البحر هو الشارع والرصيف عتبة، تأتي بيروت كلها إلى الرصيف ظناً منها أنها تسبح وأن البحر القريب. ليكون هو الشاهد على تاريخ مدينة لا نعرفه بالكتب ولا يطاله المؤرخون، تاريخ بيروت هو تلك القصص اليومية التي يعيشها سكانها والتي لابد وأن تعرج على البحر ليكون المقدمة حيناً والراوي في معظم الأحيان. ويصبح الرصيف البحري شرفة المدينة تطأه بيروت يومياً وعلى مدار الساعة غير آبهة بالبرد أو بالحر، شرفة تشكل المتنفس الأول لسكان بيروت وتكون دليلاً حياً على قدرة الحياة وإتقانها. لرصيف بحر بيروت ثلاثة محاور: الرئيسي منها يبدأ عند «الروشة»، وينتهي «بعين المريسة»، ولديه ملحقان من الجنوب رصيف «الرملة البيضاء» وشمالاً رصيف «سان جورج». الوقت هنا لا اعتبار له، حيث يمكن لرائحة الملح أن تسترق حواسنا في أي وقت كان ، المكان مفتوح دائماً، لا إغلاق ولا منع تجول يمكن أن يجول على الرصيف، الليل كما النهار، حركة دائمة والنشاطات نفسها، من الرياضة إلى فنجان القهوة وصولاً إلى لحظات العشق، بيروت على رصيف البحر لطالما ارتدت ثوب العشاق ولطالما كانت في صفهم. مع أولى ساعات الصباح الباكر، وعلى مسافة فاصلة بين السور (الذي كان حديدياً أزرق اللون وتحول بسبب ضرورات جمالية إلى الألومينيوم الفضي اللون) وحافة الرصيف (حيث صف طويل لا ينتهي من السيارات المركونة)، تتحول هذه المسافة القليلة من الأمتار الممتدة على طول الساحل البيروتي، إلى نادٍ رياضي، وفي الغالب المشي هو الرياضة الأساس ثم تأتي البقية. في الصباح يكون دور المسنين يبدأون قبل أن تطل الشمس على بيروت في صحن الأفق، يمارسون حياتهم وكأنهم سيعيشون إلى الأبد... وصولاً إلى عين المريسة حيث يمتد الرصيف ويتسع مشكلاً ساحة تغطيها دائرة من حوالي ثلاثين مسناً يقومون برياضة يومية لتمديد العضلات وتنشيط القلب المتعب من علو جدران السياسة الخانقة في وسط العاصمة «نشم هواء نظيفاً ومنفش خلقنا بلا أخبار» تقول السيدة أم محمد التي تلعب الريشة يومياً على البحر منذ أعوام، على هذه الشرفة قرب البحر تخلع بيروت مستجداتها وتركض، على خطى الملح المتجمد من أثار موجة اقتحمت الرصيف. في ساعات الصباح الأولى المسنون فقط. أما الشباب فهم للقهوة الصباحية، يراقبون وجوههم في الكبر ولا يأخذون مساحة كبيرة. كما لو أن ثمة قانوناً ما ينظم الوقت فلا تداخل و لا اعتداء على مساحة أحد. مع إشراقة الشمس يخلع المسنون رياضتهم ويحملون البحرعلى ظهورهم ويأفلون عائدين إلى حيث لا يريدون من الحياة اليومية حيث الأخبار والسياسة والوضع الأمني، ويبدأ من هم أصغر سناً. الرياضة لا تختلف. المشي مع نسبة أكبر لمن يركضون، حتى تخالهم بأنهم لا يركضون متعةً وإنما هرباً من شيء ما، يركضون بلا توقف جيئةً وذهاباً على نفس الخط، دون أن ينتبهوا حتى إلى أن الطريق مكررة، فيبدون وكأنهم في رحلة سفر. في هذا الوقت تكثر السيارات ويصبح الصف خطين متوازيين ويعلو صوت فيروز مع قهوة الصباح حيث يبدأ الناس على الرصيف البحري نهارهم بمطالعة ما يمكن أن يأتي به الفنجان من أخبار عن المستقبل. ويخيل للناظر بأن الحياة مثالية في بيروت، حينما يشاهد الرصيف. أناس يبتعد «الهم» عنهم وفيروز تغني على إيقاع القهوة وتبقى ابتسامة على الوجوه بلا أي سبب ربما هو تأثير البحر. ما الذي يمكن أن يطلبه المرء أكثر من مثل ساعات صفاء كهذه؟.