باكستان تعلن استهداف الهند ل3 قواعد جوية بصواريخ    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه اليوم بعد انخفاضه في البنوك    المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يعلن اليوم معدل التضخم لشهر أبريل    د. حسين خالد يكتب: جودة التعليم العالى (2)    ذهب وشقة فاخرة وسيارة مصفحة، كيف تتحول حياة البابا ليو بعد تنصيبه؟    جوجل توافق على دفع أكبر غرامة في تاريخ أمريكا بسبب جمع بيانات المستخدمين دون إذن    الرئيس السيسي يعود إلى أرض الوطن بعد مشاركته في احتفالات عيد النصر في موسكو    بعد 8 ساعات.. السيطرة على حريق شونة الكتان بشبرا ملس    نشرة التوك شو| البترول تعلق على أزمة البنزين المغشوش.. وتفاصيل جديدة في أزمة بوسي شلبي    طحالب خضراء تسد الفجوة بنسبة 15%| «الكلوريلا».. مستقبل إنتاج الأعلاف    الشعب الجمهوري بالمنيا ينظم احتفالية كبرى لتكريم الأمهات المثاليات.. صور    شعبة الأجهزة الكهربائية: المعلومات أحد التحديات التي تواجه صغار المصنعين    مدير مدرسة السلام في واقعة الاعتداء: «الخناقة حصلت بين الناس اللي شغالين عندي وأولياء الأمور»    برلمانية: 100 ألف ريال غرامة الذهاب للحج بدون تأشيرة    جيش الاحتلال يصيب فلسطينيين بالرصاص الحي بالضفة الغربية    طريقة عمل الخبيزة، أكلة شعبية لذيذة وسهلة التحضير    عقب الفوز على بيراميدز.. رئيس البنك الأهلي: نريد تأمين المركز الرابع    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بعد آخر تراجع بمستهل تعاملات السبت 10 مايو 2025    الشقة ب5 جنيهات في الشهر| جراحة دقيقة بالبرلمان لتعديل قانون الإيجار القديم    استشهاد قائد كتيبة جنين في نابلس واقتحامات تطال رام الله    العثور على جثة متفحمة داخل أرض زراعية بمنشأة القناطر    زعيم كوريا الشمالية: مشاركتنا في الحرب الروسية الأوكرانية مبررة    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    الهند تستهدف 3 قواعد جوية باكستانية بصواريخ دقيقة    الترسانة يواجه «وي» في افتتاح مباريات الجولة ال 35 بدوري المحترفين    ملك أحمد زاهر تشارك الجمهور صورًا مع عائلتها.. وتوجه رسالة لشقيقتها ليلى    «زي النهارده».. وفاة الأديب والمفكر مصطفى صادق الرافعي 10 مايو 1937    تكريم منى زكي كأفضل ممثلة بمهرجان المركز الكاثوليكي للسينما    «ليه منكبرش النحاس».. تعليق مثير من سيد عبدالحفيظ على أنباء اتفاق الأهلي مع جوميز    «غرفة السياحة» تجمع بيانات المعتمرين المتخلفين عن العودة    «زي النهارده».. وفاة الفنانة هالة فؤاد 10 مايو 1993    «صحة القاهرة» تكثف الاستعدادات لاعتماد وحداتها الطبية من «GAHAR»    حريق ضخم يلتهم مخزن عبوات بلاستيكية بالمنوفية    عباسى يقود "فتاة الآرل" على أنغام السيمفونى بالأوبرا    ستاندرد آند بورز تُبقي على التصنيف الائتماني لإسرائيل مع نظرة مستقبلية سلبية    حدث في منتصف الليل| ننشر تفاصيل لقاء الرئيس السيسي ونظيره الروسي.. والعمل تعلن عن وظائف جديدة    تعرف على منافس منتخب مصر في ربع نهائي كأس أمم أفريقيا للشباب    رايو فاليكانو يحقق فوزا ثمينا أمام لاس بالماس بالدوري الإسباني    الأعراض المبكرة للاكتئاب وكيف يمكن أن يتطور إلى حاد؟    