1 تحب أن تجلس إلي جوار (البابور) رفقة أمك وأختك (شيماء)، وتحب أمك حين تقول لك: - انت راجل البيت... انت راجلنا. لذة الرجولة تسري في بدنك الضئيل، تغار منك (شيماء) وتسخر من قدميك الهزيلتين وتقول: - بقي ده راجل ده!ده عامل زي البرص. وقتها، تزوم وتزأر كأسد جريح، تنتفض من مكانك وتنقض عليها، تحاول أن تمسك بها؛ فتختبئ هي خلف أمك وتستغيث بها. تحول أمك بينكما وتزعق وتصرخ ثم تبكي كثيرا وتنتحب، تلعن - أمك - والدك وتلعن الغربة وتسبّ لقمة العيش التي أدت إلي غربته. أحيانا تسمعها تناجيه وتشكو له من أفعال عماتك ومن ظلم جدتك، تحس أنت بالشفقة تجاه دموع أمك، تجلس علي حجرها وتربت علي ظهرها، تنظر هي لك وتبتسم، تحتضنك بقوة حتي تشعر بأن ضلوعك تتكسر، وتقبّل عينك تلك القبّلة اللعينة التي تكرهها. ثم تمسح مخاطها في طرف جلبابها، تضعك بجوار (البابور) وتقوم، تحمل (شيماء) وتُجلسها بجانبك. تقول أمك: - صوت البابور بالليل بيطرد الشياطين. تخاف (شيماء)؛ فتحاول إغاظتها. تقول: - يا خوافة. تنظر (شيماء) إلي أمك وتحثها علي التدخل؛ فتنهرك أمك قائلة: - يا بني بطل شقاوة.. انت إيه! معجون بمية عفاريت؟ والله لو ماسكتش هبعت لأبوك وأخليه مايجيبلكش العجلة. تقول متوسلا: - خلاص... خلاص..أنا هقعد ساكت. تضع كفك الصغير علي فمك، وسرعان ما تطلب (شيماء) حدوتة، والحواديت كلها متشابهة، تبدأ ب" صلي علي النبي" وتنتهي ب"وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات"، تكره أنت الشاطر حسن ولص بغداد وتحب حكاية أبو وش مسلوخ، في حين تحب أختك حكاية ست الحسن والجمال والأقزام السبعة، وفي الحواديت يسافر البطل إلي بلدان بعيدة، يسكنها ناس غرباء، يصل إليها البطل بعد رحلات تمتلئ بالمخاطر والعفاريت والعمالقة، غير أن البطل - في نهاية كل حدوتة - يعود من رحلته غانما ظافرا باللؤلؤ والمرجان والياقوت؛ ليبنٍِ قصرا ويتزوج الأميرة التي غالبا ما تكون ابنة السلطان، وترتجل أمك في الحكايات فتغير منها وتضيف لها في كل مرة، وتغير نبرة صوتها أثناء الحكي؛ فمرة يكون صوتها غليظا خشنا حين تتحدث بصوت المارد، ومرة يكون ناعما رقيقا حين تتحدث بصوت الأميرة. تكتفي بالإصغاء إليها، وعيناك لا تفارقان شفتيها أبدا. تنام أختك قبل أن تنتهي الحدوتة كعادتها؛ فتحملها أمك وتضعها علي الكنبة الصغيرة. تتوسل إلي أمك كي تكمل الحكاية، ترفض وتخبرك أنها (تعبانة)؛ فتسألها: - يعني إيه بلاد تشيله وبلاد تحطه؟ - يعني بيفضل ماشي لغاية ما يوصل للبلد اللي هو عاوزها. ثم تطفئ النور وهي تُكمل: - نام بقي..انت دماغك مصفحة زي أبوك! ولكنك لا تنام، تغمض جفنيك فقط وتفكر في والدك، تتساءل: كيف سار حتي وصل للعراق؟ هل قابل في طريقه أية مخاطر؟ وماذا سيجلب لك بعد مجيئه؟... وتتذكر شكوي أمك للجيران حين تقول لهم: "سفره زي عدمه..من ساعة ما سافر مابعتش قرش..