إنها " الأيام" الأعظم في تاريخ مصر. لا تستطيع الكلمات، مهما كانت بلاغتها، أن تحيط بما جري فيها. وأحداثها المتتالية لا تتدع للذاكرة المتعبة فرصة لاستعادتها. إنها اللحظة تلو اللحظة التي يقضيها الثوار، منذ بزوغ الفجر حتي فجر اليوم التالي. يعيشون الثورة بأسلوب عيش يعكس رقيّاً شديداً في صدّ اعتداءات البلطجية ومتابعة الأخبار والأكل والنوم والموسيقي لم تعد ثورة ميدان التحرير ثورة من أجل الحرية وحدها، بل ثورة ضدّ الهمجية والتخلّف. الثوّار الجدد،من أبناء التكنولوجيا، ومواقع «فيسبوك»، يواجهون همجاً وبلطجية يستخدمون السيوف والأحصنة والجمال لتفريق المتظاهرين وعقابهم... هكذا يدافع «الديناصورات» عن مقاعدهم بصيغة احترام الأب الكبير، حتي وإن قتلوا هؤلاء الأبناء، إخوانهم في الوطن. علي الجانب الآخر، كانت لافتة قدرة المتظاهرين علي المقاومة، والتعامل بروح حضاريّة ورقّة شديدة أدهشت الجميع. هنا ميدان التحرير، شباب وشيوخ، رجال ونساء، مسلمون ومسيحيون، أساتذة جامعة وأميون، لهجات من كل محافظات مصر، شعراء يلقون قصائدهم، وخطباء يتحدثون في الدين، وفرق موسيقية تعزف أغنياتها، رجل يبحث عن عيل تائهة تجاوز الثمانيين ومختل عقليا، معارض للوحات والكاريكاتيرات..مطاعم تقدم كل شي، نصبة شاي ... أنها صورة لمصر الأخري التي نريدها ... لأن " أللي هحيبعد عن الميدان عمره ما حيبان في الصورة". في ميدان التحرير، جربت الملايين التي حضرت أشكالا من الحكم الذاتي، اخترعت أشكالا من الصمود، يوحدهم هتاف واحد يصدحون به:" الشعب يريد إسقاط النظام". وعلي هامشه شعارات أخري تفنن الجميع في اختراعها وتطوريها يوما بعد أخر من ايام الصمود حسبما يأتيهم من أخبار. جمهورية مستقلة لها نشيدها ، وحكماءها، جريدتها وإذاعتها .. ومستشفاها. هي الأكثر أمانا في مصر كلها، ما لا تجده في شوارع القاهرة المتسعة ستجده هناك: باعة سجائر وبطاطا، وفيشار... نقاط الحماية تنتشر في مداخل الميدان التي تخضع فيها لتفتيش دقيق بشكل راق ومحترم ... منعا لدخول بلطجية الحزب الحاكم ورجال الأمن. وخاصة بعدما جري يوم الأربعاء قبل الماضي. عندما تم الهجوم علي ثوار التحرير بالخيل والجمال والسنج والسيوف، لم يتوقع المتظاهرون أن يكون الغدر بهم بهذه الطريقة. كانوا يعيشون حياتهم بهدوء. لجمتهم المفاجأة، ووقع العدد الأكبر من الإصابات، في اللحظات الأولي بعدما اقتحمت الخيول والجمال تحصيناتهم البسيطة. لكنهم بدأوا يستعيدون تماسكهم، وبدأت معارك الكرّ والفرّ بينهم وبين البلطجية. كانوا يجمعون ما يُلقي عليهم من حجارة ليلقوه علي الجانب الآخر. وكانت مهمة البعض إمدادهم بما يلزم من حجارة عبر تكسير بلاطات الرصيف، بينما تقوم السيدات بالضرب الشديد علي الأسوار الحديدية لميدان التحرير من أجل تحفيزهم وكي لا ترعبهم همجيّة البلطجية. وكأنها طبول الحرب. بعضهم استخدم الورق المقوي لكراتين الماء كدرع واقية أو خوذة وُضعت علي الرأس، من أجل الاحتماء من الحجارة والسيوف. صرخ البعض: إنها انتفاضة الحجارة. ولكن الجانب الآخر، طور أدوات الهجوم ولم يكتف بأسلحة قد تجرح ولا تقتل. أرادها إصابات مميتة، فاستخدم قنابل »المولوتوف« ثم الرصاص الحي. في الساعات الأولي، كانت معظم الإصابات