حين تشتد الشمس أو البرد مع ساعات الظهيرة حيث الروتين اليومي يكون قد استفحل، تأخذ الحياة على الرصيف البحري قيلولتها وتبقى أزواج من العاشقين تزرع السور البحري بقبلة أو بحديث عن الآتي من الأيام، وتغض بيروت الطرف عنهم وتحميهم، حتى يأتي المساء ليعود الصخب إلى المكان. في المساء تشعر وكأن بيروت كلها خرجت من المنزل إلى البحر، الذي يصبح قريباً بما يكفي ليتمكن من ملامستك. صغار وشباب وشيوخ كلٌّ يغني على ليلاه، من الرياضي إلى العاشق حتى شارب القهوة. للقهوة على البحر مكانة مقدسة، وتكون أول ما يتبادر إلى الذهن عند الرصيف، الذي تنتشر عليه المطاعم والمقاهي والفنادق الفخمة مع برامجها الفنية و مقاعدها المريحة. أما قبالتها فيزرع الناس كلماتهم حيث كل شيء رخيص ويناسب إمكانات الوضع الإقتصادي السيئ، عند المنارة صادفنا مجموعة من الشبان يرقصون (الدبكة) في وسط الرصيف يمر الناس بجانبهم دون أن يعيروهم اي انتباه وكأنه مشهد عادي أن يرقص الناس في الشارع هنا. يقول «علي» أحد الراقصين: «هذا المكان نعمة من السماء، حيث يمكننا أن نقوم بما يحلو لنا ونرفه عن أنفسنا ، دون أي تكلفة.» أما حسين فيتابع: «لا يمكنك أن ترقص في الشارع دون أن ينظر الناس إليك على أنك مجنون إلا هنا، فنحن لسنا الوحيدين دائماً ما تجد أناساً يرقصون هنا.» نتابع سيرنا على السور المعدني الذي يفصل البحر عن الواقف إليه، عائلة جلبت معها كراسيها ونرجيلتها وجلست. أبو أحمد يجد في هذا المكان نجدة له فهو لا يستطيع أن يأخذ عائلته إلى مقهى بسبب ضيق الحال، و يقول «الرصيف يشكل لنا أحلى قهوة، ليه حتى نروح وندفع اللي فوقنا وتحتنا» تدخل إلينا أصوات ضحكهم لها رائحة البحر، وتبقي أم أحمد عينها على أصغر أبنائها وتحثه على عدم الاقتراب من السور مهددة إياه بالموج الذي قد يبتلعه. ولكن الموج لا يهجم ويبقى الصغير في حيرة من أمره كيف أن الموج لا يهاجم شاباً وفتاة بالقرب منهم أسندا ظهريهما إلى السور فتبتسم الأم. نتابع مسيرنا باتجاه «الريفييرا» أو ما يسمى «عمود الجامعة» نسبة إلى هوائي تابع للجامعة الأميركية نصب على الصخور عند البحر. هناك التقينا زياد وشقيقه علي يعزفان على الغيتار ويغنيان. زياد كان يأتي إلى هنا منذ كان طفلاً يصحبه والده ليمشي معه واستمر بهذه العادة حيث بات يأتي هو وخطيبته قبل أن ينفصلا، ويخبرنا أنه كان يسبح بشكل شبه يومي هنا في الشتاء على الرغم من البرد هو وصديقه الذي فضل الهجرة على السباحة ليبقى هو ويغني على الأطلال. صيد وباعة - موت وحياة الحكايات لا تنتهي كيفما وجهت وجهك على الرصيف البحري التقيت بقصة، تاريخ من الحكايات المتوارثة عبر الزمن تكاد تكون نفسها مع تفصيل بسيط هو اختلاف الأبطال وظروف الحياة. من الروشة إلى عين المريسة خط طويل من الصيادين الذين يقضون الساعات تلفحهم المياه الباردة بكل أشكال المتعة عند عين المريسة هبطنا الدرج القديم وصولاً إلى ملامسة البحر نتحسس طريقنا الرائحة قوية، المجارير هنا تصب كل غضب البشرية على البحر، والطحالب وجدت طريقها إلى الضوء فافترشت الرصيف الضيق الذي يمنعنا من البلل. يحذرنا أحد الصيادين من أن الأرض زلقة للغاية، وتحاول أقدامنا الثبات، الصيادون اعتادوا هذه الأرض، يمشون واثقين بأنهم لن يقعوا أو أن البحر قد ألفهم لدرجة بات بإمكانهم الإستلقاء فوقه دون أن يغرقوا، نزيه بائع أقمشة اعتاد الصيد هنا منذ 35 عاماً حين كان يأتي مع أحد أصدقاء والده، «كتر خير الله، بعدنا عايشين» ويجهز صنارته ليرميها في البحر، ويؤكد بأن جميع الصيادين الذين تراهم على البحر واظبوا على المجيء حتى في أحلك الظروف تحت القصف أو الاغتيالات: «في حرب تموز كانت البوارج الإسرائيلية تتبختر أمامنا ونحن هنا نصطاد.» ويتابع: «اللي إله عمر ما بتقتلوا شدة» في سلته المنتظرة منذ ساعات ما يأتي به البحر نشاهد سمكتين ولكن متعة الإمساك بسمكة مهما بلغت لن تضاهي متعة نزيه بالجلوس أمام البحر، يتابع بصره الممتد في الأفق ويصغي بانتباه شديد إلى صوت أم كلثوم الصادر من الراديو الصغير قربه وكأنها مدونة فيها حياة أو موت. لا شيء يشغل باله هنا. يخلع كل شيء على العتبة فوق ويهبط