البترول: تلقينا 681 شكوى ليست جميعها مرتبطة بالبنزين.. وسنعلن النتائج بشفافية    متابعة للأداء وتوجيهات تطويرية جديدة.. النائب العام يلتقي أعضاء وموظفي نيابة استئناف المنصورة    عمرو أديب بعد هزيمة بيراميدز: البنك الأهلي أحسن بنك في مصر.. والزمالك ظالم وليس مظلومًا    «بُص في ورقتك».. سيد عبدالحفيظ يعلق على هزيمة بيراميدز بالدوري    يسرا عن أزمة بوسي شلبي: «لحد آخر يوم في عمره كانت زوجته على سُنة الله ورسوله»    انطلاق مهرجان المسرح العالمي «دورة الأساتذة» بمعهد الفنون المسرحية| فيديو    أسخن 48 ساعة في مايو.. بيان مهم بشأن حالة الطقس: هجمة صيفية مبكرة    أمين الفتوى: طواف الوداع سنة.. والحج صحيح دون فدية لمن تركه لعذر (فيديو)    بسبب عقب سيجارة.. نفوق 110 رأس أغنام في حريق حظيرة ومزرعة بالمنيا    النائب العام يلتقي أعضاء النيابة العامة وموظفيها بدائرة نيابة استئناف المنصورة    هيثم فاروق يكشف عيب خطير في نجم الزمالك.. ويؤكد: «الأهداف الأخيرة بسببه»    جامعة القاهرة تكرّم رئيس المحكمة الدستورية العليا تقديرًا لمسيرته القضائية    «لماذا الجبن مع البطيخ؟».. «العلم» يكشف سر هذا الثنائي المدهش لعشاقه    ما حكم من ترك طواف الوداع في الحج؟.. أمين الفتوى يوضح (فيديو)    خطيب الجامع الأزهر: الحديث بغير علم في أمور الدين تجرُؤ واستخفاف يقود للفتنة    ضبط تشكيل عصابي انتحلوا صفة لسرقة المواطنين بعين شمس    البابا لاون الرابع عشر في قداس احتفالي: "رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع العجائب"    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    رئيس الوزراء يؤكد حِرصه على المتابعة المستمرة لأداء منظومة الشكاوى الحكومية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خريف باريسي
نشر في أخبار الأدب يوم 27 - 11 - 2010


Photo:John Crosley 1
هل كنتُ أقرأ شيئا ما في ذلك اليوم؟ هل كان جريدة أم كتابا؟ لا زلت لا أعرف لِمَ تزداد شراهتي للقراءة حين أتحرّك. لا أكفّ عن قراءة الكتب والصحف التي أمامي(صفحتي الرياضة والاقتصاد أيضا أقرأهما سطرا سطرا وقت السفر وأتعجّب من نفسي )..أقرأ الوجوه والعلامات والأفكار حتي يُهيّأ لي بأنني مجنون. يحدثُ في مرات عديدة أن أقرأ كتابا وأتأمّل في الوقت ذاته صمت امرأة تشاطرني مقصورة قطار ما وأفكّر في وجهتها التي يُحتمل أن تكون منزل حبيب يصطاد اللذة أو جنازة تبكي عندها فقيدا أو أسرة تعانقها ويهنأ بالها.. أحيانا أدندنُ في سري بأغنية أكتشف أنها تُلائمُ وضعاً ما عشته قبل لحظات أو سأعيشه بعد لحظة وأحيانا تمرّ بخاطري ذكري مِنْ تهيّج الحواس برائحة خفيفة أو صوت بعيد أو تفصيل صغير..كلها أمور داخلية وبوح حميم،فما المهم في كل هذا؟ لا شيء تقريبا، لا شيء تقريبا، لكنها سكة الحياة..
