اضطروا خاضعين لتلبية رغبتها، بعد الحاحها الطويل الذي لم يتوقف لحظة واحدة، منذ إفاقتها.. تركب (عزة) - ابنة الحادية عشرة من ربيعها - عربة الاسعاف، انطلقت العربة، راحت عيناها تتحركان تارة ناحية اليمين، وتارة اخري ناحية اليسار، أخرستها المفاجأة للحظات، من هول ما تراه من هدم ودمار، قد أصابا مدينتها (غزة) في مقتل من جراء قصف العدوان المتواصل ليل نهار، ظلت (عزة) تحتضن البيوت بعينيها اللتين راحتا تذرفان الدموع، وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة.. (الامل.. الصبر.. الصمود..) - هنا.. قالتها (عزة) فتوقفت العربة علي إثرها.. نزلت (عزة) محمولة بين أيديهم، وقبل أن يدلفوا داخل بيتها المتهدم، طالبتهم في كبرياء وشموخ أن ينزلوها أرضا لم يصدقوا ما يسمعونه، ومن ثم راحوا يتبادلون فيما بينهم نظرات التعجب. - كيف ؟! قالها واحد من بينهم ردت في صلابة: - أرجوك.. قال ثان: - جرحك لم يندمل بعد.. ردت في شموخ: - أرجوك.. للمرة الثانية ينصاعون إلي طلبها. أنزلوها في هدوء وحذر شديدين.. راحت تخطو أولي خطواتها زاحفة علي يديها، وما تبقي من ساقيها، اللتين بترتا من جراء قصف بيتها.. في صلابة، وتماسك.. راحت اصابعها تزيل من طريقها قوالب الطوب المتكسر، والتي تعوق سير تقدمها.. رجال الاسعاف يسيرون خلفها، وهم يحدقون فيها في ذهول دون ان يتفوه احدهم بكلمة واحدة.. فجأة.. توقف سير خطواتها.. راحت عيناها تخطوان خطوات بطيئة متثاقلة، تجوبان المكان.. رائحة الموت البارد ما زالت تفوح بشدة.. صوت الطائرات المحلقة في الهواء، راح يدخل أذانهم قويا، كان وقع المفاجأة عليهم ثقيلا، ثقل الحجر.. حروق (الخوف) الخمسة جلست متربعة علي وجوههم. داعبت (عزة) ذكريات جميلة بريئة عذبة.. لملمت نفسها المبعثرة، وعواطفها المنصهرة، وراحت تقول وعيناها تلمعان ببريق حزين: - هنا كان اخي يلعب بالكرة.. هنا كانت أمي تعد الطعام.. هنا كانت أختي تحيك ثيابها.. هنا كان أبي يكمل كتابة قصيدته.. هنا كان.................. فجأة.. خرجت (قطتها) عليها مسرعة، وراحت ترتمي في حضنها بحثا عن الامان المفقود، همست (عزة) في هدوء مغلف بالحزن.. - كلهم ذهبوا وبقيت قطتي.. صوت الطائرات راح يقترب محلقا فوق حطام البيت، ترمومتر خوف - رجال الاسعاف - ارتفع فجأة حتي وصل منتهاه، قال احدهم في توجس: - هيا بنا : غارات الطائرات الاسرائيلية عادت من جديد تحلق فوق سماء غزة.. ردت (عزة) في حدة: - لا.. لن اترك نبتتي، لا لن اترك بيتي.. قال ثان: - هيا لتعودي إلي المستشفي ولتكملي علاجك تبسمت في وجهه ثم قالت: - هنا دوائي.. هنا شفائي.. هنا نجاتي.. قال ثالثهم في جنون: - لم يعد لك أحد.. - ولكن أرواحهم ترفرف من حولي لتحميني.. قال رابعهم: - هيا وسوف تعودين مع المهجرين، عند وقف اطلاق النيران.. و..... قاطعته في حدة: - ومن يطفيء نيراني المشتعلة بداخلي.. عاد الاول يصرخ في وجهها: سوف تموتين! رمته بنظرة ساخرة، ثم راحبت تقول: - كنت كزهرة صبار تعيش بلا ماء صمتت برهة، وراحت عيناها تحتضنان المكان، ثم أردفت قائلة في حنو: - والان تكفيني قطرات الندي.. صوت القذائف راح يدوي خارج البيت، نظروا إلي بعضهم البعض في يأس، لقد باءت كل محاولاتهم بالفشل، تركوها وعنادها وحيدين داخل حطام البيت، وخرجوا مسرعين. قلم أبيها الواقف في صلابة، راح يناديها، علي الفور اسرعت تلبي النداء.. مدت اصابعها نحو الورقة النائمة علي ظهرها اسفل كرسي أبيها، دون ان تصاب بأذي.. راحت تقرأ علي نفسها عنوان القصيدة التي لم تكتمل. - »اين.. أين أنت يا صلاح الدين«... تحرك القلم فوق الورقة، في محاولة منها لاكمال القصيدة.