أغنّي بصمتي قليلاً فمعذرةً يا بلادي دمي فوقَ أسفلتِكِ الآنَ يمشي... أغنّي لكي لا يخافَ هنا وحدَهُ، وأضمّ جناحيَّ مختبئًا في الغصونِ؛ سماؤكِ ترفع سكّينَها فوقَ صوتي الكسيرِ أغنّي بصوتٍ قبيحٍ أمام جنودكِ، معذرةً يا بلادي لأني أحبكِ أكثرَ مما ظننتُ... اتركوا جثتي يا جنودُ؛ أخاف علي الكلماتِ الحبيسة تحت لساني الأسيرِ، أخاف علي حُلُمي من هِراواتِكمْ، يا فتاتي اهربي من نوافذ قلبي.. اغفري يا جميلةُ؛ رائحةُ الشِّعرِ قاسيةٌ في فمي، قُبلتي طعمُها مؤلمٌ كالمصيبةِ... آمرُكم يا جنودُ: قِفوا، سوف أركُلُكم واحدًا واحدًا بالأغاني ولكنّ أغنيَتي من حريرِ ورائحتي خدشتْ نسماتِ الصباحِ، أتي الشُّرَطيُّ كحَيْضٍ سخيفٍ، فقلتُ له: هذه جثتي فانصرفْ -لو سمحتَ- فطالبني بالبطاقةِ حتي يقارنَ صورتَنا واسمَنا، قال: قلبي أنا ناصعٌ كحذاءٍ جديدٍ، فأبعِدْ دماءَكَ هذا صباحي أنا مفعمًا بالسرورِ. فناديتُ: يا بحرُ (أمسكتُ زرقتَهُ) ابعثْ لنا موجتيْنِ وخذ جيفتي، سوف يأكلها سمكٌ جائعٌ ويتيمٌ. فقال: أنا نائمٌ، دع سريري. - "أنا اسكندريةُ يا بحرُ"، قال ليَ الشُّرَطِيُّ: "خذ اسكندرية واذهب بها من هنا يا لعينُ، تعذبني اسكندريةُ في زهرةٍ في ضفيرة عاشقةٍ في سلام الغروبِ؛ حذائي يجوع ليسحقَها كالصراصيرِ". غنّيتُ: يا اسكندريةُ.. يا ضحكةً حُلوةً للفقيرِ ولكنها لم تُجبْ، كانت اسكندريةُ خائفةً تتبوّل خلف مقابرها البطلميةِ، قلتُ لها: هذه جثتي فامنحيني شراعًا صغيرًا وقومي ندافع عن موتنا. قالت: اذهب إلي البحرِ، فالبحرُ أصبح بوابةً للقبورِ. ورحتُ أرصّ حروفيَ فوق حروفيَ... تلكَ عصايَ، أطاردكم يا جنودُ بها وأعذبكم بغناء طيوري أهدّ القصيدة من فوقكم لتموتوا جميعًا، أنا اللغة الأمُّ، أطفاليَ الكلماتُ وأنتم تعضّونها لتقولوا شتائمَكم في وجوه البناتِ؛ سأحْرِمُكم -يا جنودُ- حضوري... فعيشوا بلا لغةٍ: لن تقولوا كلامًا جميلاً لزوجاتكمْ، لن تصلّوا علي أبويْكمْ، ولن تضحكوا مع أطفالكمْ؛ فاتركوا جثتي واذهبوا... اسكندريةُ تحمِلُها قطرةٌ من دمي وتسيلُ علي الطينِ معذرةً يا بلادي؛ القصيدةُ تنزِفُ في قُرَحي وبثوري سيسمَعُني -يا بلادي- ابنُ عميَ لوركا، سيحملُ جثتَه ويجيءُ، يغني معي، سرقوا العمرَ لكننا سندافع عن حقنا في مماتٍ وديعٍ علي ضفةِ النهرِ، أعلمُ أنك أطلقتَ في نهر غرناطةٍ بطةً _حين جاءوا لقتلكَ- هاهي في النيلِ تجري بأفراخِها.. سوف أطعِمُها بيدي فاستَرِحْ؛ ليلتي كلّها ستغنّي علي جثتي وسترمي بذوري وقال ابنُ عميَ: سَلّمْ علي اسكندريةِ. قلتُ: سنحلمُ قدرَ ابتسامة حقلٍ صغيرٍ (ينامُ وبين ذراعيهِ لعبتُهُ): "المتوسطُ" مبتسمٌ بيننا تلتقي ضفتاه علي قُبلةٍ فأمدّ ذراعي وأقطف زيتونةً من حديقة لوركا، أري مدن "المتوسط" في شاطئ اسكندريةِ تفرش ألعابَها، وتعومُ... أري اسكندريةَ ترمي لقرطبةٍ كرةَ الماءِ ضاحكتيْنِ...... بلادي بلادي بلادي سمائي تسيرُ إليكِ وعشبي ونوري.