حسنا. في المسافات دائما أفكّر وأدبّر و أحْسِبُ الحساب فما الذي يحدث في هذه اللحظة؟ يحدث الأمر ذاته علي الأرجح. حساب وخلقٌ وتفكير.أنا في مطار "أورلي" بباريس، متعبٌ من البحث عن وسيلة نقل لأنني لا أعرف الأمور.ثم أجد نفسي فجأة رفقة خلقٍ كثير في باص، في الطريق إلي داخل المدينة. أركبُ الأتوبيس باتجاه محطة الشمال، لأستقلّ القطار بعدها إلي وجهتي. وعلي مقعدي، أتفرّس في امرأة ملامحها مغربية، تخاطب ابنها البعيد قليلا عن مقعدها وتطلب منه شيئا،تُحرّف اسمه قليلا .هو لا يسمعها فتناديه:
- ضْغِيسْ..ضْغِييسْ.(تريد إدريس) .
قد يكون نداؤها عاديا؛ نداء امرأة يصعب عليها نطق كلمة "إدريس"، لكنني بقيتُ أفكّر بأن دمج الاسم في المنظومة اللغوية السائدة ينبغي أن يجعله شبه منحرف. ثم ربطتُ ذلك بأفكاري حول الاندماج ومشاكله قبل أن يتوقّف الباص (عالم داخلي أجوف ناقص ممدود).. وعندما نزلتُ من الباص ظلّ صدي "ضْغِيس" يتردد بداخلي...
في القطار من باريس باتجاه "نوجون سير سان"، البلدة البعيدة، يرتسم هدوء يكاد المرءُ يتحسّسه بظاهر اليد.وحشةٌ في الطريق ووحشة في المكان.الخريف ظاهر بلا مجهود.لا شيء يكسِر الوحشة غير موسيقاي جنب الأذن. ناس الغيوان الذين ترافقني أنغامهم طوال الرحلة وأنا أردّد في داخلي معهم :
"ارْفَقْ يَا مَالْكِي بْعَبْدَكْ وَعْطَفْ يَا صَابْغْ النّيَامْ
يَا بَدْرْ نْبَا مَنْ لَغْياَمْ
يَهْدِيكْ الله لاَ تْعَذَّبْ قَلْبِي قَاسِيتْ مَا كْفَا"
سوف يرافقني ناس الغيوان بعد ذلك لمدة طويلة وسأكتشفُ أنّ ما خططتُ له من الانغماس في موسيقي أخري ،ولو لوقت، لن يكون ممكنا بشكل دقيق. علي الأقل، سأحافظ علي الموسيقي لأن ما حدث من تغييرات كان كافيا بالنسبة لي..راكب اسباني بقربي يداعب حاسوبه الأنيق ويتحدث في الهاتف بهدوء..أتذكر فاتورة الهاتف في المغرب وشركات الاتصال التي تسرقُنا فأحسّ برعشة في الظهر...
في "نوجون سير سان"، المنطقة التي تبعد عن باريس خمسين دقيقة عبر القطار وعشرين أورو تقريبا، توقّفت بنا الدّابة الحديدية. المنازل علي الطريق قليلة واطئة أنيقة ككل أرياف أوروبا الجميلة.خضرة الحقول والقرميد الذي يغطّي الأسطح تطغي علي المشهد كلّه وتعاكسُ الصورة المعتادة لصحراء تربّت عليها المخيلة. مطر خفيف يُفترض أن يبعث البهجة لكنه هذه المرة يزرع الكثير من الشك والخوف والوحشة والإحساس المبهم باليتم. العالم أصبح فارغا فجأة وغابت بهجة الأسواق الشعبية والصراخ والعالم الحي.أدركتُ بعد السفر لمرات عديدة أن كل بلدان العالم وإن كانت جميلة لا يمكن أن تُقارن بالمغرب، ولا يتعلّق الأمر هنا بمحبة البلد أو الحنين الذي ينتاب كل غريب أو حتي بادعاء وطنية زائفة.الأمر حقيقي مجرّب، ولعلّه السبب الذي يدعو الكثير من الناس إلي الاستقرار بالمغرب حتي ضاقت بنا نحن أبناء البلد سبُل الحياة..أصبحتُ أفهم أيضا (عالم أجوف من جديد) بأنني كائن لابد له من القليل من الحزن عند كل تغيّر، وبعدها أنسجم مع الإيقاع ويكون ما يكون..
