في مائتي صفحة عن دار نشر ألفاجورا الإسبانية صدرت رواية خوسيه ساراماجو (1922 - 2010) الأخيرة "قابيل" بالإسبانية مع مطلع هذا العام، ومن المقرر أن تصدر الطبعة الإنجليزية مع نهايته، وإذا كان أديب نوبل 1998 الذي رحل هذه الأيام عن عمر يناهز ال87 عاما، قد قدم منذ 18 عاما في روايته السابقة "الإنجيل بحسب يسوع المسيح" 1992 رؤية جديدة صادمة للعهد الجديد من الكتاب المقدس، فإنه في "قابيل" يعود بنا إلي السرديات الأولي للكتاب المقدس، عبر خط سير غير تقليدي يأخذنا إلي أجواء العهد القديم: المدن، قصور الطغاة وساحات القتال، مازجا ذلك بروح النكتة السوداوية وبحس السخرية المبطنة واللاذعة التي هي السمة المميزة لعمله. يتناول ساراماجو في "قابيل" كما في سابقتها موضوع الإله، تستدعي موقف المساءلة أمام الله، وتبحث عن موضوع الأبدية والدين والسلطة والاستبداد، وأسئلة أخري كثيرة يقدمها ساراماجو بشيء من التجديد الأدبي غير التقليدي، حيث تظهر في الرواية بوضوح الجوانب الحديثة والمدهشة في كتابة ساراماجو، ومنها القدرة علي نسج حكاية جديدة تماما وكلية من قصة قديمة نعرفها جميعا مسبقا، أو القدرة علي صنع التاريخ من جديد من البداية إلي النهاية، وأخذ القارئ إلي رحلة من المفارقات الساخرة والمؤثرة التي يجد نفسه فيها متورطا في قلب المعركة بين الخالق ومخلوقه. وعموما ليست تلك الأفكار الصادمة بغريبة عن الكاتب البرتغالي صاحب النصيب الأكبر من الجدل في بلاده، ففي عام 1992، غادر وطنه البرتغال إلي مقاطعة لانزاروتي الإسبانية في جزر الكناري - حيث أقام حتي وفاته - وذلك فيما يشبه الاعتصام الرمزي ضد الحكومة البرتغالية التي عرقلت ترشيح رواية "الإنجيل بحسب يسوع" لجائزة أدبية أوروبية كبري، لكن صاحب "أرض الخطيئة" بعد رحيله عن دنيانا يبدو معلنا عن إصراره علي مواصلة الصدام، لكن هذه المرة في حق الذات الإلهية كما يكتب عندنا. فبحسب تصريحات تناقلتها وسائل الإعلام عن مسئولين بالكنيسة الكاثوليكية بالبرتغال وقت اشتعال أزمة الرواية السابقة التي تصوّر المسيح بالكائن الأرضي أو الإنسان غير المعصوم من الأخطاء، إلي درجة أنه جعله يقيم علاقة حسية مع مريم المجدلية، يقدم ساراماجو أدبا هجوميا علي الكتاب المقدس، وذلك تعليقا علي وصفه إياه ب"كتيب أو دليل الأخلاق السيئة"، فيما هذه الأيام اختارت صحف تابعة للكنيسة والفاتيكان اتجاها هجوميا في نعي ساراماجو واتهمته بالإلحاد والهرطقة. لا تراجع عن الآراء الجريئة الصادمة، هكذا أكدت نبرة حديث ساراماجو في حفل إطلاق روايته قبل شهور من رحيله، وأعلن خلالها عن آرائه بأن المجتمع والتاريخ البشري بإمكانه أن يكون أفضل حالا وأكثر سلاما بدون وجود الدين أو الكتاب المقدس، حيث يوجه ساراماجو في عمله الخيالي في المقام الأول نظرة انتقادية مرحة في بعض الأحيان إلي حياة ابني آدم وحواء، ويبدو في "قابيل" تآلفا واضحا مع الرواية السابقة "الإنجيل بحسب المسيح"، خاصة في ذلك الجزء الذي يظهر التشابه بين دوافع الضحايا البشريين في الروايتين، وكذلك في فكرة الاستبداد الإلهي وفرض السيطرة