ربما استطاعت السينما المصرية منذ فترة مبكرة جدا رصد ومتابعة ما يدور في السجون والمعتقلات المصرية من إهانة واغتصاب ونفي لكرامة الفرد؛ ومن ثم بدأت في الحديث عن هذه التجاوزات التي تهدف في المقام الأول- خاصة إذا كانت من قبل مراكز القوي، وتتم ممارستها في المعتقلات- إلي( تحويل الإنسان إلي كائن دون إرادة، إذا ما كان قادرا علي التحرك، فهو يتحرك كالآلة، وإذا ما عجز ليسقط فهو غير قادر علي الإتيان بأي حركة أو انفعال، يمكنك أن تطأ جسده فلا تهتز له شعرة، لأن شيئا في الحياة لم يعد له قيمة، لا اعتراض، لا صرخة، لا ألم، رجال دون انفعال أو فكر، أجساد من دون أرواح). ولعل السينما المصرية حينما حاولت الالتفات إلي هذا الأمر لم ينبع هذا الاهتمام من الفراغ أو لمجرد القول: أنا هنا، كشاهد إثبات علي ما يدور وراء الأسوار، ولكن ربما كان السبب الأول هو اهتمام صناع هذه السينما بما يدور حولهم من حراك سياسي متخبط بدأ مع ثورة 1952 لتبدأ تتضح أمامهم يوما بعد آخر فشل هذه الثورة في تحقيق أهدافها، فضلا عن العديد من الانتكاسات السياسية الحادة التي حدثت بعد ذلك وإلقاء الكثيرين من المثقفين وغيرهم في المعتقلات والسجون؛ لمجرد قول رأيهم- باعتبارهم من أعداء تلك الثورة-؛ فمارس البوليس السياسي- الوجه القديم لجهاز أمن الدولة- سلطاته الواسعة بتجبر وقسوة علي الجميع؛ مما جعل العديد من صناع السينما يلتفتون إلي ما يدور حولهم، ومن ثم بدء الحديث عنه بأشكال مختلفة بعضها كان هزليا، وبعضها الآخر كان جادا وواضحا وصارما في إدانة الدولة والثورة وممارسات النظام ومراكز القوي السياسية فيه. ولعل تلك النوعية من الأفلام التي بدأت في الحديث عن الممارسات القمعية والوحشية التي تتم ممارستها من قبل مراكز القوي والبوليس السياسي قد أُطلق عليها في تلك الفترة سينما المعتقل أو أفلام مراكز القوي التي تحاول فضح ما يتم ممارسته من أسلوب تعذيب بشع ضد كل من يجرؤ علي الحديث عن النظام أو حتي معارضته؛ فرأينا عام 1958 مثلا فيلم المخرج يوسف شاهين "جميلة بوحريد" ذلك الفيلم الذي تناول حياة المناضلة الجزائرية "جميلة" وما دار معها من تعذيب واغتصاب داخل المعتقلات، ولكن إذا كان يوسف شاهين هنا قد آثر الابتعاد عن المعتقلات المصرية وما يدور فيها؛ ففضل الحديث عما يشبهها في مكان آخر، فلقد بدأت الجرأة تأخذ طريقها رويدا لدي العديد من المخرجين المصريين الآخرين؛ فقدم لنا المخرج هنري بركات 1961 فيلمه "في بيتنا رجل"- المأخوذ عن قصة لاحسان عبد القدوس بنفس الاسم- والتي توضح لنا مدي سطوة وقسوة البوليس السياسي، ومدي بطشه علي كل من تعن له نفسه معارضة النظام، ولكن التعاون هنا كان لم يزل مع الإنجليز الذين كانوا يجعلون من المصريين يدا لهم للبطش بالآخرين- فالفيلم كان يتحدث عن فترة ما قبل الثورة- واغتيال رئيس الوزراء المصري الخائن علي يد "إبراهيم حمدي"( عمر الشريف) الذي يُقتل بعد الكثير من المطاردات أثناء تفجيره أحد المعسكرات الخاصة