في محطة القطار ستزداد الصورة اتّضاحا: كائنٌ ينزل بمنطقة صغيرة باردة اسمها "نوجون سير سين"، وسط خلق سرعان ما تفرقوا، مرتدين معاطف وممسكين بحقائب أنيقة كما لو كانوا ممثّلين في فيلم، بينما تركّز عليه الكاميرا فتراه وحيدا وسط الخريف والمطر الخفيف. يا لطيف !.. تدور الكاميرا في الاتجاه الثاني وتركّز علي وجوههم المغتبطة وهم يتجهون نحو سيارات تنتظرهم في شوق، بينما الغريب يغالب حقيبته الكبيرة العامرة بالكتب وملابس الشتاء.لا أحد في انتظارك لكن ضوءاً نازلا من الهضبة الصغيرة للمحطة وسيارة تتحرك باتجاهك يغيّران الصورة التي جعلتك تقطع اللحظة عن مسار الزمن وتضع الكاميرا علي الرّف. يسألك صاحب الطاكسي إن كنتَ الكاتبَ المقصودَ وكأن ثمة أحدا غيرك في المحطة !!
2
لأيام، ظللتُ أقرأ وأكتب وأعيش إيقاع الجماعة. ثم خرجتُ أتجوّلُ و أكتشف المكان، وعند ممّر يطلّ علي نهر السين، وجدتُ بابا عليه عبارة "closed keep it ". و كما حدث في الحكاية القديمة تماما أكَلَنِي الفضول ففتحتُ الباب.. ثمة حكاية في ألف ليلة وليلة يفتح بطلها بابا محظورا فيطير به طائر عظيم ويرميه بعيدا عن المكان.أما أنا فلم يظهر لي طائر الرّخ الكبير بل ظهرت امرأةٌ عجوز تمسك بمفتاح، وقرأتُ في عينيها ما يفيدُ أنني اقتحمت خلوتها.في الاتجاه الثاني وجدتُ نهر السين، ورغم البرد والريح كان المشهد صادما وموحيّا؛ مركب صغير مكسور يرسو بهدوء علي الضفة المليئة بالطين وقطع الأشجار الصغيرة وأنا لا أستطيع رسمَ كلّ هذا الجمال..
أتذكّر الآن اسم الجميلة البرازيلية. اسمها "فيرا". وها هي الآن تتكيء علي جدار المطبخ وتحدثّني عن المغرب وما تعرفه عنه،وحين أختلف معها تغضب. "فيرا" تكلّمني عن المغرب فتخطيء وتسترسل في الحكي دون توقّف فأصحّحُ لها وأقول إن لدينا عمارات وسيارات و بنوكًا وسياسيين ولصوصا بربطات عنق أنيقة و معاهد وجامعات وإنه لا وجود لجِمَالٍ تسير في كل مكان ولا لصحراء تمتد بلا نهاية. لكن "فيرا" تصرّ علي ما حكتهُ لها صديقتها. تقول لي إن المغربي إذا راقتْ له امرأة يعطيها مئة جمل ويتزوّجها بعد أن ينحر مئة جمل أخري، و إذا تمنّعت عليه يختطفها ويتوغّل في الصحراء فلا يعود لهما أثر."فيرا" تريد أن تزور المغرب لكنها تخاف أن يختطفها بدويّ علي ظهر جمل..في الحقيقة، مع ذلك الشعر الطويل الذي يكاد يلامس الأرض، وذلك الدم اللاتيني الحارق، يستطيع الإنسان أن يعود إلي العصور الغابرة ويتّصف بكل الصفات أقلّها أن يختطف امرأة..كنت أدافع بحماس وأفسّر لها الأمور لكنها لا تقتنع، ثم يصل "مارتن"، الموسيقي الألماني الذي لا يُحبّ أن يتواجد في مكان لا يفهمه، فيُؤمِّنُ علي كلامي ويشرح لها من جديد فتُنصت مكرهة. "مارتن" زار المغرب وتجوّل في أنحاء الجنوب ورأي مدينة " زاكورة" الصحراوية وشاهد شروق وغروب الشمس في" تنفو"، البلدة الصغيرة المعروفة بكثبانها الرملية الرائعة..
