"عواء الذاكرة" لن يتوقف عند أحمد السالمي، لأنها ذاكرة حية ترافقه وتعيده دائما الي الوراء الي لحظة القتل.. "بهجة" ليست حبيبة فقط ولا خطيبة أو مشروع شريكة العمر، بل هي ال"وطن" بأكمله. ألم تكن بهجة عنوان الجزائر. وحين قتلت انمحي الوطن من أعين أحمد السالمي وليستمر كان عليه إيجاد بديل فانتهي الي "أمديو" الإيطالي، فأمسي إيطاليا أكثر من الإيطاليين. هناك تنكتب أحداث النص الروائي "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك" للروائي الجزائري عمارة لخوص. والصادر عن منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم هذه السنة. نص ينبني علي ثالوث مركزي يتوزع بين الذاكرة، الحقيقة والهوية. في أحد عشر عواء عبارة عن عناوين لشخوص تعيش في عمارة واحدة، بارويز الإيراني الألباني، يوهان الهولندي، أحمد أمديو الجزائري، عبدالله بن قدور الجزائري، إقبال أمير الله البنغالي، ماريا البيروفية، الي جانب الإيطاليين بندتا، إلزابتا، أنطونيو، ساندرو، ستيفانيا، ماورو. عمارة كونية خليط من جنسيات، لكل منهم حلمه لكنها نسيج من مفارقات. خليط من أحلام الهجرة والقلق والخوف. في النهاية، تتحول العمارة الموجودة في ساحة فيتوريو الي مجتمع مصغر ليس إيطاليا بالمرة، بل هو مفتوح علي الآخر في تلاقي لهويات ولكينونات ولثقافات كونية. الجنوب والشمال والأمريكولاتيني والاسكندناف.. حتي داخل الكتلة الواحدة "إيطاليا" تكتشف هوية جريحة تصارع لكي تقبل تعددها. بين جنوبها وشمالها. "بارويز" منصور صمدي المنفي الإيراني الهارب من جحيم القتل. والذي يكره البيتزا الإيطالية رغم أنه طباخ ماهر. بارويز القادم من شيراز تعود أن يكون قبطان مطبخه لكنه في إيطاليا تحول الي غسل الصحون المليئة ببقايا البيتزا التي يكرهها، بعدما خاض حربا لإثبات صفة لاجئ أدت به الي خياطة فمه احتجاجا. شخصية بارويز الإيراني ڈأو الألباني كما يحلو للآخرين نعته لا تكتمل إلا بعلاقتها ب "أمديو"/ أحمد السالمي والذي يظل إيطاليا بالنسبة ل"بارويز" أكثر من الإيطاليين هو شبيه بعمر الخيام، هو روما وبهجتها لبارويز، وهو "الملح". أما إقبال أمير الله البنغالي والذي قرر أن يسمي ابنه روبرتو تفاديا لمأزق الاسم الذي عاني منه في إعداد أوراق الإقامة والمشاكل البيروقراطية فمشكلته تكمن في نظرة الآخر، وهو نموذج فعلي لأسئلة مهاجر يعيش في بلد، يكره البعض فيه وجود "الأجانب" كما يكره هو الباكستان، والتي تذكره "بحرب الاستقلال سنة 1971، وما رافقها من عمليات اغتصاب لذلك تمني لو يقصفها بالقنبلة الذرية" ومن خلال شخصية إقبال ننصت لصوت قيم: التسامح ولعقيدة مسيجة باكليشيهات جاهزة عند الغرب. ماريا كريستينا غونزاليز البيروفية، الخادمة والمرافقة للسيدة روزا المسنة، الغريبة الأطوار، تفكر ماريا فقط في بناء أسرة. ماريا كريستينا الثرثارة المدمنة علي التلفاز والتي تحمل هاجسا واحدا الخوف من الشرطة لأنها لا تملك وثيقة الإقامة وحلمها أن تصبح ممثلة