لولا خدمة البيوت كانت العيال دي ماتت من الجوع". تعتقد أن أمك كاذبة، هي تكذب دائما. تقول لجدتك: - أنا رايحة أزور أختي... وهاخد (عاطف) معايا. ولكنها لا تصطحبك إلي خالتك، تخبرك بأنها ستجعلك تزور حديقة الحيوان وستشتري لك الحلويات التي تحبها، وهناك - بداخل الحديقة - تجد الرجل الغريب في انتظاركما، يبتسم في وجهك ويمسح علي رأسك، يلاطفك ثم يقول: - بسم الله ما شاء الله...الواد بقي راجل أهو. الرجل الغريب يجلب لك الهدايا والسندوتشات، يجلس إلي جوار أمك، يميل نحو أذنها ويهمس، فتضحك هي بصوت عالٍ وتدس السندوتش في فمه، يقضم منه قضمة كبيرة ثم يبتسم ببلاهة. وقتها - فقط- تتمني أن تنقض عليه، أن تركله في معدته حتي تقتله، غير أنك تغضب من أمك وتقول لها: - أنا مش بحب جنينة الحيوانات....أنا مش عاوز أروحها تاني. في المرة التالية، اصطحبتك إلي حديقة الأسماك، الرجل الغريب يذهب إلي هناك أيضا، في هذه المرة أحضر لك كرة: كبيرة، ملونة وجميلة. فرحت بها، وأحببت الرجل الغريب، والدك لم يتنزه معك أبدا، ولا يحضر لك الهدايا. تلح أمك بعد كل لقاء: - اوعي تجيب سيرة لحد.. أنا أمك حبيبتك.. أنا باخدك معايا عشان انت راجلي .. مش زي السوسة (شيماء) الفتانة. 2 حين يشتد العراك بين أمك وعماتك تفضل أن تختبئ تحت السرير، تجاهد لتمنع صوت السباب من اختراقك، تبكي بعنف، ليس خوفا من المعركة الدائرة علي سلالم البيت، ولكن لإحساسك بالمهانة والذل والقهر. تتساءل: لماذا لا ترحل أمك؟ لماذا لا تجعل (البلاد تشيلها وتحطها)؟ عندما تصارحها بما يدور في خاطرك، تقول لك: - انت لسه صغير ما تفهمش حاجة... يا بني الحياة عذاب في عذاب.. والست من غير راجل تنهشها كلاب السكك. غير أنك لا تقتنع بكلامها وتظل تحلم بالبلدان البعيدة، تحلم بالخير الوفير وابنة السلطان والجن الطيب والناس الغرباء. 3 اليوم -فقط - تعقد العزم علي الرحيل، تسر الأمر في نفسك، ولكن عند خروجك من البيت تخبر (شيماء) بمكنونك، وتحذرها من إفشاء سرك فتطلب منك أن تأتي معك، توافق. علي ناصية الحارة يكمن الاختيار، تتردد قليلا ثم تختار الجانب الأيمن من الطريق، تلتقط كف (شيماء) وتبدآن في المشي. الحواري الضيقة تتلاشي، تمشيان في الشوارع الواسعة ذات الإضاءة المبهرة والسيارات المسرعة، تبهرك الشوارع الجميلة. بعد وقت طويل تذوب الشوارع وتجد نفسك في حوارِ ضيقة كحارتك، الناس هنا متشابهون، أطفال عرايا، ونساء تشبه أمك وعماتك يجلسن أمام البيوت ويتبارزن بالكلمات البذيئة والشتائم، كما كانت عماتك تفعلن مع الجيران... الجوع يمزق أحشا 1ءك و(شيماء) تمشي بجانبك صامتة كالحزن، تسأل نفسك: أين الجبال والصحاري والبلدان الجميلة التي يسكنها الجن، أين المارد واللؤلؤ والياقوت والمرجان، أين قصر السلطان والأميرة؟ ولكنك لا تتوقف عن المشي، الحواري الضيقة تتلاشي مجددا والشوارع الكبيرة تعود، وهكذا دواليك، تجد نفسك في دائرة مفرغة تعجز عن الخروج منها، شوارع واسعة ثم حوارٍ ضيقة، حوارٍ ضيقة ثم شوارع واسعة. الجوع يشتد والصداع يفتك برأسك، عيناك تبحثان عن مخرج من تلك الدوامة، وقدماك تؤلمانك بشدة، وأختك تنهنه وتنتحب ولا تكف عن ترديد عبارتها الثابتة: - انت ضحكت عليا... أنا مش عاوزة بلاد تشيلني وبلاد تحطني.