الدار تسير الحياة بإيقاعها الجميل وأنا أتعب أحيانا من العمل فأهرب..أركبُ الدرّاجة ،كعادتي في كل سفر، وأتّجه إلي اللاّمكان، تحفّني أشجار كثيفة علي ضفة نهر السين المبلول وترعي بجانبي أبقار بيضاء سمينة حين تُشرق شمس خفيفة لا تلبث أن تنمحي ويحلّ الضباب،أحرّك ساقاي وأسير في اتجاهات مختلفة والبرد الخفيف يشتد مع التوغل بين الأشجار ويملأ طين الطريق ملابسي. أُزاوج بين موسيقي ناس الغيوان وموسيقي "يئيز طلائي" الممتعة.البيانو المجنون يبلّلني وأنا أسوق ويخلُق لي حالة لا توصف. أعرف أنني أستمتع الآن أكثر مما أتخيّل، وأنه بقدر ما يلائمني الحزن المتطرّف في لحظات تلائمني السعادة المتطرّفة في لحظات أخري وهذا محزنٌ ويدعو للسعادة في نفس الوقت. يسقط المطر في الخارج والأشجار تحته تتحرك وتُصدر الأصوات.. أتذكّرُ شعراء الأندلس الذين حكوا عن عناق الإنسان بالطبيعة في أوروبا.قلت لنفسي إن شعراء الأندلس محقّون كثيرا في كل ما أنشدوا وما حكوا عن هذا الجمال. من حقهم أن يُغرموا بالحياة علي أرض أوروبا، فقد جاءوا من الصحراء وارتموا في حضن الجميلات والماء والخضرة. ولعلّ ما يراودني الآن تماما هو ما راودهم قبل قرون. ثم كان أن توغلت يوما في المسارات الملتوية علي الدرّاجة، و تهت وسط الغابة الكثيفة، لكن لحسن الحظ، ورغم الطريق الطويلة، لم ألتق أي شخص ولم يتربّص بي سوي هدوء ضفاف السين العذب. قال لي صديقي ضاحكا مشاكسا:
- لو تهتَ في غابة المعمورة بالرباط لفاجَأَك شخص يمسك مطرقة أو سكينا، ويُسمي نفسه "مْحِيريشة". يشرب لترات من الكحول الحارق ويطلب منك أن تُفرغ جيوبك...
3
في الطريق بين "نوجون" وباريس، عبر القطار، تتحرّك الصور. تري تلالا وورودا وبشرا. وسواء بخارطة في اليد أو بدونها، سوف تكون يا ولدي غريبا فلا تتردّد و"عِشْ اومَتَحْضيش" كما يقول المثل السّائر..
