الاستقلال له جاذبية.. لكل استقلال جاذبية، التحرر من السيطرة دوما مرتبط بحرية وآمال في الانجاز.. نقصد هنا، الاستقلال بعيداً عن علاقة الدولة الرسمية بالثقافة، العلاقة التي ستظل قائمة رغم محاولات نفيها.. للدولة دور، وللمجتمع دور كذلك. خلال السنوات العشر الأخيرة، تأسست مراكز ثقافية مستقلة عن المؤسسة الرسمية، بعضها استقر، والبعض استمر دون تحقيق شعبية حقيقية.. حالة الاستقلال ليست دائما مستقرة، في كل مركز، وفي كل جهة، لكن ما يجمع جميع الجهات والمراكز في حالة واحدة هو أن الاستقلال عن وزارة الثقافة كان استقلال للجمهور أيضاً.. الجمهور كان متلقي صامتاً لسنوات.. حالة ثقافية من طرف واحد تقدم الوزارة فيها كل شئ والجمهور عليه أن يصفق! حينما تولي ثروت عكاشة وزارة الثقافة حشد الشعب كله خلف أنشطة الوزارة، الثقافة الجماهيرية استوعبت أغلب الفنانين لتقدم الفن الرسمي للشعب كله.. كان التصور أقرب للشحن، للحشد.. كانت الخيارات محدودة. الأمر ارتبط بظروف سياسية وتاريخية، جعلت فكرة الإرشاد مثلا مرتبطة بالثقافة، ورغم مزايا فكرة "الإرشاد الثقافي"، من الناحية السياسية، إلا أن هذه التجربة كان لها عيوبها أيضاً من الناحية الثقافية، وفي جميع الأحوال يظل هذا التاريخ الخاص بالثقافة، كوزارة وكحالة في مصر أيضا، هو الذي أفرز تجارب مهدت لحالة الاستقلال التي نرصدها في هذا التقرير.. التوثيق جهاز تسجيل صغير حمله زكريا إبراهيم متوجها لبلده بورسعيد حاملاً رغبة في تسجيل التراث، ألتقي هناك كتّاب أغاني السمسمية "الداش عبد السلام"، مواليد عام 1916، وإبراهيم الباني. هما يمثلا نصف كتاب السمسمية، (المعروفين أربعة.. هناك أيضاً محمد أبو يوسف، وكامل عيد.) سجل زكريا مع الداش والباني، وكان طموحه وقتها أن يكتفي بالكتابة عنهما. سجل مع الكثير من العازفين، والمطربين، كل هذا كان مادة خام لكتاب عن تراث السمسمية، لكنه أقتنع في النهاية أن التسجيل عن طريق الفيديو والصوت أفضل من الكتابة. نتناول هذه الحكاية لأن فكرة التوثيق هي المشكلة الحقيقة للفنون الغنائية والشفاهية في مصر، هناك محاولة أخري في مركز "مكان"، الذي حاول التوثيق لتراث الجنوب، الصعيد، والنوبة.. بعيداً عن حصر هذا النوع من الغناء في عدد من المطربين، الذين يروجون لهذا الغناء تجارياً.. الأجيال الشابة في مصر تربت بعيداً عن التراث، صارت فرص إطلاعهم علي التراث خاضعة للصدفة .. إمكانية اقترابه من موسيقي الطنبورة، أو أغاني سلمي العسل أو سيد الركابي قد لا تحدث إذا لم يذهب إلي مركز "مكان" بشارع سعد زغلول في وسط البلد، أو قاعة الطنبورة بباب اللوق مثلاً.. المسألة لا تزال تحتاج إلي جهد أكبر، جهد شبيه بما قام به الشاعر عبد الرحمن الأبنودي مع السيرة الهلالية مثلا! اللافت أن سنوات النشأة بالنسبة للطفل المصري قد تخلو تماماً من أي أغنية تراثية، مع احتمال ضعيف في بقية حياته أن يسمعها