رقصة الدبكة لماذا لانقلد الطيور وننطلق في كل الاتجاهات ونقطع المسافات إلي السهول والحقول والوديان والحرية.. حيث القلوب تمتليء بالحياة ولا تخلو في أي وقت من الله؟.. لماذا لانتحرر لبعض الوقت من المدن التي نحملها فوق أكتافنا ومن الشوارع التي نهيم فيها بغير انقطاع لنبدأ رحلة تجلب السكينة للنفس والسلام للعقل؟ سلسلتان من الجبال الشرقيةوالغربية تحدان سهل البقاع اللبناني الخصيب، الذي يصل طوله إلي 110 أميال، ويتراوح عرضه مابين عشرة وستة أميال، ويبلغ أقصي ارتفاع له بجوار مدينة «بعلبك» التاريخية، التي يجري بالقرب منها نهر العاصي نحوالشمال إلي الأراضي السورية، ونهر الليطاني الذي يجري نحو الجنوب، ثم ينعطف نحو الغرب علي مقربة من بلدة »بوفرت«، وينحدر إلي السهل الساحلي بعد اختراقه الجبال الغربية ليصب في البحر الأبيض المتوسط، بين مدينتي «صيدا» و«صور» الجنوبيتين. سهل البقاع أوالريف اللبناني تحول علي أيدي رجاله إلي بساتين تفاح وكرز وبرتقال وليمون وإلي حقول خصيبة تفي بحاجة لبنان من القمح والشعير والخضر، وإلي مراع للأغنام والماعز والأبقار والدواجن تمد اللبنانيين باللحوم والألبان والزبد والجبن والبيض. من نافذة الحافلة التي عليها أن تقطع مسافة مائة كيلو متر من بيروت وحتي بلدة «دير الأحمر» في شمال سهل البقاع الشرقي، يتراءي للناظر ذلك التنوع المدهش في المشهد تشي تفاصيله وكأنه لوحة مصورة يغمرها الضوء والنور لوطن خيالي. ربما هذه الأرض المنبسطة الطيبة المتدرجة، التي تكثر في منحدراتها العيون والينابيع، ويجري من تحت بساتينها وحقولها الخضراء الجدول والنهر، وتنتشر علي أوديتها القري البيضاء.. ربما هذه الأرض هي التي دفعت بالشاعر اللبناني القروي، إلي أن تستبد به الرغبة في عناق الوجود: من لنفس تود لو تغمر الكون هياما بحسنه المعبود مثلوا لي هذا الوجود بشيء أنا لا أستطيع ضم الوجود تتوقف الحافلة عند منعطف صخري، وينفتح بابها الأمامي لتصعد منه »دينا خوري« رئيسة رابطة سيدات دير الأحمر وبصحبتها ابنتها وابنها، وصديقتها »بارنا« من جبل كسروان، والجميلة »دارين« زهرة من زهور لبنان البرية.. ويطوف علي صفحة الذهن نصف بيت من الشعر العمودي لواحد من شعراء العربية القدامي وكأنه كان يقصد به الزهرة البرية الجميلة »دارين«. آتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا. من لم يرتبك قلبه ويرتسم علي وجهه هلال ابتسامة، و»دارين« تأتيه وهي تختال ضاحكة فتنسيه صيف يوليو الحار، وتعود به إلي نسمات ربيعية عطرة؟ في المقعد المجاور الشاغر، اتخذ الربيع الطلق الضاحك مجلسه.. فلا يغرك أيها العازف المنفرد المتجول في خريف العمر إذا انتفض وتر الكمان وراح يصدح بالغناء، ولايغرك كثيرا أيها العازف المنفرد المتجول في خريف العمر، إذا ماصادف عزف الكمان قبولا من نغمة شاردة جميلة مثل زهرة برية، ولتقنع أيها العازف في خريف العمر من لقائك بالربيع الضاحك في صيف لبنان الحار بذكري جميلة عطرة. «دارين رشكيدي» من مدينة «الكورة» بمحافظة الشمال اللبناني الشهيرة بزيتونها المميز، حاصلة علي شهادة الجامعة اللبنانية في تخصص إدارة الفنادق وأولي دفعتها، استعانت بها «دينا خوري» رئيسة رابطة سيدات دير الأحمر في بحث عن المأكولات اللبنانية التراثية تقدمنا به معا إلي المؤتمر العربي الدولي للسياحة البيئية للكتاب والصحفيين السياحيين الذي يعقد صباح الغد بكازينو لبنان في جونيه. مثل الطيور التي تنطلق في كل الاتجاهات، كذلك »دارين« لاتستقر في مكان، إما لأداء عمل ترجمة، أو تلبية دعوي للمشاركة في نقاش لايخلو من مغازلة ومشاغبات وضحكات وابتسام، ومن وقت لآخر ترتفع أصابعها الرقيقة لتهديء من ثورة شعرها الأسود الفاحم المشاكس والمرسل في حرية تستعصي علي القيد. اسأل «بارنا» ابنة الجبل، المقيمة بمفردها في بيروت، والتي حلت محل »دارين« في المقعد الشاغر إلي جواري، عن أصل اسمها، فتقول وابتسامة كبيرة تضيء تقاطيع وجهها الجميل الخالي من أية أصباغ أو من تدخل أصابع مصفف الشعر: إنه الاسم الفرنسي »بارناديت«. تعمل «بارنا» كمصممة أزياء في إحدي دور الأزياء المنتشرة في بيروتالشرقية، وتهوي ارتياد معارض الفن التشكيلي في القاعات العديدة التي تمتليء بها عاصمة الأناقة بيروت أسألها عن أخلاق جبل لبنان وإلي أي مدي تختلف عن أخلاق المدينة في الساحل اللبناني، فتضحك «بارنا» كبدوية لاهم لها غير إكرام ضيفها قائلة: تماما مثل الفرق بين أخلاق أبناء صعيد مصر وأخلاق القاهريين الذين يؤلفون حولهم النكات. »بارنا« روح مرهقة بسبب شعورها الباهظ بعدم انتماء إلي قواعد الحياة في بيروت المنقسمة علي نفسها، وحين تسارع بالعودة إلي جبل كسروان لقضاء إجازة بين الأهل والأصدقاء تشعر الشعور نفسه الذي عبر عنه شاعر الاسكندرية اليوناني «قسطنطين كفافيس» في قصيدة له بأن المدينة قفص ولا أمكنة أخري هناك. عند بناية صغيرة أقيمت فوق سهل متعدد المستويات من كل جانب، وعلي امتداد الأفق،نلحظ لافتة تحمل تحية من رابطة سيدات »دير الأحمر« إلي وفد الكتاب السياحيين العرب والاجانب وعلي مسافة غير قريبة، تتناثر البيوت الصغيرة البيضاء وسط اللونين الاخضر الزرعي والاصفر المجدب. سؤال حزين يطرح نفسه أمامنا علي امتداد الاصفر المجدب إلا من بعض حشائش كالتي تنبت علي جدار ضريح ومقبرة: هل اختارت أرض البقاع الجدب وصارت عقيما لكي تعاقب سيدها اللبناني الذي هجرها وركب البحر باحثا عن أرض جديدة في بلاد غريبة؟. هل أنهت إسرائيل استعدادها وبدأت في الاستيلاء علي مياه لبنان التي تغذي الجنوب والبقاع؟ وأين الوعود التي قطعتها علي نفسها المنظمة الدولية للفرانكفونية بأن تلبي احتياجات لبنان المتفرنس اللاثغ في حرف الراء، علي طريق الغد الإنساني الأرقي والأنبل والأجمل الذي يبشر به مريدو الفرانكفونية في لبنان؟ توقفت الحافلة عن السير وسكت صوت محركها القوي الألماني الصنع، وبدأنا نهبط السلم لنجد أنفسنا وسط ترحيب من كانوا في استقبالنا أمام مركز التنمية الريفية رجال بلدة «دير الأحمر» وسيداتها وفتياتها وأطفالها في ثيابهم القروية التراثية يتخذون شكل نصف دائرة، ويرقصون الدبكة اللبنانية، ويدقون الأرض بأقدامهم. فتيات ريفيات جميلات في عمر الزهور، يقدمن لنا أكواب اللبن الرايب الطبيعي الطازج وفي منتصف القاعة الدائرية التي اتخذنا جميعا مقاعدنا إليها، منضدة عليها من خيرات الريف اللبناني، فاكهة وخضراوات ذات ألوان زاهية وروائح ذكية تغري بتذوقها، وأيضا مختلف أنواع المأكولات اللبنانية: المشاوي والمعجنات والكبة والمجدرة والصيادية والتبولة والفتوش والسمبوسك والمنقوشة والحمص. الرجال في سراويلهم الفضفاضة وعماماتهم البيضاء ممن تجاوزوا المائة عام، يواصلون رقصة الدبكة وكأنهم فتية في ريعان الشباب.. ربما لأنهم يتنفسون هواء الحقول النقي، ولم يتنفسوا هواء المدن الفاسد، ولم يقيموا علاقات فاسدة في المدينة المزدحمة، ذات الوجه المكشوف والأخلاق التي» تتغير تبعا لتغير الريح المواتية وحسب اتجاه المنفعة ونساء ريفيات يشاركن في الرقص لايتشحن بالسواد، يرتدين ملابس ألوانها في صراحة ضوء الشمس يغمر السهول والأودية، وفي طزاجة البرقوق والمشمش والكرز وشرائح البطيخ.. وأطفال ينتقلون هنا وهناك كما تتنقل الطيور، تشي بشرتهم الرائقة بسلام النفس المطمئنة، التي تقطن الريف المسالم حتي وإن شعر بإهمال العاصمة الجميلة المعجبة بنفسها له.. وهذا طفل علي أبواب الصبا يرتدي السروال والعمامة البيضاء، الزي القروي نفسه الذي يرتديه «وديع الصافي» وهو يغني بين أعمدة قلعة بعلبك وحجارتها.. ويمسك الطفل الصبي بالميكروفون مغنيا الموال والماجنا، في مكانهما الطبيعي وسط الحقول والسهول. أغادر الجمع لبعض الوقت للقاء الطبيعة في الخارج.. أتنفس هواء الحقول النقي، فأشعر بأنني قد تخففت من أثقالي حتي أكاد أحاكي الطيور في الطيران.. أتأمل الوجود من حولي وأصيخ السمع لصوت الطبيعة، فتتسلل إلي عمق روحي نغمة أسكنها وتسكنني، فتشيع في عقلي سلاما وفي نفسي طمأنينة. هواء الحقول ينقل إلي سمعي صوت الصبي القروي، في سرواله الفضفاض وعمامته البيضاء، وهو يصدح بغناء موال لبناني قريب الشبه بموال أخضر استمعت إليه في احتفال بمولد الشيخ «الفرغل» من أولياء الله الصالحين له ضريح ومقام بالمسجد المسمي باسمه في مدينتي الصغيرة «أبو تيج» في جنوب مصر.. فأعود أدراجي إلي مجلسي بجوار »إميل عزت« وزوجته الفاضلة وإلي ارتشاف المزيد من أكواب اللبن الرايب الذي ليس في متناول أمثالي من قاطني المدن، ذات الهواء الفاسد والعلاقات الفاسدة. العصافير، والاطفال، و »دارين« يتنقلون أمامنا من مكان إلي آخر ولايستقرون طويلا في مكان واحد.. و«دينا خوري» تعطي ملاحظتها لسيدات البلدة من أعضاء الرابطة التي ترأسها، و»بارنا« ابنة جبل كسروان ربما في جلستها إلي الفتيات والسيدات تتشكل في ذهنها خطوط وألوان تصميم جديد تضمه إلي تصميماتها السابقة في دار الأزياء التي تعمل بها في بيروتالشرقية، والكتاب الصحفيون اليمنيون الثلاثة «عبدالقادر الشيباني، وياسين التميمي، ومحمد عبد الله»، في وضع تأمل لطبيعة ريف البقاع اللبناني وتراثه.