تبتلع ثقافة العولمة كل الهويات، لا أن يعيدوا إنتاج ثقافة الغرب ثم يتسابقون لتصديرها إلي أصحابها هناك، فلا يهتم بها أحد في الغرب أو في الشرق! فهل نجد وزير الثقافة الجديد - عماد أبوغازي - معنيا بمثل هذا المشروع؟.. وإذا كان كذلك.. فهل لديه من الإرادة والمقدرة ما يرصف به الطريق أمام تحقيقه، ويزيح عنه مخلفات النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه؟..