عن طريق الصدفة! جمهور يكره التراث في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات ببورسعيد وكافة مدن القناة لم يكن الفنانون معزولين.. كانوا ينظمون حلقاتهم الغنائية، يعزفون، يغنون، يرقصون رقصة البمبوطية، ولكن هذا النشاط خفت. الدولة لم تكن بمعزل عنهم، جمعت الكثير منهم في قصور الثقافة، وجعلتهم موظفين بقصر ثقافة بورسعيد. كان الفنانون تحت قبضة الدولة، لكنها لم تستثمرهم جيداً علي ما يبدو . اللوائح، والبيروقراطية، وضعتهم في أدني درجة في السلك الوظيفي.. حينما مدت الدولة يدها ساهمت في إحباط الفنانين أيضاً، لهذا كان تنظيم فرق مستقلة هو الحل الأمثل.. كل منطقة بمصر بها تراث غنائي وشفاهي قيم، يمكن استثماره جيداً، من خلال إعادة انتاجه مرة أخري كما هو، عبر تسجيلات جديدة وفرق شابة. لكن كيف سيتقبل الجمهور هذا العمل كمنتج؟ في تجربة إحياء تراث بورسعيد ومدن القناة الغنائي أنتج مركز المصطبة ألبومات الفرق المتعاونة معه.. المركز يدفع تكاليف ضخمة لإنتاج "الدفي دي"، والأسطوانات، أسأل زكريا إبراهيم، مؤسس المركز: هل بيع هذه المنتجات يكفيك أم لا تزال تحتاج لتمويل؟ فيجيب: لقد ظللت لسنوات أمول نشاط الفرق بنفسي، حتي اضطررت التعاون مع فورد. المشكلة كما يراها زكريا أن الناس في مصر لا تلتفت للمنتج التراثي. الأغاني والموسيقي النابعة من التراث المصري غير مرغوبة في مصر"الناس عايزة تبقي خواجات"، اللافت أن الأجانب هم الذين يهتمون بالتراث المصري، فحسبما يؤكد زكريا أن أفضل عروض الانتاج جاءت من أوروبا، وتحديداً بريطانيا، التي انتجت أحدي شركات ألبومات لفرقتي "الطنبروة" و"الجركن"! طرحنا السؤال علي زكريا فكان رده بسؤال آخر: كيف تمنح قيمة للموسيقي الشعبية في هذا الوطن!؟ الجمهور الواعي بأهمية التراث، وكذلك بجمال هذا النوع من الغناء.. لا يزال يقف عند مرحلة التحمس، يتعامل مع الموضوع كما لو أنه يشاهد اكتشافات أثرية في متحف (أي لا يلمسها ولا يتفاعل معها)! ..هكذا تبقي هذه الموسيقي بلا تفاعل حقيقي، والأهم أن الجمهور لا يتعامل معها بوصفها منتجات.. ستظل أزمة النشاط المستقل في مصر في كون الجمهور يراها أنشطة ثقافية بمعني أنها لا تخلو من الجمال والمتعة والقيمة، لكنه لا تستحق أن يدفع مقابلها مالاً..إنها طبيعة المنتج الثقافي الذي سيظل غير مربح تجارياً، ولا يعامل معاملة سائر المنتجات.. لذا سيظل في حاجة دائمة لدعم وتمويل من المهتمين. من الأعيان إلي شباب إمبابة أغلب المؤسسات الثقافية في الخارج تنال مساعدات ومنح من الدولة أو من المجتمع المدني، حتي الأنشطة التي تعتمد علي بيع تذكرة للمشاهدة مثل المسرح، لا تتناسب قيمة التذكرة مع تكاليف الانتاج، لأن التذكرة إذا غطت مصاريف الإنتاج ستكون كبيرة ولن يشاهد النشاط أحد.. أغلب الأسعار إذن رمزية، تعوض الإنتاج بنسبة قليلة.. لهذا سيظل مفهوم الرعاية حاضراً. من ناحية أخري تلجأ بعض الأنشطة الثقافية للجمهور القادر علي دعم المبدع، مثلا سنجد أن سوق البيع في الفن التشكيلي قائم علي دوائر بعيدة عن المهتمين، لأن المهتمين لا يملكون القدرة المادية للتعبير عن إعجابهم باللوحة عبر اقتناءها مثلا! المفهوم السابق كان مستفزاً لمحمد عبد المنعم الصاوي، الذي كان يري أن الثقافة في مصر أصبحت مخصصة للأعيان. كان ذلك قبل سنوات من الآن، حينما شاهد الصاوي انتهاء دور مسرح سيد درويش بالهرم، وتحول الثقافة إلي دار الأوبرا المصرية، ومسرح الجمهورية.. هكذا شاهد الصاوي الدولة وهي تهتم بالمكان الجديد، وتترك المكان القديم ليهلك، وينتهي تماماً. كان هذا الأداء مختلفاً عن التصور الذي تربي عليه، يوضح ذلك بقوله :" والدي رحمه الله حينما كان وزيراً للثقافة كان يؤمن أن الفن والثقافة لابد أن يكونا متوجهين للشعب، وليس للنخبة والأعيان"، لكن هذا التصور كان مُعطلاً، حسبما كان يري محمد وقتها. كان الصاوي يحلم بتحقيق حلم والده القديم بأن تكون "الثقافة بلغة وكلام الناس، ألا تكون كلمة الثقافة مقلقة أو مرعبة للجمهور".. هذا لم يتم، في الساقية، وغيرها من المراكز، إلا من خلال مشاركة الجمهور في عملية الإنتاج الثقافي! الشباب:المخ والعضلات هل الجمهور سيظل جمهوراً!؟ سؤال قد يبدو مستغرباً، لكنه مع ذلك لابد من طرحه لبحث تفاعل الجمهور مع المراكز.. راهنت أغلب المراكز المستقلة علي جمهور جديد، أو بالأصح قدرتها علي خلق جمهور من الشباب.. هذا تتطلب تقديم أنشطة جديدة بروح شابة، روح قريبة من الجمهور المستهدف.. هكذا صار الجمهور مشاركاً في صناعة الثقافة، وتخلي عن صمته ورضاه بما تقدم له الثقافة الرسمية، في هذه المراكز بدأ طرح أفكار أجرأ، وتبني لتيارات جديدة من الكتابة والمسرح والغناء، كلها لمبدعين من الشباب. بمرور الوقت، واستمرار التجربة صار الجمهور أكثر تورطاً.. بعضهم دخل في قلب المؤسسة نفسها. حكاية الشباب مع الساقية لم تكن مجرد لعب دور العضلات في جسم الساقية، بل أنهم لعبوا دور المخ كذلك.. حيث اثمرت أفكار الشباب: مهرجانات شعر العامية، والفصحي.. في جميع المسابقات الحد الأقصي للمشاركة ألا يتجاوز سن المتقدم 40 عاماً. أما لجنة التحكيم فيشترط أن يكون المحكم قادراً علي التفاعل مع الكتابات الشابة، لهذا اختارت الساقية محكماً سنه 29 سنة (الناقد الشاب عادل محمد) وفي مسابقة شعر الفصحي كان د.عماد عبد اللطيف محكماً .. تلبية احتياجات المبدع إذا تركنا الجمهور جانباً وتحدثنا عن حالة الاستقلال من الجانب الآخر سنجد أن التقرير سيقودنا للحديث عن مؤسسة "المورد الثقافي"، التي تأسست عام 2004 لغرض واحد:دعم المبدع. مرت المؤسسة بأكثر من تطور، كل مرحلة منها مرتبطة بالنشاط الذي تبنته المؤسسة التي يقع مقرها الرئيسي في بروكسل. لم تشغل المؤسسة نفسها بفكرة التنوع، وكذلك التخصص، بل كانت تلبية لاحتياجات لدي المبدع. كان العامل الناقص في الحياة الثقافية والعالم العربي عموما هو الدعم الإنتاجي.. وتوضح بسمة الحسيني المنسق العام بالمورد الثقافي ذلك بقولها :" اجتمعت مجموعة من المشتغلين بالعمل الثقافي في مصر وفلسطين ولبنان لبحث فكرة تأسيس هذه المؤسسة.. كان أول ما بدأنا به برنامج المنح للمبدعين الشباب". أسألها ما الذي كان ناقصاً، ليقدمه المورد؟ فتقول:" لم تكن هناك وسائل لدعم المبدع، أقصد بالدعم المنح الصغيرة من أجل نشر كتاب أو تقديم مسرحية.. كانت الأنشطة الحكومية لا تدعم من هو خارجها".. لهذا قدم المورد خلال الأربع سنوات الأولي من نشاطه 51 منحة لإنتاج أعمال فنية وأدبية. أما بالنسبة لمراحل التطور، فكانت نابعة من التجربة، التفاعل مع المبدعين العرب أبرز مشاكل كثيرة منها أن الفرقة المسرحية التي ستنال منحة لن تستطيع أن تديرها، من هنا جاء التفكير في العمل علي نشر الإدارة الثقافية، تقول بسمة:" وجدنا أنها مشكلة في معظم الدول العربية.. بعض المبدعين لديهم خبرات تراكمية عن كيفية تنظيم العمل الثقافي، لكنها في النهاية ليست خبرات صحيحة، لهذا قدمنا لهم الإدارة الثقافية (أو كيفية إدارة مشروع ثقافي أو منحة لانتاجه) التي تعتمد علي مديرين جيدين، ووجود هيكل تنظيمي إداري..". تعلق بسمة: "بعض الجهات تنظم ورشاً للإدارة الثقافية، لكننا نعرف الموضوع جيداً"! من ناحية أخري كانت فكرة الإدارة الثقافية أمراً جديداً، كان المتبع أن شروط تنظيم نشاط ثقافي تقتصر علي أن يكون المنظم ملماً بالثقافة ليس أكثر، لكن الإدارة لم تكن مفهومة.. الإدارة الثقافية وهو مفهوم غربي وجد التربة المناسبة له في "المورد": جمهور مهتم، مناخ يسمح بالنشاط الثقافي توفر عبر جهات مستقلة عدة، والأهم إمكانية التجريب مع وجود فرص للنجاح. تتطور الأمر إلي توسيع دائرة النشاط، صارت المورد مشغولة بالعمل علي السياسات الثقافية، "لدينا مجلس فني قوي إذا أردنا أن ندخل أي مشروع سيساهم معنا بأفكار مهمة" (المجلس يتكون من المسرحية اللبنانية حنان الحاج علي، رئيسة، المغربي فوزي الصقلي، نائباً، الصحفية المصرية هبة صالح، أمينة صندوق، الصحفي المصري سيد محمود، أميناً للسر، الشاعر الليبي خالد مطاوع، عضوا، الفلسطينية ليلي حوراني، عضوا، المصري علاء خالدي، عضواً). تقول بسمة: "نفكر الآن في توسيع الدائرة.. نريد جذب دائرة جديدة للمهتمين بالثقافة.. أن تكون الثقافة للشارع، والفن كذلك".. تسييس الثقافة كان الابتعاد عن السياسة سمة تميز أغلب الأنشطة الرسمية، وإذا حضرت فهي بكاء علي القدس وتشديد علي رفض التطبيع إلي جانب صور ومعاني حب الوطن، انتقل الأمر إلي أداء المؤسسات المستقلة التي عرفت جيداً أن الخروج عن الأطر المحددة سلفاً أو التطرق إلي بعض القضايا والأمور السياسية قد يكلفها استمرارها ونشاطها كله. لكن الظروف قادت بعض المؤسسات المستقلة لتكون موضوعاً للكثير من الخلافات السياسية علي رأسها قضية التطبيع التي