اختار الكاتب البرتغالي الراحل خوسيه ساراماجو "البصيرة" عنواناً لرواية عن قرار ناخبين عدم التصويت في الانتخابات، واتجاههم لما يعرف بالتصويت الأبيض، لأنهم يرفضون العملية الانتخابية بشكل عام، هذا المدخل/ الاستشهاد يبدو مناسباً للحديث عن كتاب، يتناول البصيرة، ولكن بشكل مختلف حيث يتناول الكتاب البصيرة من خلال شأن آخر، وهو شأن ديني لا سياسي.. الكتاب هو "استيجماتزم في المخ.. حكايات ساخرة عن الأوضاع الطائفية في مصر" لمصطفي الصياد، ومينا شنودة، وقبل الحديث عن الكتاب لا بد من التوقف قليلا عند تشخيصه، أي عنوانه، حيث أن من الأعراض المعروفة لمرض النظر هذا أن المُصاب يري بوضوح إما الخطوط الطولية أو العرضية، وهذا هو تفسير الكتاب للحالة الدينية في مصر، فهي لا تتمتع بالرؤية الصحيحة في جميع الأحوال.. لهذا يخاطب الكتاب القارئ من هذه المنطقة الغائبة عن مجال بصره، هكذا سيشاهد القبطي الحكاية من الجانب الآخر من خلال حكايات الصياد، والعكس كذلك بالنسبة للمسلم مع حكايات شنودة. كما أن القارئ لابد أن يفكر، أثناء القراءة، في حداثة سن المؤلفين، ومحاولتهما تقديم الصورة الكاملة طوال عملية القراءة لحكايات "استيجماتزم في المخ".. هكذا يتحول الاستيجماتيزم من مرض يصيب البصر، إلي داء يستهدف البصيرة. يحاول الكاتبان معالجته مثلما فعل يحيي حقي في "قنديل أم هاشم". يتناول الكتاب بشكل ساخر الشأن الطائفي عبر حكايات مؤلفيه. ربما لأن الأوضاع الطائفية المُلتهبة، لا تستحق إلا السخرية منها، وأن الموضوع برمته، أي التعصب الديني، ليس أمراً مقنعاً علي أية حال.. لهذا يلجأ الكاتبان مصطفي الصياد، ومينا شنودة، لضم حكاياتهما سوياً في كتاب واحد، دون أن يحددا من كاتب الحكاية إلا في الفهرس.. هكذا كتب "شنو"، و"صياد" كتابهما محملاً برسوم جرافيكية لهاني خالد، دون أن يراعيا شعرة معاوية في التعامل مع الموضوع الديني. اختيار السخرية لتناول شأن، هكذا، حساس مغامرة تمّكن الكاتبان الشابان من خوضها بنجاح، وقدما حكايات عن محاولات الغرباء للبحث عن الاسم المميز والكاشف لدين صاحبه، وكذلك عن الدين كشرط للوظيفة، وانغلاق الأقباط، وعزلتهم سواء في المناطق السكنية أو داخل الفضاء العام مثل الجامعة أو المدرسة، في إحدي الحكايات يردد الكاتب كلمات أغنية لعفاف راضي، بشكل مختلف حيث يكتب: "أن مصر هي أمي وليست دين أمي"! اللافت أن هناك تفسيراً آخر، ومفاجئ أيضاً، لكل حكاية، التفسير لا علاقة له بالتمييز الديني .. فالعائلة القبطية التي كانت ترفض صداقة طفلها لصديق مسلم، في حكاية "علي العدل"، كانت ترفض لسبب لا علاقة له بالانغلاق أو الكراهية، بل كان السبب الخفي/ الحقيقي للرفض أن "علي العدل" لم يكن إلا شخصية متخيلة في ذهن الطفل القبطي المتوحد، الذي مات منتحراً في محاولة لدفع الصديق المسلم من الشباك! (لم يكن هناك صديق يدفع، لهذا سقط الولد.. الحكاية تقع في دفتر مذكرات الطفل، الموضوعة أمام طبيب نفسي يشخص حالته.. هذه الحكاية تبرز تنوع تكنيك الحكي في الكتاب). يبدو الحديث عن الوحدة الوطنية- مع هذه الحكايات- مجرد صيغة جمالية وليس أكثر..