بالإنجليز في العباسية. نقول أنه إذا ما كان صناع السينما المصرية قد بدأوا يكتسبون القليل من الجرأة في تناول هذه الأمور والممارسات القمعية كما ظهر في هذين الفيلمين، فلقد اكتسب كمال الشيخ جرأة أكبر وتقدم خطوة أخري للأمام حينما قدم عام 1970 فيلمه "غروب وشروق" الذي تحدث هذه المرة بشكل أكثر وضوحا وصراحة عن البوليس السياسي وممارساته الإجرامية في تلفيق التهم والجرائم للآخرين من خلال "عزمي باشا"( محمود المليجي) رئيس البوليس السياسي والذي يحاول قتل زوج ابنته؛ لأنه اكتشف طيشها وانفلاتها وخيانتها له، إلا أن الأب يحاول دائما بنفوذه القوي حمايتها والتستر علي سلوكها المشين بتلفيق الجرائم سواء لزوجها أو غيره. ولكن الصدمة الحقيقية التي هزت السينما المصرية بالفعل؛ ومن ثم أحدثت فيها منحني خطيرا أخذ ينحو باتجاه الجرأة والصراحة التامة في تناول المعتقلات والسجون وما يدور فيها من قمع كان فيلم "الكرنك"- عن قصة لنجيب محفوظ- للمخرج علي بدرخان عام 1975 ، والذي انتقد فيه علي بدرخان ثورة يوليو 1952 نقدا لاذعا بشكل فيه الكثير من القسوة والجرأة، وإيضاح الكثير من مسالب تلك الثورة وأساليبها المنهجية لتعذيب كل من يحاول معارضتها أو انتقادها، وهنا بدأت تظهر لنا في السينما المصرية موجة جديدة من الأفلام التي تسير علي ذات النهج، وان لم تستطع أن تكون بنفس حدة وقسوة فيلم "الكرنك" فيما أُطلق عليه وقتها أفلام الكرنكة- أي الأفلام التي سارت علي ذات النهج من انتقاد لاذع وحاد للثورة وسلبياتها وأساليبها القمعية ضد الآخرين- من خلال "خالد صفوان"( كمال الشناوي) رئيس المخابرات- والذي كان يُقصد به في ذلك الوقت صلاح نصر رئيس الاستخبارات- الذي يمارس كل أنواع التعذيب والتنكيل بمجموعة من الطلاب الذين تم اعتقالهم بدون أي ذنب سوي اجتماعهم في مقهي الكرنك للحديث عن السياسة وشئون البلاد، بل ويقوم بتلفيق التهم لهم واغتصاب "زينب"(سعاد حسني) تحت إشرافه داخل المعتقل من أجل تجنيدها وجعلها تتجسس علي زملائها، ولعل جرأة علي بدرخان في هذا الفيلم قد وصلت إلي مداها بفضحه لأساليب الجهاز الأمني في عهد عبد الناصر وأسلوبه داخل المعتقلات؛ مما حدا بالكثير من المخرجين فيما بعد لاحتذاء حذوه، فرأينا المخرج ممدوح شكري وفيلمه "زائر الفجر" عام 1975 _ عام العرض أما الإنتاج فكان 1972- في محاولة منه لمحاكاة السينما الإيطالية السياسية في تلك الفترة، والتي تعتمد علي قالب التحقيق البوليسي الذي يحاول أن يصل إلي الحقيقة من خلال قصاصات متناثرة، فنري الفيلم يتحدث عن مراكز القوي من خلال صحفية وناشطة سياسية يتم قتلها ويكشف ضابط المباحث أثناء التحقيقات العديد من المفاجآت؛ حيث يبدأ الفيلم بمقتل شخصية سياسية معروفة وتحاول الأحداث كشف غموض الحادث ليصل وكيل النيابة في النهاية إلي غلق ملف التحقيق، وعلي مدار أحداث الفيلم تتكشف أساليب الشرطة في تعنيف المتهمين. كذلك يقدم لنا المخرج أشرف فهمي فيلمه "ليل وقضبان" عام 1973 والذي