وجهت لبعضها منهم جاليري التاون هاوس، الذي فوجئ المسئولين عنه في بداية نشاطهم بالسفير الإسرائيلي يزور المكان، انسحب ياسر جراب، وعلي حد وصفه جراب "اختبأنا في قهوة بعيدة حتي ينصرف، لم نكن علي علم بالزيارة، وبعدها أرسلنا خطاب رسمي لوزارة الخارجية نعلمهم بعدم ترحيب المكان بزيارة أي مسئول إسرائيلي". التطبيع لم يكن التهمة السياسية الوحيدة التي وجهت لبعض المراكز المستقلة، فقد كانت شبهه التمويل الأمريكي تهمة آخري واجهتها بعض المؤسسات حينما بدأ المورد نشاطه نظم برامجاً للكتاب الشباب، وأولها، كان "صفحة جديدة" وهو عبارة عن ورشة كتابة تجمع عدد كبير من شباب الكتاب العرب لكن رفض الانضمام له كاتبان شابان لسبب واحد: أن المؤسسة ممولة من فورد! تسييس الثقافة الذي هوجمت بسببه المؤسسة، لجهة تمويلها، كان سمعة طاردت المؤسسة، ولكنها كانت تمارس تسييساً للثقافة بشكل مختلف.. ففي عام 2005 أوقفت محافظة القاهرة نشاط مسرح الجنينة، التابع للمؤسسة. كان السبب الرسمي لتعليق نشاط المسرح المستقل هو تدخين الشيشية وتوقيع المحافظة علي اتفاقية ضد التلوث البيئي، لكن السبب الذي تداوله الناس كان تقديم المسرح لفرق تغني كلمات أحمد فؤاد نجم، وسيد درويش! الأغنية السياسية كانت مرفوضة بشكل غير مباشر.. تم توجيه رسالة مبطنة، تحذر هذه المراكز المستقلة من أن المناخ لا يسمح بحرية وضع برنامج يحوي أغاني نقد لاذعة! هذا يدفعنا للكلام عن شرط سري لتقديم أي نشاط ثقافي في مصر، وهو أمر معلوم لكنه محاط دائماً بالسرية، حيث تلتزم أغلب المؤسسات المستقلة بإعلام جهات محددة ببرنامج الأنشطة قبل مدة من العرض، وإذا تم العرض بسلام فإن ذلك يعني أن هذه الجهات تسمح بهذا النشاط .. لعبة ترصد تتم بين المراكز والمؤسسات من ناحية وهذه الجهات من ناحية أخري، ولكنها ليس موضوعنا هنا. من ناحية أخري صار الهم السياسي الآن هماً ترعاه مؤسسة المورد، الأجندة الثقافية السياسية تفرض نفسها علي اختيارات المورد، مثلا الاهتمام بدعم النشاط الثقافي الفلسطيني، وتقديم فنانين من الضفة.. كان آخرها فرقة المسرح الفلسطيني، التي تأسست من أجل تقديم عرض سيرك مسرحي عن الجدار العازل، أو معرض فوتوغرافيا وفيديو بعنوان "زوروا غزة"، وإن كان المعرض يقدم المدينة المحاصرة بوصفها مدينة ساحلية، حالة السخرية هنا مقصودة، استحالية زيارة غزة كمدينة اصطياف، تلفت الانتباه لما صارت عليه المدينة علي يد المحاصر والمحتل الإسرائيلي! رغم جرأة المبادرة بتقديم الفرق والأعمال الفلسطينية للساحة الثقافية ، إلا أن طريقة التقديم لا تخلو من اهتمام سياسي بالموضوع أكثر من تقديم المنتج بما فيه من مزايا فنية وجمالية، دون الاستناد علي العلاقة العاطفية التي تربط الجمهور بكل ما هو فلسطيني. علي النقيض ترفض الساقية التعامل مع الموضوع السياسي، حتي في أبسط أموره.. الأغنية السياسية تكاد تكون غائبة تماماً في