فلتت مريم من يدي وجرت، ينسدل شعرها الكستنائي الناعم خلف ظهرها، حتي وقفت فوق حجر كبير علي حافة النهر، آمالت رأسها للأمام تنظر في صفحة الماء. كاد قلبي أن ينخلع من مكانه، جريت وراءها، امسكت بها برفق، قالت في وداعة - شوف يا عمو صورتي. وجه مريم علي صفحة النهر وأسراب الطيور تمر حوله في تناغم، كأنه كعبة هذه الطيور تطوف حوله، احتضنتها، حملتها فوق كتفي، عدت بها خطوات إلي الحشائش، أنزلتها - العبي هنا أحسن. في انتظار صلاح ومحروس راحت عيناي تتفحصان طول السنوات التي ولت من العمر، قد تأخرا عن موعدهما علي غير المعتاد، شهورا مضت نتقابل كل خميس، صباحا نذهب للمقابر، نزور الأهل والأقارب، نقرأ الفاتحة علي أرواحهم ونقف طويلا أمام طارق نجتر الخوالي من السنين، لا نمل من الحكايات واسترجاعها، نبتسم احيانا، ولا مانع من الضحك عند تذكر نادرة من نوادرنا التي لا تنتهي من أيام الطفولة ثم الصبا والشباب، حتي عن زوجاتنا.. في المساء، اللقاء في حديقة الكورنيش، نفسح مريم - بعد استئذان أمها التي اعتادت ذلك - في الخامسة تكون مريم بملابسها الأنيقة الرقيقة وشعرها المسبسب علي جبينها في انتظارنا، يا ويلنا إن تأخرنا عليها، لا تبرح البلكونة حتي يظهر احدنا من أول الشارع - غالبا أكون أنا - تأخذ السلم قفزا حتي الشارع وترتمي في حضن الآتي.. خصصنا هذا اليوم لها، لا عمل - ليؤجل أي شيء من أجلها.. اليوم بعد زيارة المقابر، قرب العصر، قال صلاح - احتمال أتأخر نتقابل علي الكورنيش.. وأكد محروس انه سيمر علي مريم قبلي، لكني مررت متأخرا عشر دقائق وكنت الأول، ارتمت مريم بين ذراعي المفرودتين وسرت بجوارها منحنيا، ثانيا ركبتي لانها صممت ان تتأبط ذراعي، ابتسامة أمها مشرقة في الشرفة. أرن علي محمولهما منذ مجيئي، لا أحد يرد.. قالت سعاد قبل أن اصفق الباب ورائي -إياك ترجع البيت تاني.. ظلت مريم تروح وتجيء، تجري وتلعب ثم ترتمي في حضني، وجهها القمحي المستدير يذكرني دائما بوجه أبيها، إلا أنه الآن أصبح مثل التفاحة، تفاحة سقطت فجأة من شجرتها وهي في أول النضج بين يدي.. تفاحة مثل التي اختلفنا حولها أنا وأبيها أيام صبانا، عندما كنا نعمل في مزرعة الديب نجمع التفاح في صناديق، ليأتي من ورائنا انفار اخرون يحملون الصناديق الي العشة، ثم انفار آخرون يحملونها فوق عربات النقل للتجار، وكان الحاج فتحي الديب يختصنا أنا وطارق بالاحترام والاهتمام لاننا نعمل وندرس في ذات الوقت، وكل يوم عندما تبدأ الشمس في التواري، يسمح لنا الحاج بكيس تفاح، نقتسمه بالتساوي، اذا زاد التفاح بعد القسمة يسمح احدنا للاخر بأخذها. علي ان تكون تفاحة الغد الزائدة من نصيب الاخر.. وهكذا حتي اخر يوم عمل، بقيت تفاحة، رفضت أنا اخذها لنفسي، وصمم هو علي عدم اخذها، اتفقنا ان نقيم حفل انتهاء العمل بأن نعزم اصدقاءنا، الذين يعملون في اعمال اخري - وضعنا التفاحة في منتصف الطاولة بين زجاجات العصائر، نقطعها شرائح