لا يبدو تحققها في الواقع إلا مشروطاً بهم مشترك، مثل الهم الذي جمع كلا من شنودة والصياد، وإخلاص وفهم حقيقي كذلك للشرخ الحقيقي الموجود في العلاقة بين المسلمين والأقباط. بعض الحكايات مستوحاة من الواقع بشكل صريح مثل الحديث عن قرية "قرارة"، القبطية والمجاورة لنجع حمادي. هناك يتعلم الأطفال الأقباط تلاوة القرآن، ليمارسوا تلاوة "آيات السماء" علي مقابر المسلمين. هناك يطلقون علي "سور" القرآن اسم "آيات السماء"، دون تحديد ديانتها، هي كلام مقدس نزل من السماء ولهذا يحفظونه، ويتلونه.. هذه هي الفكرة المُرتجاة من الكتاب علي ما يبدو. حكاية أخري بالكتاب، رغم أحداثها المأساوية إلا إنها تبدو واقعية، تحمل الحكاية عنوان "البيه معاه حصانة"، حيث تدور حول حادث اطلاق رصاص أمام كنيسة، سقط علي إثره عدد من الأقباط قتلي. مُطلق الرصاص "بلطجي"، اسمه "عصفور"، يتمتع بحماية عضو مجلس شعب، "عبد الحميد الفول"، هنا يبدو للعنف الطائفي أسباباً أخري لا علاقة لها بالدين، أو حتي التشدد الديني، بل الفساد السياسي، الحكاية تدور أحداثها في الدلتا، وإن كانت تتشابه مع أحداث نجع حمادي، وبطلها البلطجي "حمام" الكموني! تورط الكتاب في الشأن العام يعلو، ويتداخل أكثر، ويتضح للقارئ مع تتابع الحكايات، ودخولها في قلب الحياة اليومية للكاتبين، وكذلك كلما ارتبطت الحكاية المكتوبة بحادث خطير مثل ما جري من اختفاء للمواطنة "كاميليا شحاتة"، أو غيرها، هكذا يجد القارئ أن مناخ الشحن المحيط بالحادث، وكذلك عملية التسخين المتعمد، تتم بلا ترتيب مُسبق، هكذا يتم التفسير الطائفي لأي حادث يمس قبطي بأن مرتكبه مسلم، دون التأكد، والعكس يحدث كذلك، بمعني أنه لا يوجد من يصنع الفتنة، بل إن هناك توتر حقيقي في العلاقة بين المسلمين والأقباط، علي خلفيته، تتم صناعة جديدة لنظرية المؤامرة، حيث هناك عدو دائما، وهذا العدو هو دائما من يحمل ضمير الغائب "هم"، هكذا يتحدث سائق التاكسي مع أحد الكاتبين متهماً- في حديثه- المسلمين باختطاف زوجة قسيس، دون أن يتأكد، ويعتقد أن السبب الحقيقي وراء اختفاء الزوجة يكمن في تغييرها للديانة، ولكن ما يتضح فيما بعد، بالحكاية، أن السبب هو خلاف مادي بينها وبين زوجها، لا أكثر، فمكثت- علي إثر هذا الخلاف- لفترة لدي صديقة لها.. هكذا تتصاعد دراما الواقع، لتصل، بتحول مفاجئ، إلي نقطة الصفر، وكأنها بنيت علي بنيان هش.. كما لو أن كل الحكايات ذات الملمح الطائفي، إذا تمت مناقشتها في مناخ سوي، لا يحمل اتهامات مُسبقة، ستتضح حقيقتها، وتوضع في حجمها الطبيعي، الفردي، أو العفوي! لا تخلو الحكايات من طابع الاعتراف، أو الكتابة الذاتية، في إحدي الحكايات يكشف مينا شنودة سراً، يحكي عن نصيحة يرددها الآباء علي أطفالهم، لتكون "حلقة" في آذانهم قبل اختبار اللغة العربية، في جميع المراحل الدراسية، حيث تحث الأسرة القبطية الطالب علي أن يكتب آياتاً من القرآن داخل موضوع التعبير، ليضمن الحصول علي الدرجة كاملة، لكن مينا يكتشف أنه لم ينَل أبداً هذه الدرجة، والسر في هذا أن "الجنة تحت أقدام الأمهات"، ليست من آيات القرآن!! مع ختام الكتاب يكتب الصياد قصصاً قصيرة اختار لها عنوان "ميكرو ستوري"، القصص القصيرة جدا ترسم أوضاع حالية، وتؤكد كذلك علي وجود خلل في المجتمع، هكذا يولد كلام طفل عن مباراة كرة قدم احتوت علي لاعب قبطي اكتشاف الطفل أن الأقباط "كويسيين" أيضاً، السؤال الآن: من الذي قدم لهذا الطفل ما ينفي هذه الصفة عن الأقباط؟ .. هكذا تكشف القصة القصيرة أن الموضوع أضخم مما نتخيل!! من ناحية أخري يبدو توقيت صدور الكتاب عن دار "كيان" الآن مناسباً جداً، الموضوع الطائفي لا يزال حاضراً، وتوابعه لم تهدأ بعد، لا نزال نبحث عن مرتكب حادث كنيسة "القديسين"، وإن كان الكتاب يشير إلي المتهم بين السطور.. وهو مرض البصيرة. الكتاب: استيجماتزم في المخ.. حكايات ساخرة عن الأوضاع الطائفية في مصر المؤلف: مصطفي الصياد ومينا شنودة الناشر: دار كيان