قاعات الساقية، كذلك الطابع المحافظ للمكان يفرض حضور جمهور محافظ، ويندرج ذلك ويؤثر علي أداء الفرق ومتحدثي الندوات.. استحدثت الساقية فريقاً اسمته "البطاقة الحمراء"، وهو مفهوم أقرب لكرة القدم وتحديداً الكارت الأحمر الذي يلوح به الحكم للاعب إيذاناً بطرده من الملعب، حيث يراقب أعضاء الفريق رواد الساقية، وإذا بدر من أحدهم أي تصرف يراه الأعضاء خارجاً تسحب بطاقة العضوية منه ويمنع من دخول الساقية! كانت آخر مشاغبات الساقية استضافتها لأمسيات أحمد فؤاد نجم، لكن تاريخها يعود إلي أربع سنوات مضت! هناك من يشاهد اللوحة؟ فجأة صار هناك جمهور يهتم بالفن التشكيلي، تجربة الاستقلال اثمرت متذوق جديد للفن خارج الدائرة الضيقة للفنان والناقد التشكيلي ومسئول الجاليري.. تولد هذا الجمهور عبر التاون هاوس، الكيان الأبرز خلال التسعينيات، حيث كان الجاليري بالتعاون مع أكثر من ناشط ومنظم قادراً علي تقديم بديل آخر للفن التشكيلي، بديل يفتح المجال للفنان التشكيلي ليقدم أعمالاً أكثر حداثة، في مساحات عرض أكثر مناسبة لجديد الفن.. وللجمهور الجديد. ووجه التاون بتهمة التمويل، وإضفاءه المجال للتجريب واتباع الفن الغربي، بعيداً عن التراث، والبحث عن فن مصري..كل الاتهامات كانت منصبة علي المؤسسة دون مراعاة المعيار الحقيقي لما يقدمه الجاليري من تجديد تحتاجه ساحة الفن، بأن المعيار الحقيقي هو ما قدمه المكان الجديد للفنان التشكيلي، وتأثيره علي أعمال الفنان..وخلق جمهور جديد للوحة! الفنان هو الفيصل، وانتاجه هو المعيار، لهذا إذا قيمنا تجربة التاون سنجد أنه منح فرصة لفتح الباب للجمهور لدخول عالم الفن التشكيلي. بعد سنوات صار بالإمكان التكلم عن رأي الجمهور في الفن التشكيلي.. الجاليري، مع صالون الشباب(التابع للوزارة)، وبعض الجاليريهات الصغيرة بوسط البلد والزمالك ساهموا في صنع حالة خاصة بالفن التشكيلي.. لا تزال مستمرة. صار هناك سوقاً للوحات، ووكلاء فنيين مصريين، يسوقون للوحات المصرية في الخارج، حتي لو كان ذلك مرفوضاً من جانب بعض المثقفيّن باعتباره تسليعاً للثقافة، إلا أن اللوحات في النهاية من الممكن أن تباع، والفن في النهاية منتج ثقافي له قيمته الجمالية والمالية كذلك. كان آخر ثمار هذه الحالة تجربة "درب 17/18"، والتي تمثلت في مركز ثقافي وفني بمنطقة الفسطاط. يمكن اعتبار درب أحدث المراكز المستقلة، وتركيزه علي الفن التشكيلي، الخيال، التوظيف للتكنولوجيا الأحدث، لمناقشة الموضوع الفني والتجريب فيه. درب مشغول بالفن فقط، المناقشات التي تطرحها الأعمال أقرب للمدرسة القديمة "الفن للفن"، بروح جديدة وأكثر حداثة..في أحد المعارض قدم الفنان محمد علام حواراً مع فنان آخر عبر "السكاي- ب"، كان علام في بيروت، والآخر في امستردام.. وكان الحديث عما شاهداه من معارض، وأعمال فنانين، وما يحدث في القاهرة.. الدردشة تطورت لرصد ما يصلح للجمهور المصري الآن.