ومشهورة كي تتمكن من استعمال المصعد، عكس "يوهان فان مارتن" الهولندي المعجب بالسينما الإيطالية والمتعلق بتجربة الواقعية الجديدة، وبأفلام فاسبندر. ينتهي الي فكرة تصوير فيلم سماه "صدام الحضارات علي الطريقة الإيطالية"، وهو فعلا كذلك. لأن المصعد تحول الي منظومة من الصراع الطبقي والعرقي والعنصري أو كما وسمه السارد "قبر ضيق وبلا نوافذ". باقي الشخوص "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك" من جنسيات إيطالية، هي نفسها تعيش اضطهادا مزدوجا، ومنفي داخلي وخواء مريع. هوية متشظية لاهي بالنابوليتانية ولا هي ديناصور. "بيندتا" بوابة العمارة "لانا بوليتانا" والتي تكره الجميع عرب، ألبان، صينيين.. تكره الأجانب. "إلزابتا فابياني" المدمنة علي حب الكلاب والأفلام البوليسية. الأستاذ انطونيو ماريني الميلاني المحاضر الأكاديمي الذي يري "أن الوحدة الإيطالية خطأ تاريخي" ليبيرالي معولم حتي النخاع..ساندرو دنديني صاحب الحانة المعجب بزاوية مونتانلي وما يكتبه في صحيفة "ديلا سيرا" والذي يقر أن "الشعب الإيطالي لا يملك ذاكرة تاريخية". ساندرو الجنوبي لا يطيق النابوليتيين ويناصر نادي روما، روما ذاكرة الإنسانية. أما ستيفانيا مشارو صديقة "أمديو" الموظفة بوكالة سياحية والتي سافرت كثيرا، لا تخفي عشقها للصحراء ولحياة الطوارق، ستيفانيا تطوعت كمدرسة للغة الايطالية للمهاجرين وهي بالنسبة لأمديو "الحياة أي الحاضر والمستقبل" وأبدا لن تكون الماضي. ذاكرتها خالية من الكوابيس. ماورو مفتش الشرطة والذي كلف بالبحث في جريمة قتل الشاب لورانزو مانفريدي المدعو الغلادياتور يكشف عن وجه الحقيقة، ثمة وجهان الأول اتهام أحمد سالمي المدعو أمديو، بالقتل بعد اختفاءه المريب الوجه الثاني الزابتا فابياني القاتلة انتقاما مما حدث لكلبها الصغير مستفيدة من المسلسلات البوليسية لذلك يعترف المفتش ماورو: لقد أفلسنا..اللعنة علي التلفزيون. الحقيقة الهوية والذاكرة يتساءل السارد في العواء الأخير ص150 "هل هناك فائدة ترجي من القص؟" في إشارة لجحيم الذاكرة وعصفها الذي لايهدأ عن طرق الحاضر فمقتل "بهجة" شكل جرحا غائرا لم تمحه الهجرة الي ايطاليا. ولا حتي الكتابة ذاتها فالحكي اقتراح إجرائي ما يلبث أن يتحول لفعل كاتراسيسي من جحيم "الماضي". في النهاية تتحول الرواية الي "منفي" ويستعيد السؤال عن فائدة القص جوابه المجازي: الكتابة منفي، ليصبح "أحمد سالمي" بين رضيعين للذئبة"، المنفي والهجرة. استيلاب مضاعف، حول حول الكتابة الي حرقة التخلص من الموت "علميني يا سيدتي الجليلة حرفة التملص من الموت، علميني يا شهرزاد كيف أكر وأفر من غضب شهريار وحقده". النص عموما يقترح تقابلات مركزية تسعفنا في تحديد سمات خطابية اقتراحية: 1 العواء = المنفي 2 الذاكرة= شهريار = الحكي 3 الذاكرة = حيوان مفترس 4 الحقيقة = مرة كالدواء 5 العواء نوعان: عواء الألم وعواء الفرج 6 السارد: يرضع من ثدي الذئبة 7 الترجمة: رحلة بحرية ممتعة من مرفأ الي آخر 8 السارد: عابر لحدود اللغة 9 الهوية: قيود تقود الي الهاوية 10 المهاجر: وجه واحد عبر التاريخ 11 العواء: إجهاض للحقيقة اختيار السارد للعواء نابع من رغبة محددة، هي محاولة الإجابة عن سؤال: "هل الحقيقة دواء يشفي أسقامنا أم أنه سم يقتلنا ببطء؟ سأبحث عن الإجابة في العواء" ص31. في رواية "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك" إحدي عشر عواءا لصوت السارد، حيث يحدد "أحمد سالمي" أو "أمديو" علاقته ورؤاه من كل شخصية من شخوصه التي يقترحها علي امتداد النص الروائي، والتي يسميها ب "حقيقة": حقيقة بارويز منصور صمدي /ص9. حقيقة بندتا اسبورينو /ص33. وهكذا دواليك، بعد كل "حقيقة" إحدي الشخوص، نقرأ فصلا من العواء الذي يتسلسل من العواء الأول الي الأخير 11 عواء وهو اقتراح سردي بحس تجريبي، حيث "اللاتواقت" كسمة للمفارقات الزمنية في النص بين كل "حقيقة" و "عواء". ومادام هذا الأخير هو إجهاض للأولي بتعبير السارد فلنا أن نستقرأ هذه المفارقة المزدوجة والتي تحول النص الروائي ككل الي لعب مفتوح. خصوصا عندما يوازي هذا الفعل تعدد الرواة في النص ككل حيث تتلبس الشخوص أصواتها في محاولة لسرد حكاياتها ويأتي السارد كي يحدد مستويات "التواتر" في النص ككل، من خلال "التعليق"، وتشكيل منظورات مختلفة للشخوص والأحداث، ويوازي هذا الفعل حلم يوهان الهولندي الذي يرغب في تصوير فيلم في ساحة فيتوريو بالأبيض والأسود "تحديدا في إشارة عميقة للعبة التوازيات بين "الحقيقة والسرد". يتناول الفيلم حياة هؤلاء الشخوص الذي استقاهم الروائي عمارة لخوص لنصه الروائي. وهنا قد تتقاطع رغبة أحمد سالمي مع يوهان في رغبتهما الدفينة الي نسج نص يقارب عوالم وحيوات تربطهم علاقات خاصة بكليهما. الأول ينسج عوالم نصه الروائي من خلال الفيلم ذو المنحي التسجيلي الذي يستلهم روح الواقعية الجديدة في إيطاليا. أما الثاني فاختار "العواء" في نص روائي، لكنه ظل المهيمن، بحكم أن يوهان في النهاية هو إحدي شخوصه. يقترح علينا الروائي الجزائري عمارة لخوص في روايته "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك" نصا مختلفا في أسلوب كتابته، وخصبا في متخيله. لكن، يظل نصا متفردا علي عنصر الهجرة وعن علاقة "الشمال والجنوب" عن ثقافة الآخر وخطاباته حول الهوية والجنوب ص40، عن الاغتراب والتشظي وعن الحقيقة الملتبسة في الحكي وعالم مسكون بالعدم. نص مسكون بطرق الذاكرة وأرقها وعصفها كي تصبح في النهاية الي "جب" من التقاطعات السيزيفية اللعينة والتي تجعل شخصية "أحمد سالمي"/ "أمديو" تعبر من "بهجتها/ الوطن والأم الي "الخارج" بكل حمولاتها الدلالية، الخارج الذي بحث فيه "أحمد" عن الداخل الساكن فيه، متحررا من سلطة الهوية. "ألم يرضع من ثدي الذئبة" حتي أصبح يتوسط شعار روما لذلك أمسي يحقق هوايته المفضلة "العواء=الحكي" حتي لا تعضه الذئبة وتحتويه وحينها لن يصبح هناك لا "خارج" و "داخل" وتصبح المتاهة المآل القدري.