في الرأس. تحوّل مسجد »عمر مكرم« وزاوية أخري صغيرة تُستخدم في الصلاة كمستشفيات. تدفق عدد كبير من الأطباء بأدواتهم البسيطة، وجري الاتصال بالبعض الآخر من أطباء العظام، بعدما استخدم المهاجمون العصيّ لإحداث إصابات في عظام المتظاهرين. وفي الساعات الأولي أيضاً، جاء وزير الصحة، أحمد سامح فريد، إلي الميدان، وطلب مقابلة المتظاهرين لحثّهم علي استخدام عربات الإسعاف، لكنهم رفضوا الاستماع إليه، وطلبوا منه أن يغادر علي الفور. اتفقوا في ما بينهم علي نقل الحالات الخطرة إلي مستشفي خاص هو مستشفي »الشبراويشي«، رافضين الذهاب الي مستشفيات وزارة الصحة حتي لا يلقي القبض عليهم. في المساء، تطور الاعتداء إلي رصاص حي، وهجمات من كل جوانب الميدان. ولكن جري تأمين كل المداخل، باستثناء مدخلين هما مدخل عبد المنعم رياض، وشارع قصر النيل. واستطاع المتظاهرون تحصين أنفسهم بقوة، فعمدوا الي جمع بقايا من السيارات المحترقة للشرطة علي اعتبارها تحصينات، وجمعوا الحجارة التي أُلقيت عليهم تحسّباً واستعداداً لهجمات جديدة، وخاصة أن المرتزقة لا يدافعون عن مبدأ ولا يمثّلون قضية، لذلك من السهل هروبهم مع تماسك الجميع! بعد إحدي جولات البلطجية، بدأت تدخل إلي الميدان عربات الكشري، وبائعي السجائر وبعض عربات »حلوي الكسكس« والبطاطا. تناولوا إفطارهم. وكانت المشكلة أن كثيرين ممن اضطروا الي المبيت خارج منازلهم أُغلقت هواتفهم المحمولة بعدما انتهي شحنها. وعلي الفور جاء أحد المهندسين الموجودين، وطلب شراء عدد من »مشتركات« الكهرباء، وقام بتوصيلها بطريقة ما «بأعمدة الإنارة» في الشارع وتمّ شحن الهواتف، ثم بدأت الحياة. جاءت إلي الميدان فرق موسيقية أنشدت الغناء. وتوافد مئات الشيوخ من الأزهر. ألقوا خطاباً لتحميس المتظاهرين، الذين بدأوا في تشغيل إذاعة داخلية تُلقي البيانات أو تعلّق علي ما يصل من أخبار أو تنفي الشائعات. الأطباء لم يتوقفوا عن العمل. كانوا يتحركون في كل الميدان للتعامل مع المصابين الذين كانوا يبحثون عن ركن من أركان الساحة للراحة قليلاً. كان مدهشاً أن الاعتداءات أو تحذيرات قنوات التلفزيون المصري لم تؤثر علي معنويات من تجمّعوا في الميدان. كل من جاء يوم أمس كان يحمل معه إمدادات طبية أو طعاماً، مياهاً وعصيراً أو حتي سجائر لمن كان يبيت في الميدان. البعض أقام ما يشبه »مقهي« صغيراً لتقديم الشاي والقهوة لمن يطلب. كما أقام عدد من الصحافيين مركزاً صحافياً، أصدر مجلة صغيرة بعنوان »أخبار الثورة« تنقل أخبار المتظاهرين. وتبرّع البعض بثلاث شاشات تلفزيونية. وقام المهندسون بنقل ما تنقله قناة «الجزيرة» أولاً بأول. كلما تغير تردّدها كان المهندسون ينجحون في تشغيلها. وهكذا لم تغب «الجزيرة» عن الميدان مع أنها غابت عن البيوت! حالة من الرقّي فاجأت الجميع فعلاً. وهو ما جري طوال أيام التظاهر. في أحد أركان الميدان رفع أحد المتظاهرين شعاره: الناس اتخنقت. بعد الثورة مافيش كنيسة اتحرقت. وبالفعل هذا ما حدث، لم تشك فتاة واحدة من حادث تحرش، أو يرفع شعار طائفي.. ولكن، هل تستمر حالة الرقي هذه دائماً أم أن للنظام رأياً آخر؟ يمر عسكري في الجيش من المكلفنين بالحماية ..يهتف أحد المتظاهرين :" ارحل"... يضحك العسكري:" يارب"!