الدرج باتجاه البحر عارياً من كل شيء إلا ثيابه، ويتابع رحلة الصبر والسمك. على رصيف بحر بيروت يسرح الناس بصرهم ويهذبونه، فلا شيء يحد الرؤية . وما من مانع من النظر إلى حيث أرادوا فالمربعات الأمنية بعيدة نسبياً. والحواجز الأمنية لا تعكر صفوهم يمرون بجانبها غير آبهين. الحياة هنا رغم خطورتها تظل آمنة بالنسبة لهم، فالرصيف البحري شهد أول عملية اغتيال تلك التي كانت تستهدف النائب مروان حمادة والتي نجا منها بأعجوبة ثم أتت العملية الثانية التي غيرت وجه لبنان هنا أيضاً على الرصيف ذاته حيث استشهد الرئيس رفيق الحريري عند فندق سان جورج ولم يهدأ الموت المتفجر الذي لطالما جوبه بالحياة هنا، فقصفت الطائرات الإسرائيلية برج المنارة ولكن كل شيء بقي على ماهو عليه في مواجهة البوارج لتعود السيارات المفخخة فتختار الروشة ويذهب ضحيتها النائب وليد عيدو ونجله. قليل من الحكايات التي فيها الكثير من الموت، والرصيف البحري يناضل من أجل ان يبقى شرفة لا تحجبها الأشرطة الصفراء المكتوب عليها ممنوع المرور. فتحول إلى ذاكرة جماعية لدى البعض وإلى شاهدة قبر لدى آخرين، ولكن الحياة هنا كانت أقوى. الكثير من عربات بيع الفول والذرة كل بائع تفنن بتزيين عربته بمختلف أنواع الحمضيات وعرانيس الذرة والشارة الموحدة لدى الجميع كانت رفع العلم اللبناني على العربات. قرب صخرة الروشة الشهيرة يتجمع المصورون أو ما حسب ما يسمونهم الناس هنا ب «الفوري» لأنهم ينادون على الناس من أجل تصويرهم: «فوري ذ فوري ذتصوير فوري». لا يمكن لمرتادي هذه المنطقة أن يتخيلوها من دونهم. هؤلاء من يبيع اللحظات للناس من داخل علبة اسمها كاميرا. لطالما كانوا هنا يجولون بحثاً عن العشاق كما باعة الورد فغالبية زبائنهم من العشاق كما يقول العم حسان الذي تتدلى الكاميرا من عنقه كعمر معلق على الحافة. يبتسم دائما فالصورة تحتاج دوماً إلى الابتسامة كي تكون جميلة. تناديه صبية حسناء تدير ظهرها للبحر كي يظهر معها في الصورة إلى جانب صديقها، تبتسم وترتسم صورتها في كاميرا العم حسان وتقول ليلى «الآن ستظل هذه اللحظة إلى الأبد خارج الزمن طالما أن الصورة موجودة». حديقة الحب الخلفية الحال على رصيف «سان جورج» البحري لا تختلف عن حال رصيف (الروشة عين المريسة) ولكن الأمور على «الرملة البيضاء» تتخذ منحى آخر، فالرياضيون هناك أقل والمساحة بمعظمها يشغلها العشاق والعاشقون. المنطقة هناك سكنية حيث الأبنية العالية والهدوء لا يفارق المكان فيشكل ما يشبه حديقةً خلفيةً للحب يأتمنها العشاق على أسرارهم حيث لم يعد لديهم مكان في قلب بيروت الممتلئة بالأخبار والسيارات والزحمة الخانقة. هنا كل شيء هادئ حتى السيارات لا يسمع صوت لها، تصتف نزولاً عند شارع «نزار قباني» الهابط نحو البحر، نزار قباني اسم مناسب لشارع لا يؤمه سوى العشاق فهو شاعر المرأة والغزل. يتجه الشارع نزولاً بخطى حثيثة بطيئة نحو البحر على جانبه تقف السيارات يجلس المحبون فيها ويتبادلون ما يمكن تبادله في غفلة من الزمن لاشيء يزعجهم سوى أضواء سيارات قوى الأمن الداخلي التي تبقى تجول في المكان. باتجاه الرصيف البحري نشهد حركة كثيفة للعناق وأحياناً بكاء مكبوت وافتراق جميل. الأحاديث في كل مكان وما من أحد ليسترق السمع. هنا نعلم ما الذي كان يعنيه الشاعر محمود درويش حين قال: «بيروت ما قال الفتى لفتاته والبحر يسمع أو يوزع حديثه في اليدين». بيروت المنهكة من الخلافات السياسية و الفراغ الدستوري وظلال الحرب الباردة بين الموالاة والمعارضة، باتت وكأنها تلفظ أنفاسها في وسط كل هذه الزحمة، فكان لا بد لها من رصيف أو عتبة أو شرفة ما لتلتقط الهواء النظيف ولتعاود الحلم. فكان الرصيف البحري وكانت حكاياته التي تروي ألق بيروت وفن أهلها في الحياة.