من وجهة نظر الكاتب، إلي جانب أن الروايتين هما إعادة لكتابة التاريخ عبر مسألتي الحرية والثورة، أو "ملء الفراغات لمواجهة التاريخ البائس" كما يفضل الروائي اليساري أو الشيوعي القول. تبدأ القصة بأسلوب نثري غير تقليدي، جديد علي ساراماجو نفسه، مما يجعل محاولة ترجمة هذا العمل وكأنها دخول في حقل من الألغام، يكتب ساراماجو في مدخل رواية "قابيل": "عندما أدرك الرب أو السيد، والمعروف أيضا باسم الله، أن آدم وحواء لم ينطقا بكلمة واحدة بل لم يصدرا ولو صوتا بسيطا، لم يجد ما يلجأ إليه سوي الغضب من نفسه، لأنه لم يكن هناك أحد آخر في جنة عدن كان مسئولا عن ذلك الخطأ الخطير، وفي ظل نوبة من الغضب، قرر ما فعله من دون تأمل"! ومن هنا يؤسس ساراماجو لنظرة بانورامية علي قصص الخلق والدمار في الكتاب المقدس، ويتضح هذا بشكل خاص عندما ينتقل إلي قصة قابيل وهابيل، وموضوع القربان، لكن بدلا من التركيز علي غضب قابيل الغيور، ومن هنا تصبح هذه الرواية "معيبة" علي عكس سابقتها، فالكاتب يتطاول علي الذات الإلهيه الذي يوبخ قابيل دون أن يسمح له بأن يشرح أسبابه أو يعبر عن نفسه، وبهذا العرض لقصة القتل الأولي في تاريخ البشرية، قتل قابيل ساراماجو أخاه هابيل تحد لله. تحفل رواية "قابيل" إلي جانب ذلك بشخصيات عديدة من الكتاب المقدس أو الأساطير اليهودية، فهناك وجود لليليت، زوجة آدم الأولي الأسطورية، وعلي الرغم من محاولات ساراماجو التركيز علي ظهورها الجنسي في الرواية، إلا أنه يركز علي صفتها كأم الشياطين، وهناك شخصيات توراتية أخري مثل إبراهيم ولوط ويشوع ونوح، وفي بداية ظهور كل هؤلاء في الرواية، يعمد ساراماجو إلي تقديم صورة وصفية وجيزة عن كل شخصية، فإبراهيم مثلا يتم تصويره في الرواية علي أنه شخصية مزدوجة، بينما يظهر لوط مخمورا مع بناته، وفي النهاية تحيط هذه الأجواء المشحونة صورة الرب الجائر والمستبد. عبر تلك الانتقالات يسلط ساراماجو الضوء علي فكرة الغضب الإلهي علي البشرية، وأن الأبناء لا يمكنهم بأي حال من الأحوال أن يتحملوا مسئولية آثام آبائهم، وبرأيه أن إرادة الله دائما هي في معاقبة الأجيال المقبلة علي أخطاء أسلافها. لكن قصة قابيل في تلك الرواية هي الجزء الأضعف نسبيا، حيث يخلق ساراماجو بعدا للسرد يجعل من الصعب فهمه في بعض الأحيان، فضلا عن تقديمه المقزز لكيفية تصوير العهد القديم لله، وهو ما جعله لسوء الحظ يفشل سرديا وإبداعيا في روايته الأخيرة، بل هي "رواية فشل عميق" كما كتب علي إحدي المدونات، لمللها أولا وضلالها الطريق إلي التحقيق في التناقضات الداخلية للكتاب المقدس، مما يجعلها مجرد رواية تسرد حكاية الإدانة، وفي كل الأحوال تؤكد علي ساراماجو الكاتب المشكك والمنتفض والمزعج دائما، الذي وفي إلي آخر لحظة بالوعد بأن يصبح أكثر حرية كلما طعن بالسن. أما بالنسبة لساراماجو نفسه فإن أعماله تبحث عن موضوعات الله والشيطان والجيد والسيئ، باعتبارها أشياء تدور في رؤوسنا وليست آتية من السماء أو الجحيم، "الخير والشر لا بداية لهما، فبداخل عقولنا يكمن كل شيء"، كلها أشياء مخترعة، حتي الله.