تمشي وتتأمّل بعد سفرك من الريف باتجاه المدينة. تقتنع بعد مدة بأن كل الناس غرباء في هذه المدينة. الباريسيون أنفسهم يستعملون الخريطة للوصول إلي كلّ مكان. تبدو لك الفكرة غريبة في البداية لكنك تسير علي الدّرب. احمِلْ خريطتك بيمينك وزر المسارح والساحات والمتاحف..إذهب إلي "سان ميشيل" مثلا لتشرب قهوة، راقب الساحة والطيور المائية والعشّاق الذين يقبّلون بعضهم، اذهب إلي البرج العظيم و"الشانزلزيه" و متحف "اللوفر" و"نوتردام" ثم قل لنفسك إن الحديث سيطول عن هذه الأمكنة، وأنك ستتحدث عنها في أوقات لاحقة وفي نص طويل ستكتُبُه خلال الصيف، حين يكون مزاجك ملائما. الآن تريد التأمّل في شيء واحد، فتكلّم ولا تتردّد..
حسنا،إنك تري باريس وضّاءة ومناسبة، وبوجودك أو عدمه ستكون باريس ما شاء لها الله أن تكون ولن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، لكنك بصراحة لست سعيدا بباريس في هذا الخريف. أنت سعيد بباريس قليلا فقط.لأن المدينة تكون سعيدة بك ومرحّبة طوال اليوم، وعندما يحلّ الليل ويكثر المشردون في كل مكان ويشتدّ البرد تقلبُ وجهها.لذلك لن تستطيع هذه المرة سوي رؤية وجهها المقلوب.وأنتَ تتتبّع هذا الوجه وتركّز عليه فتري كيفَ يهرُب الناس من محطات القطار و "الميترو"، يكاد يظهر علي وجوههم ذعر بيّن عند حلول الليل. يستعجلون الوصول إلي أمكنتهم الخاصة ليختبؤوا من البرد والمفاجأة. تراهم في كل "ميترو" ساهمين غير منصتين للموسيقي التي يعزفُها رجال ونساء يصعدون عند المحطات. في كل محطة "ميترو" موسيقي. ينفتح الباب فجأة فيطلع رجل أو امرأة بثياب تكاد تكون رثّة و يعزفُ لحنا حزينا ب"الساكسفون" أو الكمان ثم يمرّ علي الركاب ليجمع المال القليل..
في كل الأمكنة يكثر المشردون ويظهرون فجأة مثل الأفكار الغريبة التي تراودك. تراهم يغنّون ليطلبوا أكلا أو مساعدة أو سجائر أو يعلّقون أحيانا لافتة واحدة بكلمتين فريدتين: أنا جائع. بعضهم يتسوّل في الشارع صحبة كلبه ويكتب علي ورقة أمامه: نحن جائعان. ربما لأنه يدرك أن ثمة من سيرأف بالكلب. تصعد سلالم "الميترو" هاربا من أحشاء باريس فتفاجئك اللافتة الصغيرة المعلّقة علي صدر امرأة أو رجل. و بعد أن تخرج من المحطة، قد تلتقي فتاة صغيرة تساعدك علي حمل حقيبتك وتطلب منك المال ولا تكلّمك سوي بالإشارات و هي تدّعي بأنها عضو في جمعية الصمّ والبكم. يصعد رجل بملامح لاتينية ليعزف الغيتار ويغنّي، و حين ينتهي يدور علي مقاعد الركاب السّاهمين المدوّخين بكأس بلاستيكي أصفر ليجمع القطع الصغيرة. تصعد في ذات المحطة امرأة تعزفُ علي آلة إيقاع صغيرة. يليها رجل يحمل آلات تكاد تشكّل جوقا؛ يشغّل في البداية مسجّلة تعزفُ إيقاعا جاهزا رتيبا ثم يبدأ العزف علي الغيتار ويغني بصوت أخنّ أغنية كلاسيكية، يزيده الظلام الخفيف النازل باكرا علي أحشاء باريس قتامة وبؤسا.. وعندما لا يحصل المغني علي المال لا يتوسّل كما يفعل المتسوّلون في المغرب بل يواصل الغناء فقط حتي يرضي عنه الزبون. لا استجداء.لا كلمات. لا يقول: الله ارحم الوالدين، بل ينسحب في النهاية عند محطة ما راضيا أو غير راض.
