من حُسن حظي وببركة دعاء أمي وبتوفيق لم أعتده ،أُتيح لي أن أقضي اليومين الأخيرين قبل العودة إلي القاهرة أعلي أحد الجبال جنوب صيدا، في واحدة من أجمل القري التي خلقها الله وهي قرية خزيّزّ. والحكاية أن لي صديقا لبنانيا تعرفت عليه في القاهرة هو الفنان وعازف الناي لبنان عون، وبالمصادفة التقينا في القاهرة قبل سفري إلي بيروت ودعاني لزيارته، وهو ما جري بالفعل بمجرد انتهاء أعمال ملتقي الرواية.وهكذا أتيح لي أن أعيش وأتعرف علي جانب من لبنان يجعلني أحب هذا البلد أكثر وأكثر. قرية خزيّزّ بدت لي كأنها قطعة حلوي صغيرة جدا، فعدد بيوتها مثلا ربما لا يتجاوز عشرين بيتا، والقرية معلّقة أعلي الجبل، والقري الصغيرة تتناثر هنا وهناك في حُضن الجبل.لا أريد أن أرسم صورة وردية ساذجة ،فبعد دقائق، وفي سفح الجبل هناك بالطبع ، مثل القاهرة، ضجيج وازدحام وبيع وشراء وقمامة ومظاهر الفقر المعتادة. ومع ذلك فقد أمضيت يومين أظن أنهما من أجمل الأيام المبهجة والمطمئنة وأكثرها دفئا .أما صديقي لبنان وزوجته ضحي حسون فلا أستطيع أن أوفّيهما حقهما من الشكر، وابنهما لبنان الصغير عمل لي أول قهوة في حياته، بعد اتصالات هاتفية متعددة بأمه ليتلقي منها طريقة صنع القهوة، بينما أعدت ابنتهما عشتار أول إفطار في حياتها بسبب وجود ضحي في عملها. بدت لي القرية نائمة وهادئة مثل سائر قري الجوار، كأنني أعيش أغنية من أغاني فيروز التي تملأ صورها وصوتها أغلب الأماكن التي مررت بها، فالجميع يعشقها بطبيعة الحال.لا أريد أن أتسرع، لكنني شعرت أن المسألة الطائفية ليست مطروحة ولا مثارة، فالصديقة ضحي مثلا شيعية وأصرت هي ولبنان المسيحي علي الزواج،ويعيشان حياة مستقرة، وابناهما يعيشان حياتهما باستمتاع.كذلك دخلت بيتين آخرين: بيت الختيار ولم أعرف ما إذا كان مسلما أو مسيحيا، فالأمر ليس مطروحا ولا مثارا. والبيت الثاني كان يستضيف عازف العود الفنان حازم شاهين في سهرة ضيقة، وأبدع حازم الذي لم ألتق به في القاهرة للأسف، وإن كنت استمعت إلي فرقة إسكندريلا التي لحّن لها معظم أعمالها .في هذا البيت لم يكن مطروحا ولا مثارا تلك المسألة البغيضة، أي المسألة الطائفية. أتمني أن يكون انطباعي صحيحا، فلطالما اكتوي اللبنانيون بحرب أهلية مجنونة استمرت ما يزيد علي عشر سنوات، وكانت المسألة الطائفية في القلب منها.وأتمني أيضا أن يكون انطباعي عن بيروت صحيحا فلم ألحظ هذه الملامح الطائفية البغيضة مطلقا،علي الرغم من المعضلة المطروحة بسبب حزب الله ودوره الملتبس في الحياة السياسية. وفي النهاية فإن بيروت مدينة لا تستطيع إلا أن تعشقها وتحب ناسها وتحتضنهم ، ولبنان فيما يبدو لا يستطيع الواحد إلا أن يقع في غرامه.