في بداية الخمسينيات تولي الدكتور طه حسين وزارة المعارف العمومية في حكومة الوفد، وهكذا سنحت الفرصة لكي يحقق أفكاره حول التعليم إلي واقع.. هذه الأفكار ضمنها كتابه »مستقبل الثقافة في مصر« وبدون قراءة هذا الكتاب واستيعابه لا يمكن أن نفهم المشاكل الحالية للتعليم، لعل طه حسين هو المثقف الأبعد نظراً في ثقافتنا العربية المعاصرة، وفي كل تجربة أو قضية أكتشف بُعد نظر هذا الرجل الفذ.. في هذه الفترة المبكرة قرر إنشاء مركز ثقافي للدراسات العربية والإسلامية في مدريد، كان القرار له أكثر من بُعد، قريب وبعيد، فبعد خمسة قرون من سقوط الأندلس يقوم مركز للدراسات في قلب مدريد عاصمة اسبانيا يعرف ويقدم الثقافة العربية والإسلامية، كانت اسبانيا محكومة بالفاشية في هذه المرحلة، ومثل كل رموز الدولة المصرية التي كانت في أوج قوتها وقتئذ تم اختيار مبني فاخر، فسيح، مهيب، في قلب العاصمة الاسبانية، وبالطبع تاريخه يعكس أحوالنا، تولاه أساتذة كبار أجلاء، ثم تدهور الحال وأداره من هم دونه بكثير، لكن ظل هذا المركز أو المعهد يعكس بُعد نظر طه حسين وقدرته علي النفاذ إلي المستقبل، هذا المركز كان له أثر عميق في نشر الثقافة العربية الصحيحة، والمفهوم السمح للإسلام، قبل أن تظهر في العاصمة الاسبانية مراكز تنشر المبادئ المتطرفة وتدفع المال للاسبانيات اللواتي يقبلن ارتداء الحجاب، تجربة المركز الثقافي في مدريد لم تستمر في بلاد أخري لأن طه حسين لم يستمر في وزارة المعارف، وبعد مغادرته بقيت بعض أفكاره التي حققتها حكومة الثورة، واختفت أفكار أخري، كانت الثقافة العربية في حاجة إلي مراكز ومعاهد متشابهة في العالم لتقديم الثقافة العربية بمفهوم شامل، لا ينحو إلي التعصب وضيق الأفق، حتي بعد أن تم انشاء مراكز مهمة بمبادرة من البلاد الأخري مثل معهد العالم العربي في باريس الذي يقع في أجمل وأهم مكان في باريس إلا أن الدول العربية لم تتفق فيما بينها وتخلف بعضها عن دفع الحصص المقررة مما هدد المعهد بالإغلاق لولا تدخل الحكومة الفرنسية. هذه مقدمة لفهم ضرورة الدعوة التي أطلقناها في »أخبار الأدب« لإنشاء مركز ثقافي عربي في نيويورك، وقد ازدادت قناعتي بهذه الحاجة بعد إقامتي الأخيرة في هذه العاصمة التي تعتبر مركزاً ثقافياً عالمياً الآن، وبعض الفنون تتمركز فيها الآن، خاصة الفن التشكيلي والموسيقي وفنون الأوبرا، الولاياتالمتحدة بلد مفتوح، وقابل لجميع التيارات الثقافية والفكرية.. فلماذا عجز العرب عن إيجاد منابر قوية لثقافتهم هناك، خاصة أن الوضع بالنسبة لهم أصبح سيئاً جداً بعد الحادي عشر من سبتمبر والذي أوجد الأرضية المعادية للعرب وللإسلام والمسلمين حتي الآن، للأسف لا يوجد نشاط عربي مركز، كل دولة تعمل علي حدة، وفقط علي المستوي الرسمي، وبعض الدول العربية تنفق الملايين علي نشر مذاهب معينة وليس الإسلام نفسه، وثمة أعمال أخري ليست بريئة.. أحدهم تمكن من جمع أكثر من ستمائة مليون دولار، وقرر إنشاء مركز ثقافي إسلامي، عظيم بالطبع، لكن اختار له موقعاً في نيويورك علي بُعد عدة أمتار من موقع البرجين اللذين تم نسفهما في عمل إرهابي مروع ماتزال ظلاله ثقيلة علي العالم عامة، وعلي الإسلام والمسلمين.. في رأيي أن اختيار المكان يضر ولا ينفع، وقد أثار بالفعل ضجة كبري من جانب أهالي ضحايا سبتمبر وبالطبع كل الكارهين للعرب، ودافع البعض- ومنهم يهود- عن حرية إقامة أماكن العبادة، هذا صحيح من الناحية النظرية، ولكن ثمة أعمالاً تحتاج إلي حصافة، إلا إذا كان الهدف الحقيقي أخطر، فسوف يصبح هذا المركز هدفاً للكراهية ومصدراً للتعصب ضد العرب والثقافة العربية والإسلام والمسلمين.. كان من الممكن أن تقوم الجامعة العربية بهذا الدور الثقافي، لكنه كيان بيروقراطي عاجز، وتفتقد قيادته إلي الرؤية الثقافية، هنا أصل إلي مسئولية مصر.. إن الحاجة ملحة لإنشاء مركز ثقافي مصري في نيويورك علي غرار أكاديمية روما والمعهد المصري الإسلامي في مدريد، وإمكانية ذلك متاحة، وإننا نفتح صفحات »أخبار الأدب« للحوار حول هذا الموضوع لأهميته وحيويته، راجياً أن نتسلح برؤية طه حسين بعيدة النظر. [email protected]