بالسكين حتي تكفي الكل، وسط ضحكاتنا وأعيننا التي تشرق وتلمع بمستقبل مجهول.. لمحت بائع الحلوي، اخرجت المحفظة، التقطت منها جنيها، خطفته مريم وجرت علي البائع تملأ وجهها ابتسامتها المفعمة بالروح والحياة.. اطلت ابتسامة طارق من المحفظة، تعلقت عيني بعينيه الواسعتين. رن المحمول - ايوه يا صلاح، اتأخرت ليه. - جالي ضيوف من البلد، ومحروس ابنه دافي وخده للدكتور - اروح له عند الدكتور؟ - لا.. لو اتأخر عليك، روح انت صور مريم. عادت تحمل كيس الحلوي.. ارتمت في حضني دون ان أفطن ان صورة طارق مازالت في يدي، ارتعشت عيناي في عينيه، والقت مريم نظرة في الصورة. ربتت يدي شعرها وضممت رأسها لصدري، راحت عيني تواجه المساحة المظلمة في الافق والتي اختفت الشمس وراءها، عجيب امر هذا الموت، يخطف من بيننا الاعز والأغلي من بين المحتاجين إليهم في وسط العمر، بينما يتأخر كثيرا عن أمي التي مكثت استدعيه من اجلها مدة أطول من ان نتحملها ليرحم مرضها ويرحمني من معايرات سعاد المستمرة لي ولها.. وفي النهاية لا يأتي برغبتنا ابدا.. عجيب امر هذا الموت. طرقعت اصابعي في خدها التفاحي فزادت ابتسامتها وامسكت يدها الرقيقة بين أصعابي وضعت المحفظة في جيبي وسرنا لابد من تقديم أوراق مريم للمدرسة، وسعاد كل اسبوع يتغير وجهها وتردد مقولتها التي حفظتها، هي مريم سورة، كل اسبوع مقررة عليك. - كويس ان امك ماتت.. لو عايز تتجوز روح اتجوز. كلام من وراء القلب، وقلبي لا يريد الخضوع ان يرميها بحجر عندما اخرج - وهي في اغلب الاحيان ترفض الخروج.. تفضل البيت.. كارهة للبلد الذي ليس به اماكن جديرة بنزهتها. - كفاية عليك مريم، وفسحتها هل هي الغيرة؟ لم يقتنع عقلي بأن هذه الطفلة اليتيمة تكون سببا لغيرتها، الا أني انتفضت واقفا غير مصدق تعقيبها معبرة عما يفور به قلبها - بكرة تفسح أمها كمان. لم أشعر الا بيدي ترتفع وصرخة تنطلق لتلهب جدران الشقة الباردة التي تحوينا، صفقت الباب وتركت كل شيء خلفي، متجاهلا تهديدها. رفضت أم مريم دهان جدران شقتها، بعد طارق، مكتفية بترديد كلمات الشكر لاصدقائه. لابد ان نؤكد - نحن اصدقاء المرحرم - في كل مرة نعطيها مساعدة أو نهدي مريم هدية، نؤكد ان هذا دين علينا، مهما فعلنا لن نرده، تودعنا باشارة ممتنة برأسها، تمسك بيسارها مريم المبتسمة علي لقاء قريب، وفي يمينها معاش التأمينات البسيط. حاولت ان اساعد مريم علي ربط الضفيرتين من اجل الصورة. لاحظ المصوراتي ارتباكي واستهلاكي وقتا أكثر من اللازم، نادي علي العاملة، اشرت عليها بذيل الحصان وقصه.. فعلت. انتظرنا علي الكورنيش نأكل الايس كريم، بعد ان فقدت الامل تماما في حضور صلاح ومحروس، ننتظر خاصية التصوير الفوري، احكي لها عن المدرسة وتحكي لي عن أمنياتها البريئة. احاول ان أمسك عيني لابدو امامها متماسكا ، أتعجل عقارب الساعة حتي اتسلم الصور وأضع صورة لمريم في محفظتي بجوار صورة أبيها ونسلم وجهينا للمدي ونمضي سويا.