يضرب لنا الدكتور مجدي يعقوب مثلاً في القيمة والمثابرة والنجاح المبهر الذي يجييء كنتيجة للعمل الدؤوب، أيضا سلوك الدروب المؤدية إلي خدمة الإنسانية، منذ سنوات طويلة يتردد اسمه كطبيب متخصص في جراحة القلب، أسهم في تطوير هذا العلم، خاصة فيما يتعلق بزرع القلوب التي تنقل من بشر إلي آخرين، لقد تلقي العلم في جامعة القاهرة وتخرج منها قبل أن يسافر إلي الاسكندرية، تعلم مجانا مثل آلاف الأطباء المصريين الذين نبغ منهم أسماء كبيرة، أذكر أنني في كليفلاند بالولايات المتحدة التقيت عام ستة وتسعين بالدكتور فوزي اسطفانوس، وقد أخبرني طبيب أمريكي كبير أنه أحدث تطوراً هاماً في علم تخدير القلوب، وان انجازه لا يقل عن التطوير الذي أحدثه الدكتور مجدي في الجراحة، لكن قدر طبيب التخدير أنه في الظل دائماً، اتوقف عند حوار أجريته معه أخيراً، قال لي بانفعال: لقد علمتنا مصر مجانا ويجب أن نرد الجميل. لم تغب مصر عن فؤاد الدكتور مجدي يعقوب رغم بلوغه أرفع الدرجات العلمية في الخارج، ولم يستخدم علاقته بها لاشباع نهم اعلامي يبدو واضحاً علي بعض من حققوا مجداً في الخارج ولكن مثلهم كثير، يجيئون إلي مصر للظهور في التليفزيون والاستمتاع بترحيب المصريين بهم الذين ينظرون دائما إلي القادم من بعيد بتبجيل مضاعف. عمل مجدي يعقوب في مجاله العلمي، لم يتطلع إلي شيء آخر وهنا أجد ما يجمعه بنجيب محفوظ، تلك الروح التي تقترب من تكوين الصوفي الذي يمشي علي الطريق متجها إلي هدف حدده جيداً، أو الراهب المتوحد بالمطلق من خلال ذاته، لم يفكر نجيب محفوظ في اعلام أو شهرة أو ثروة، فقط الكتابة ثم الكتابة حتي جاءته نوبل وهو نائم في رقدته اليومية، في الظهيرة، بينما يبذل كتاب آخرون الجهد الجهيد للفت الانظار مع احكام التخطيط، ولا يقتصر الأمر علي الكبار، بل إن بعض الصغار يغازلون نوبل من خلال مضامين أعمالهم التي يلمحون فيها إلي من يتصورون انهم مفاتيح الجائزة، اعني اسرائيل ومن ينتسب إليها. اخلص الدكتور مجدي لعلمه، ونبغ فيه، وأضاف إليه، تماما كما اخلص محفوظ للكتابة، في يوم الثلاثاء الماضي وقع بصري عليه لأول مرة، وقد كتبت عنه مراراً، وطالبت بمنحه قلادة النيل مع الدكتور محمد غنيم مؤسس مركز الكلي الذي أصبح أهم مركز في الشرق الأوسط بمدينة المنصورة، كنت اجلس في مقعد قريب جدا منه، رحت اتطلع إليه، مما لاحظته تواضعه الشديد، وخجله، وتذكرت ليلة الاحتفال بمنح محفوظ قلادة النيل، وصعوده إلي نفس المنصة وخطابه الموجز، لحظة استثنائية في حياة كل منهما، لم يؤثر ما وصلا إليه من مكانة في تواضع كل منهما، انها فطرة جبل عليها العلماء الكبار والمبدعون العظام، كان صوت الدكتور مجدي خافتاً بل ومتعثراً وهو يلقي كلمته بعد تقليده الوسام الأرفع في مصر، ما يجمعه بمحفوظ الأفق الإنساني، كان نجيب محفوظ ذا نظرة كونية ورؤية انسانية شاملة، وهذا ما يميزه عن كتاب آخرين اكتفوا بالحكي للحكي فقط فجاءت أعمالهم محدودة، قصيرة التأثير حتي وان حظي بعضهم بالمناصب العليا والشهرة الذائعة، بعد ما وصل إليه مجدي يعقوب من مكانة جاء إلي مصر ليرد الجميل، جاء إلي الفقراء، إلي المرضي الذين لا موقع لهم في خطط المستثمرين الجدد الذين حولوا العلاج إلي استثمار، اتجه إلي أقصي الجنوب، إلي أسوان التي مازالت مرتبطة في كثير من الأذهان بفكرة العقاب منذ أن كانت منفي للموظفين، ورغم التطور الذي وقع بها، إلا أنها في نظر الكثيرين منفي، قبل افتتاح مستشفي البر الغربي في الأقصر العام الماضي لم تكن هناك غرفة رعاية مركزة واحدة من أسوان حتي أسيوط،أي علي مدي ثلاث محافظات كبيرة تشكل في مجموعها ثلث مساحة مصر، ومستشفي الأقصر انشيء بدافع أصلي هو علاج السائحين الذين قد تقع لهم حوادث أو اعراض مفاجئة، إلي أسوان اتجه مجدي يعقوب لينشيء مركزاً علمياً متقدما لجراحات القلب وليخص الفقراء بالعناية، أتمني لو نعرف من الذي مول هذا العمل؟ هل يوجد بينهم مستثمرون مصريون؟ كيف تمت الفكرة في اطار الواقع، لم يسع مجدي يعقوب إلي تقدير أو تكريم أو شهرة، عمل وفق ايمانه وتكوينه الداخلي، وجاء التكريم الرفيع محملا بالدلالات، لا أبالغ إذا قلت ان قلادة النيل - وهي قطعة رائعة من الفن المصري الرفيع - التي طوقت عنق العبقري المصري حدث ثقافي في جوهره، وهو فاتحة جيدة لعام جديد.