خلال عملي كمراسل حربي في الجبهة أثناء حربي الاستنزاف وأكتوبر، أتيح لي أن أقرأ العديد من الكتب عن اسرائيل عامة، وتاريخ الحركة الصهيونية، وعن الجيش الإسرائيلي ، تكوينه ومعاركه وعقيدته القتالية، كثير من هذه الكتب كان مترجما مباشرة عن العبرية، وكان ذلك في اطار نشر خاص يستهدف اشاعة معرفة عميقة وعلمية بالعدو الذي نواجهه، بعد حرب أكتوبر بدأت الأمور تتخذ مسارات أخري، كان أبرزها زيارة الرئيس السادات إلي القدس، ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وكان للمثقفين المصريين موقف جماعي قوي، ضد اقامة علاقات طبيعية مع اسرائيل قبل الحل النهائي للمشكلة الفلسطينية وانهاء الاحتلال للأراضي العربية، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، أي أن موقف المثقفين في مصر لم يكن مطلقا، إنما كان نابعا من التزام أخلاقي له بعده الوطني والقومي ومن قبلهما الانساني، وعبرت اللجنة القومية للدفاع عن الثقافة الوطنية التي رأستها الدكتورة لطيفة الزيات عن هذا الموقف بوضوح وقوة، ورغم اختفاء اللجنة إلا أن جوهر موقفها يزال ممتدا حتي الآن، ومع غياب حوار فعال، وعدم مواجهة مشاكل حقيقية تبرز في الواقع بين الحين والآخر نتج نوع من الاضطراب، والاستكانة إلي مواقف مجردة مطلقة، تسودها الغوغائية أحيانا نتيجة عدم وضوح الرؤية، ومن ذلك ما جري مؤخرا بخصوص المهرجان السينمائي الذي كان مقررا عقده في المركز الثقافي الفرنسي، وأثيرت ضجة ما تزال تداعياتها مستمرة، وبوضوح شديد فإنني أري فيما جري حالة مثالية للغوغائية الثقافية واستخدام الشعارات في غير محلها، الموقف ضد وجود علاقات طبيعية مع اسرائيل لا يعني التوقف عن المعرفة، التوقف عن معرفة اسرائيل وما يصدر عنها من انتاج ثقافي وفكري جزء أساسي من فهم هذا الكيان الذي يعتبر الآن طرفا رئيسيا في الشرق الأوسط، سواء نظرنا إلي هذا الموقع بشكل ايجابي أو استثنائي، إحدي المعضلات التي تواجه عدم التطبيع في رأيي، كيفية تحقيق المعرفة بدون الدخول في علاقات طبيعية حتي إيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية، هذه مشكلة واجهت عمليات الترجمة من العبرية بعد توقيع مصر علي اتفاقيات حماية الحقوق الفكرية، وكان أحد الحلول المطروحة الاتفاق مع الناشرين الأوربيين للمؤلفات الاسرائيلية، قبل التوقيع علي الاتفاقيات كانت الترجمة ممكنة بدون التزامات، وهنا أشير إلي عدد الكتب الكبير الذي ترجم في اطار الظروف التي أشرت اليها، أذكر أنني في الستينات من القرن الماضي قرأت ترجمة كاملة لمذكرات بن جوريون تقع في ثلاثة مجلدات، إننا في حاجة ماسة إلي القراءة عن اسرائيل، إلي معرفة اسرائيل، وأحد أهم وسائل المعرفة السينما، هنا تبرز نفس المعضلة، كيف سنري الأفلام الاسرائيلية اذا كان موقف معظم المثقفين الآن رافضا للتطبيع؟ بالنسبة لي اكتشفت أن بعض الفضائيات الثقافية الأوروبية تعرض أفلاما اسرائيلية، أخص بالذكر منها قناة ARTE الفرنسية، الألمانية، والتي تخصص يوم الاثنين من كل اسبوع للسينما بكل أطيافها، وأذكر أنني رأيت في هذه القناة أفلاما عربية لا يتاح لنا الاطلاع عليها منتجة في المغرب وتونس والجزائر، كذلك أفلام ايرانية وافريقية، أما الفضائيات الاسرائيلية فقد زودتني بمعرفة ثمنية للمجتمع الاسرائيلي، المعرفة ضرورية، ويجب ألا يعطلها الموقف من التطبيع، هنا أجد أن مشاهدة فيلم اسرائيلي كان مكسبا وفرصة للمعرفة، ولم يكن الأمر في حاجة الي كل هذه الضجة، إنني اختلف مع موقف بعض زملائي الأقربين، حتي في أخبار الأدب، الذين تحمسوا لمساندة قرارات المقاطعة، وفي أخبار الأدب من حق كل إنسان أن يقول رأيه ويعبر عن موقفه، فهذه جريدة مثقفين، ولكل وجهة نظره وموقفه، عرض فيلم اسرائيلي في المركز الثقافي الفرنسي فرصة للمعرفة، وهذا المركز ليس قصرا للثقافة وليس قاعة في احدي نقاباتنا، من حق أي انسان ألا يذهب لمشاهدة الفيلم، لكن ما أعترض عليه هذه الحملات الغوغائية التي لا تطرح موقفا موضوعيا إلا من خلال الصياح، انني مع مشاهدة أي فيلم اسرائيلي، وقراءة أي كتاب من أو عن اسرائيل لأن ذلك يضيف إليّ معرفة ضرورية ومطلوبة، إن الأمر في حاجة إلي مناقشة موضوعية للتطبيع والمواقف المتعلقة به حتي لا يصبح الأمر مجرد عناوين لا تعبر عن مضامين حقيقية وأيضا واقعية. [email protected]