يوضح مدي بطش السلطة ممثلة في مأمور السجن الذي يقتل أحد السجناء جاعلا الكلاب البوليسية تمزق جثته؛ لأن زوجته تطلب منه إرسال أحد السجناء إليها حينما ينقطع التيار الكهربي، وحينما تعرف أنه أحد الطلاب المسجونين ظلما وحينما يتكرر انقطاع التيار الكهربي تنشأ بينهما علاقة، إلا أن مأمور السجن حينما يعلم بالأمر يلفق للسجين "أحمد"( محمود ياسين) تهمة الهروب من السجن ليطلق خلفه الكلاب البوليسية التي تمزقه بدلا من معاقبة الزوجة الخائنة، وبذلك نراه يستغل سلطاته وينتقم من الحلقة الأضعف- السجين- في مقابل التستر علي الزوجة الخائنة. وعلي ذات النهج يقدم لنا المخرج عاطف سالم فيلمه "حافية علي جسر الذهب" عام 1977 والذي يقدم المزيد من الفضح لمراكز القوي واستغلال نفوذهم السياسي في البطش بالآخرين؛ ومن ثم تحقيق نزواتهم أو إرادتهم رغما عن الآخرين وكأنهم ليسوا من البشر في شيء، حينما يحاول رجل السلطة (عادل أدهم) إرغام (ميرفت أمين) الممثلة الشابة كي تكون له بكافة الطرق المتاحة ، كذلك قدم لنا المخرج محمد راضي عام 1978 فيلمه "وراء الشمس" بجرأته وتميزه الذي تدور أحداثه في السجن الحربي بعد هزيمة يونيو 1967 حيث ينفرد "الجعفري" مدير السجن بتنفيذ قرار شديد السرية طبقا لأوامر عليا باغتيال "محمود" أحد قادة الجيش الوطنيين؛ لأنه يطالب بمحاكمة من تسببوا في الهزيمة ويتم الإيقاع بمجموعة من طلبة الجامعة الناشطين من خلال "سهير"(نادية لطفي) الذين يلاقون في المعتقل الكثير جدا من أساليب التعذيب القمعية كما تقوم المخابرات في النهاية بقتل "سهير" التي بدأت تعود إلي رشدها وإدراك خطأ الوشاية بهؤلاء الطلاب. إلا أنه إذا كانت جميع هذه الأفلام السابقة قد حاولت انتقاد الثورة وسلبياتها ومراكز القوي فيها أيام الفترة الناصرية وجزء من فترة السادات، فان الأفلام التي تلت تلك الفترة لم تختلف كثيرا في نقد هذه الأساليب التي انتقلت إلي الشرطة أيضا كي تبدأ في ممارستها داخل السجون وأقسام الشرطة من تعذيب وإهانة للمواطنين، وان كانت بعض هذه الأفلام قد تناولت هذه الممارسات مرة بشكل هزلي خفيف الحدة، والبعض الآخر منها بشكل صريح وواضح؛ فرأينا عام 1979 فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" للمخرج حسين كمال الذي حاول تقديم الفيلم بشكل فيه قدر من السخرية والفكاهة حينما يتم القبض علي مجموعة من المواطنين الذين حدثت بينهم مشاجرة في الأتوبيس، وفي السجن يتم اتهامهم بتهم سياسية ملفقة؛ ليلاقوا الكثير من التعذيب والإهانة التي تصل ببعضهم إلي الموت، كذلك يقدم لنا حسن يوسف في فيلم من إخراجه فيلم "اثنين علي الطريق" عام 1984 المقتبس عن فيلم بنفس الاسم Two for the road للممثل أودري هيبورن Audrey Hepburn والذي يفضح أيضا أساليب أصحاب النفوذ السياسي في السيطرة علي حياة ومقدرات البشر، وفي نفس العام 1984 يقدم لنا المخرج رأفت الميهي فيلمه "الأفوكاتو" بشكل فيه الكثير من السخرية المريرة، التي تفضح العديد من