الولد الناحل الكفيف تونيا ، بعينيه العسليتين و شعره الأشقر الذي يحلو أن تراه متماوجا ً علي جبينه حين يجلس .. متطايرا ً سنابل ذهبية ً لو مسته الريح ، يغيب والداه عن البيت طيلة النهار، فليس بمقدورهما العودة لرعاية تونيا , تكتفي أُمه بوضع كسرتين من الخبز إلي جوار سريره، يتناول إحداهما في الصباح و الأخري عند القيلولة . لا يستجيب تونيا لدعوة ٍ إلي قليل ٍ من حِساء , من هنا أو هناك ؛ يؤثر أن يبقي في البيت كي لا يُلجئه الجوع إلي هذا أو ذاك . أنا و تونيا أصدقاء , ربما سبقني إلي صداقته " حسن " الذي يسكن في بيت القبة _ هكذا أطلقنا علي بيته مذ جاء للسكني في هذا البيت ، فالبيت به قبة و يقولون .. تحت القبة شيخ ؛ حتي أن أُناسا ً من أحياء ٍ شتي تلتمس البركة من هذا الشيخ , و يؤتي بالشمع و أعواد المسك إلي القبة . اليوم ٌ طويل ٌ في حارتنا , لكنّا نحتال عليه , نجوب جيوب القرية , نذرع الأرض بحثا ً عن شئ ٍ لا نعرف كنهه .. نجري .. و نثرثر ، و تونيا ولد ٌ تضفي البهجة َ ضحكته رغم ما تواري في صدره النحيل من شجن ! - كل الأطفال يحبون الآحاد , فلماذا تونيا يأخذه الرّوع ُ , إلي أحضان الوحشة في الآحاد ؟! هكذا ألقي عليّ صاعقة ً " حسن " فوقع في القلب ما وقع , رغم إحساسي المسبق به . يقول : - ما من أحد ٍ يأخذني للقداس , و أنا منذ شهور ٍ أشتاق لهذا القداس ! - نار ٌ في قلبي كلماتك يا تونيا ! فلِم َ لم يخطر لي من قبل أن أصحبك إلي القداس ؟ لِم َ لم تخبرني ؟ هيا نتهيأ للقداس . لكني منذ شهور ٍ أتفقد تونيا في الآحاد فلا أجده , المؤكد أنه ليس في تلك البناية التي يعلوها الصليب ! إن قس الكنيسة لم يهش لتونيا , حين رافقته إلي هناك ذراعي . لقد أعار ابتساماته لمن دلفوا من العربة الفارهة , كانوا أطفالا ً في حلل البهجة , و بأيديهم عُلب ٌ من حلوي و شموع ٌ و هدايا , تستقر كلها في حِجر القس . في آخر البهو أجلست تونيا , كان يرتجف ؛ قلت ربما رنين الأجراس أفزع قلبه الصغير . جلست ُ خارجا ً أنتظر نهاية القداس كي أصحبه للبيت أو نمضي للعب معا ً . حين انصرف الحضور رأيت القس في وداع العربة الفارهة و همَّ خادم الكنيسة أن يغلق الأبواب . استدركته قائلا ً : - تونيا ! أشاح برأسه و قال لا مباليا ً : - لقد خرج ! - متي .. ؟ - لا أدري .. استدرت راجعا ً و بينما أتفقده وجدته هناك , قابعا ً علي أريكة ٍ خلفية ٍ في فناء الكنيسة يبكي ! - تونيا .. ما يُبكيك ؟ و لِم َ لم تُكمل القداس ؟ هبّ واقفا ً و قال : - الأب .. الأب يا حسن .. الأب لا يحبني ! صاح في وجهي ؛ فهبطت كلماته تحرقني : - ألا تتقرب إلي الرب .. ؟ ألا تأتي بشئ ؟ - .... ! و هكذا كلما جاء الأحد يذوب قلب تونيا مع شمع الكنيسة ، يُصغي إلي القداس من بعيد ، وليس يجرؤ قط علي الدخول إليه . صحت ُ في حسن " : - حسن .. ! كل الأطفال يحبون الآحاد ، و تونيا لن يأخذه الرّوع لأحضان الوحشة في الآحاد ! قابلني عند القبة ليلة الخميس . بعض الناس كعادتهم جاءوا بشموع ٍ و بخور ٍ من أجل القبة . لم نترك في القبة شمعا ً أو عودا ً من مسك ! صاح حسن : - القبة لن يضيرها ألا تضئ ليلة ً ! زرعنا أعواد المسك بحِجرِك يا تونيا ، فجر الجمعة , غسلت أًمي جلبابك و تحممتَ و تلألأ جلباب ٌ أدخر ليوم الجمعة فوق نحافة جسدك , كيلا تبدو في عين القس سوي من أصحاب العربة , تلك الفارهة . حزمنا الشمع إلي أعواد المسك و قدنا تونيا . و علي أطراف الشارع , علي مقربة ٍ من باب كنيسة قريتنا , تلك العربة ذات الأطفال بحلل البهجة و بأيديهم عُلب الحلوي و شموع ٌ و هدايا ، دهست أحلامك يا تونيا ؛ فوقعت علي الأرض صريعا ً ! لم تكن وحشتي هي التي لها بكيت , لكنني آن توقفت , لدي باب الكنيسة , تذكرت تونيا , أعرت أُذنيَّ الرنين َ الذي لم يعل علي صوت حزني . و قادتني الخطي إلي سريري . أزاح الصبح عن نفسي قليلا ً من شجوني ، و تواري بعضها حين انتبهت علي شقيقي يقول : - أقسم لي " حسن " أنه رأي القبة مضاءة ً ليلة َ السبت !