رغم ان كل لافتة كانت تنذر بما حدث ، ورغم التراكمات العديدة، التي أحدثها المرض، وتركتها العلة علي جسد الفنان الكبير عدلي رزق الله، ورغم انهيار الكلام والمنطق واستقامة الحديث، لكنني لم أتوقع -مطقاً- ان الرحيل سيكون بهذه السرعة المذهلة، سرعة ألجمتني وفاجأتني وصدمتني بطريقة لم أعهدها، رغم رحيل الكثيرين في حياتي، إلا أن رحيل عدلي الفاجع والموجع بهذه السرعة، كان مختلفاً جداً، وفي الوقت الذي كنا نناشد -آسف نستجدي- وزارة الثقافة لتنتبه للفنان، وتعطيه لمحة من وقت، لكن الوزارة والوزير وأجهزته، كانوا -بالطبع- مشغولين وموروطين حتي آذانهم في في »زهرة الخشخاش«، هل هناك علاقة بين سرقة زهرة الخشخاش، وسرقة عدلي رزق الله؟ طبعاً هناك علاقة بين كل أشكال التردي والانهيار والفساد الذي أصبح السكوت عنه جريمة، والأكثر إجراماً أن هناك من يرفعون التحية صباحاً ومساء لسياسة الوزارة والوزير!! أو هناك من صمتوا، وحدقوا!! أظن أن صوت عدلي رزق الله الواهن، وصرخته الخافتة، والتي لم ينصت لها سوي قلائل، لاحول لهم ولاقوة، راحوا -بالتبعية- ينقلون صراخ عدلي الذي تحمله بضراوة، وربما بيأس، وربما باستسلام، ضاع عدلي، وضاعت صرخاته، وضاع كل شيء، ومازال الوحش الضاري يتمشي بيننا بخيلاء، وزهو وقوة. قبل عامين راح عدلي -وهو علي أبواب السبعين -ينبه الناس لهذه المناسبة، وكنت مندهشاً لانه هو الذي يفعل ذلك ، وكان يفعله في كل اتجاه يرسم بشراهة، ويكتب بجنون، ويحضر ندوات ولقاءات بمهارة فارقة، رغم الوهن والضعف، ورغم اليد المرتعشة وهي ترتفع بكوب ماء، ورغم الانزواء الذي كان يشعر به، كان يتحمل علي نفسه ويأتي إلي »ورشة الزيتون«، ويناقش، ويلهب القاعة بملاحظاته الحادة، لا أنسي عندما بكي بأسي شديد في تأبين الراحل يوسف أبورية، وصرخ: »لابد ان تطبع الأعمال الكاملة ليوسف أبورية«.. ولكن لاحياة لمن تنادي!!، راح يحكي حكاية الغلاف الذي صممه لرواية »عاشق الحي«، وكيف ان يوسف كان مبهوراً، وكان ممتناً، كثيرون من الكتاب والشعراء أهدي لهم عدلي اغلفة ولوحات ومودة، ولكنني لم ألحظ منهم أحدا في جنازته، كثير من الشعراء كتبوا قصائد عنه، عندما كان عدلي زرق الله، قوياً وحاضراًَ، لكنني لم أرهم يسيرون خلف جثمانه المسجي في سلام واطمئنان، ربما كان عدلي يشعر بذلك، قبل أيام من الرحيل، حدثني من مرسمه بكينج مريوط، وقال لي: إنني سأكون في القاهرة تاني يوم العيد، وبعدها بيومين -أي قبل عيد الفطر- فوجئت به يحدثني من مستشفي السلام بالمهندسين، ولكن صوته كان أضعف وأكثر وأكثر خفوتاً، وقال لي: شعبان.. انا موجود.. أشعر بوحدة مقيتة.. ارجو ان أراك.. وتعال انت وبعض الاصدقاء.. وياريت تكون معك مي أبوزيد.. وعايز أقولك انا زعلان من وزارة الثقافة..