امرأة واحدة رأيتُها يوما مختلفة. راقبتُها تصعد للتسوّل علي الطريقة المغربية التقليدية؛ تضع بين يديك ورقة عليها كلام معتاد منمّق تكاد تحفظه: أخي أنا أرملة، مات زوجي وترك لي أولادا الخ الخ الخ...وقتها تساءلتَ بينك وبين نفسك هل أنت فعلا في "ميترو" باريس أم في "أتوبيس" يربط بين سلا و الرباط؟
وها انك تري كل هذا الكم من المشردين، في مدينة الأنوار، فتهرب صورة الجغرافيا منك و تنسي قيّم الجمهورية وكل فلاسفة النور الذين دافعوا عن الحق في خيالك، ولا تترد في داخلك غير كلمة انجليزية واحدة هي "homeless " . لهذا، في طريقك إلي قراءة الحالة، تنحت كعادتك كلمة تعبّر بها عن حال الناس هنا: "الهَمْلَسَة" .
لقد ابتكرتَ كلمة "الهَمْلسة" فلم تعُد باريس بالنسبة لك مدينة الأنوار بل أصبحت مدينة الألم رغم جمالها البرّاق المفزع. أصبَحتْ باريس مدينة "النّْوَارْ". وها إنك تكسرُ صورتها بعد أن كسرتَ صورة العديد من المدن الأخري.أصبحتَ تذكُرُ الأمكنة بحنين مشوب برضي العارف وخيبة المخدوع علي ضياع الحلم. لقد أصاب باريسك الخاصة خريفٌ طاعن غطّي علي كل شيء، وراودتك من جديد فكرةَ أن الأجمل دائما هو ما لا نراه..
ثم تَجُول في باريس. بعد وقت تصبح الأمور أكثر واقعية. أصبحتَ أكثر إذعانا للمنطق. وبعد السفر منها وإليها عابرا إلي مدن ومحطات ولغات وسحنات كثيرة، أصبحتَ معتادا علي الفوارق و أصبح المشرّدون جزءا من لوحة لا تكتمل دونهم.أصبحتَ تنظر بعين الواقع. ألِفْتَ المطارين الذيْن يربط بينهما في الخريطة خط المترو الأزرق من "أنتوني" حتي "لوبوغجي" قبل أن يتفرّع باتجاه "متري كلاي" أو مطار" شارل دوغول". أصبحتَ أكثر راحة في مطار "أورلي" ولا تبذل مجهودا كبيرا في معاشرته حين تسافر منه وإليه عكس مطار "شارل دوغول" الذي تلزمك ساعات للوصول إلي أي مكان فيه..
تشعُر بألم الناس في الشارع وتخرج إلي المطر فتري الليل وشجونه وتشعر بأنك تستطيع أن تكتب إلياذة أخري عن باريس إذا ظللتَ ليلة واحدة مع هذا الكم من المشرّدين المحتمين بالجدار. تقف خارج المحطّة يا صاحبي لتبحث عن حل.لا تفكّر في الفنادق الباردة ولا في غرف الأصدقاء الضيقة ولا في زوجاتهن المتأفّفات من الغرباء..كل ما يقودك إليه فهمك هو أن العظام شاخت وأن ما أمضيتَه من عمرك في الدروب والزوايا كاف وأنّك امتلأتَ في تلك اللحظة بالذات تماما، ليس قبلها ولا بعدها، وأن الحياةُ المغامِرة لم تعد تصلح لعظامك النخرة التي أكَلَتْهَا دودة الكتب والتفكّر في شئون الحياة. وحين تدفع مئة يورو للوصول إلي مستقرّ لك، و ترتاح في الغرفة الأليفة كمن فاز بنعيم الدنيا والآخرة، تفتح "الامسئن" وتحكي لصديقك عبد الرحيم عمّا جري فيقول لك ضاحكا من وصفك للأمور:
-حتي في باريس يا عزيز؟ هناك إذن شيء ما مشترك بين قريتي و باريس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.