المتناقضات التي تدور داخل السجون المصرية، وكيف أن أصحاب النفوذ يستطيعون الحياة داخل السجن كما لو أنهم يعيشون في أحد المنتجعات- ولعل هذا يذكرنا برغبة أحمد عز وحبيب العادلي في تكييف وبلاط قيشاني داخل زنازينهم-. إلا أن عام 1986 كان عاما متميزا تماما فظهر فيه فيلم أكثر قسوة وصراحة ونقدا من فيلم "الكرنك" لعلي بدرخان عام 1975 ، وهو فيلم "البريء" للمخرج عاطف الطيب، ذلك الفيلم الذي تعرض لمجزرة رقابية لم تسمح له بالعرض إلا بعد تغيير مشهد النهاية تماما؛ حتي لا يكون محرضا علي الثورة ضد رجال الشرطة؛ ومن ثم حُق لهذا الفيلم التأريخ له عبر مسيرة السينما المصرية؛ فإذا كان فيلم "الكرنك" بداية لإطلاق ما سُمي بأفلام "الكرنكة" لوضوحه وجرأته في نقده الحاد، فلقد كان عاطف الطيب أكثر جرأة ووضوحا في فيلم "البريء" لتوضيح مدي القهر والبلطجة التي تمارسها السلطة داخل سجونها؛ ولعل المخرج الراحل "أمالي بهنسي" قد تأثر كثيرا بالراحل عاطف الطيب فقدم عام 1996 فيلمه "التحويلة" والذي أوضح فيه كيف يمكن لرجل شرطة أن يلفق التهم لأي إنسان حتي ولو كان صديقا له لمجرد أن هذا سوف يخدمه في عمله، أو لأن المجرم الذي يبحث عنه قد هرب، وبالتالي فلابد من تقديم أي ضحية ليتم ممارسة الكثير من أساليب التعذيب والقمع إزاءها حتي الموت. ولكن، هل كانت أساليب القمع التنكيل والتعذيب فقط هي التي اهتمت بها السينما المصرية في السجون والمعتقلات؟ ربما كان فيلم المخرج علي عبد الخالق "المزاج" 1991 _ والذي اهتم به الباحث الدكتور ناجي فوزي اهتماما خاصا فأفرد له بحثا مهما بعنوان السينما المصرية وحقوق الإنسان- يؤكد أن السينما المصرية لم تهتم بالتعذيب فقط داخل السجون المصرية، بل اهتمت أيضا بالفساد الدائر داخل هذه السجون من قبل من يشرفون عليها تجاه الكثير من المساجين الذين يستطيعون رشوتهم؛ من أجل إطلاق حريتهم داخل السجن، ومن ثم يقومون هم أيضا بممارسة سطوتهم علي الآخرين من المساجين الأضعف منهم، فرأينا حارس السجن الذي يقيم علاقات جنسية مع السجينات، والسجينة- تاجرة المخدرات- التي تبيع المخدرات داخل السجن، بل وتمارس سطوتها فتعيش كملكة داخله بعلم مدير السجن وبموافقته، مما يؤكد أن الهدف الأساسي من تقديم هذه النوعية من الأفلام هو فضح الفساد الدائر داخل مؤسسة السجن والذي تنتهجه الشرطة المصرية تجاه الآخرين. ولكن هل استطاعت السينما المصرية التعبير عن هذا الفساد الحقيقي الذي يدور حولنا؟ وهل انتهي بها الأمر عند هذا الحد، أم أنها مازالت تتناوله محاولة فضحه والقضاء عليه حتي ولو كان بشكل هزلي وساخر مثلما رأينا في فيلم "اللي بالي بالك" للمخرج وائل إحسان 2003 أو كما رأيناه بشكل فيه الكثير من عدم النضج والحرفية والضعف الفني في فيلم "ليلة البيبي دول" للمخرج عادل أديب 2008؟ أعتقد أن السينما بما قدمته من أفلام في هذا المجال قد استطاعت أن تحرك الكثيرين جدا من جمهورها العريض لرفض هذا العنف، وهذا الظلم الذي يُمارس عليهم.