«.. هذه كانت آخر كلمات عدلي.. قبل رحيله بأيامه، لأنني اتصلت به بعد ذلك بيوم واحد كان قد دخل في النفق المعتم، فترك الموبايل لداليا ابنته، والتي كانت تبلغني: انه في العناية المركزة.. انه في حالة حرجة.. ادعيله يا أونكل.. إحنا مش عايزين أي حاجة من أي حد.. إحنا مشغولين بس بصحته، أرجوك يا أونكل إدعيله بالسلامة؟!! هكذا ضاع عدلي! وبسرعة شديدة.. من حياة وحركة وفن وألوان مبهجة، إلي جسد مسجي في سيارة بيجو 7 راكب ، دون مقاعد، وبعض من محبيه الذين لبوا بسرعة الحضور، أحمد ومصطفي اللباد، هشام أصلان ، سعيد الكفراوي- الحزين جداً- هو وزوجته، رندا شعث، جابر عصفور، عماد ابوغازي، سمير غريب، نبيل تاج، شريف عبدالبديع، كان الجمع قليلاً، لكن سحابة الحزن كانت كثيفة.. وثقيلة، اقترح جابر عصفور إقامة معرض كبير في قاعة الفنون بالأوبرا، وقال نريد ان يكون تأبيناً راقياً، ولفتني التعبير، ولم أفهم هذا التأبين الراقي، لكن شكرا، واقترح عماد أبوغازي ان يعقد ندوة أو تأبينا يتضمن معرضاً لأغلفة عدلي الغزيرة.. ولان عدلي قد أوصي زوجته سهير المكلومة، بألاتقيم عزاء.. فكل هذه الأشكال الاحتفالية ضرورية. ومطلوبة، سأتخيل عدلي موجوداً فيها، ويطلب الكلمة.. وسيتحدث، وسيشرح لوحاته كما كان يفعل -تماماً- في حياته، لم يكن عدلي يترك المرء يفهم وحده، ولكنه كان يسهب في سرد طريقته في بناء اللوحة ، وعدلي لمن لايعرفه حكاء بدرجة روائي، ومثير بدرجة شاعر، ورقيق بدرحة فنان.. في العام الماضي جمع عددا من أصدقائه القريبين، ياسر الزيات، ادوار الخراط، عماد ابوغازي، بثينة كامل، ماجد يوسف، سعيد الكفراوي، زهران سلامة -الفنان التشكيلي الوحيد الذي دعاه عدلي، وآخرين.. جمعنا في مطعم بالميرا بمصر الجديدة، كان ادوار الخراط قد فارقته الذاكرة، وربما يكون قد نسي الحضور، وكان عدلي يقف ببهجة حقيقية، في مدخل المطعم، وهو يهدي لكل منا »لوحة« من إبداعه، وعليها توقيعه، ودارت أحاديث كثيرة في هذا الجمع.. وكان لقاء حميماً.. وأظنه لايتكرر.. فما ذهب لايعود!! ونحن في زيارته - في منزله - وكانت تصحبني من أبوزيد، كان يتحدث بحميميته، وبفطرة لم أعهدها،وعندما عرجنا علي ذكريات كثيرة، حتي وصلنا إلي من رحلوا هذا العام.. وانفراط العقد الذهبي، أسامة أنور عكاشة، فاروق عبدالقادر، محمد عفيفي مطر، نصر حامد أبوزيد، محمود السعدني، ومحمد عبدالسلام العمري، ساعتها بكي عدلي، وراح يجفف دموعه، وكان -دوما- يرتدي جلبابه الصعيدي، هل بكي علي رحيلهم، او لرحيلهم، أم كان يبكي لانه يعلم أنه ذاهب إليهم ولكنه خفف القول، فحكي لي عن اثنين يحبهما ويعشقهما وينتمي إليه، الأول هو عبدالفتاح الجمل، والثاني هو غالبا هلسا، وكان عدلي لديه حكايات كثيرة عن هذين الكاتبين تحديدا، فالأول ينسب له -عدلي- فضل الكتابة، ومنه تعلم وتجرأ أن يكتب، رغم ان عدلي لم يكن كاتبا، ولكن الجمل اقتحمه في الكتابة، ولهذا الأمر قصة ليس وقتها هنا، اما غالب هلسا -المغترب الأبدي- فكان عدلي هو أول من صمم له غلاف مجموعته الأولي القصصية. »وديع والقديسة ميلاده« الصادرة عن دار الثقافة الجديدة.. وكانت علاقة عدلي بغالب قد توطدت في شقة العجوزة، عندما كان عدلي يصحب اصدقاءه وأبناء جيله إلي هناك، كما كان له اليد القوية في اصطحابهم ليعملوا في دار الهلال.. عدلي هذا الكريم الجدع الصعيدي والشهم، رغم ان هيئته تشي برقة تتناقض مع خشونة مواقفه في بعض الأحيان.. عدلي الصديق والأخ والفنان كانت معاناته أكبر من أن توصف.. ولكن في ظل مناخ تتساقط فيه أحجار الفساد يومياً، لن تدرك معني الفن، ومعني الفنان، ومعني تقديره.. وداعاً ياعم عدلي، وإلي لقاء!!