لم يعد غريبا في عالمنا اليوم أن تري هذا الشخص بشعره الأشعث الطويل واتساخ جسده الواضح، برائحته المقززة المنفرة ولونه الأسود شحما واتساخا، وهو مبتسم كأسعد كائن بالوجود، تطفح ضحكاته علي أطراف وجهه القذر، لم يعد غريبا أن تراه متمددا بين مقالب الزبالة، تغمره القمامة من كل النواحي، لا تكاد تفرقهما عن بعضهما البعض. يمتد فمه ليلتهم منها ما لذ له من بقايا طعام الآخرين. أغلب الظن أنه لم يستحم منذ سنين مضت، رائحته تدلك علي ذلك... لقد أصبح مثله مثل الخنازير، يعيش ويقتات علي القمامة، يستطعمها متلذذا متمتعا. شراهته صفي الأكل تؤكد لك أن بهذا الطعام شيئا جذابا، وتثير فضولك أن تجرب ما يفعله، أن تجلس منحنيا إلي الأمام مثلما يفعل وهو غير عابئ ببنطاله الساقط بين فخذيه مظهرا مؤخرته العارية المتسخة من أجل بعض لقيمات. قد تفعل مثله، يتوقف الأمر فقط علي موقعك علي سلم التطور الحيواني الممتد بين من تبقوا من بني البشر والخنازير. جلس تشارلز داروين علي مكتبه المنسق تحيطه نباتاته بألوانها الزاهية من كل اتجاه.. بعضها لايزال تحت التجربة والآخر استنفد غرضه من البحث والفحص. كان مريضا جدا، هكذا قضي كل سنينه الأخيرة. نار المدفأة تضفي علي الغرفة ضوءا خافتا مهيبا. كان يجلس إليه صديقه الأصغر وأهم مريديه توماس هاكسلي، الذي أيد نظريات داروين حول التطور الإنساني بكل ما أوتي من علم وقوة حتي أتهمه البعض بأنه كلبه الخاص، (البول دوج)... كان سعال تشارلز داروين يتخلل الجلسة بين الحين والآخر. كانا يبدوان هادئين، عيونهما صامتة عن الكلام الصريح ولكنها تخفي وراءها أسرارا تحتضنها القلوب. انتهي الأمر بأن أشار هاكسلي لصديقه تشارلز داروين بالرفض وقال له : تشارلز، لا تتسرع، قد أوافقك بكل نظرياتك، كل كتبك، أشاركك أفكارك ونظراتك الثاقبة، وحتي نظريتك تلك، قد أوافقك عليها، ربما، ولكن العالم لن يصمت، لن يسكت علي كلامك هذا. إنك تهينهم، بشكل أو بآخر. أهين من؟؟ بني البشر جميعا. ألست منهم أنا أيضا؟؟ فهل أهين نفسي إذن؟؟ لن يفهموا كلامك هذا... الكنيسة سترفض تلك الأفكار وتسبب لنا المشاكل.. الكنيسة لاتزال علي خلاف معنا منذ نشرت نظرية الانتقاء الطبيعي. نحن لا نحتمل المزيد من الهجوم. أمازلت تذكر يا توماس؟ كان ذلك منذ عشرين عاما الآن، لقد مر زمن طويل منذ هذا الحين، لم يكن المرض قد هاجمني حينها، لم يكن السعال يصيبني بين كل لحظة وأخري مثلما يفعل الآن. كنت تخالفني حينها يا توماس، تجادلني ولا توافقني علي أفكاري حتي اتسقت أفكارنا وأكملنا أبحاثنا ووصلنا لما وصلنا إليه. توقعت الهجوم من كل اتجاه وترددت لسنين قبل نشر أفكاري. لقد عاصرت كل ذلك بنفسك وتذكره مثلي تماما ... كنت ماتزال طفلا آنذاك (يضحك بصعوبة ثم يسعل بشدة). إلا أننا واجهنا العالم والكنيسة والعلماء وكل من وقف بوجهنا، وكنتم دائما بجواري. وقد أكرر تلك الرحلة مرة أخري مادمتم بجواري ومادامت أفكاري لا تزال نضرة. الوضع مختلف اليوم يا تشارلي ... الوضع مختلف جدا. لم يكن الوحيد الذي يترعرع بين النفايات ويغوص بأعماق القمامة ويتناول من بينها طعامه وشرابه، ينام مفترشا إياها، يشم رائحتها دون أن يبدي أي امتعاض، يستحم بالمطر ويمارس الجنس في الخلاء، يتعري وكأنه حيوان بري، لا يأبه لما يقوله الخلق بشأنه، هذا إن قال أحد شيئا... فكثيرون يحيون تلك الحياة، لم يعد الأمر نادرا أو مثيرا للانتباه... منذ عشرة أعوام أو يزيد، بدأت حالات إنجراف البشر إلي حياة الخنازير في التزايد حتي أصبح هذا الوضع، الذي كان ليوصف بالوضع الخيالي من سنوات قليلة مضت، مجرد وضع عادي جدا. كن عاقلا يا تشارلز.... النظرية هذه المرة تعتمد علي استنتاجات، تكهنات، لا تستند لتجارب أو وقائع... مواجهة العالم بها ستكون حماقة، سيكونون قاسيين جدا علينا. لا تفعل كما يفعل أولادي، لقد ظننت أنك ستكون أول من يؤيدني، فأنت عالم وتقدر قيمة العلم. لقد كبرنا يا صديقي، المرض يدق أبوابنا بضراوة... لا نقوي علي معارك أخري. لن نحارب، إنها مجرد أفكار ونظريات. قد تضر نظريتك الجديدة تلك بنظرياتك السابقة بعدما نالت أخيرا قدرا من الترحيب، سنفقد الكثير من حجتنا، سيشكك أعداؤنا بمنطقك وأفكارك وعقلك وستواجه مصيرا مظلما. ولم كل هذا؟؟ أتدرك مدي قسوة ما تقول؟؟ نظريتك تتنبأ بتحول جنس البشر إلي حيوانات!! إنك تقف منتصبا ببذلتك الأنيقة اللامعة أمام الناس لتقول لهم إن أبناءهم سيكونون قردة وخنازير!! منذ أعوام ازدادت حوادث القتل والاغتصاب والعنف والجريمة. صار القتل يرتكب أحيانا من أجل المتعة واللذة، دون أي أسباب وجيهة غير ذلك، وإن كان هذا يبدو للبعض سببا أكثر وجاهة من القتل بغرض الثأر أو السرقة. الاغتصاب صار فعلا عاديا. السادية والوحشية صارتا القانون الجديد لعالم الجنس الذي أصبح عذابا، أكثر منه متعة. الموت أثناء ممارسة الجنس أصبح خبرا معتادا تقليديا. الجميع يتجولون في الشوارع بكدمات متناثرة فوق وجوههم والبقع الزرق تلون أجسادهم. العنف أصبح عادة وبدا الإنسان عائدا لطبيعته الحجرية الأولي، بل أكثر تقهقرا حتي استغني الكثيرون عن حياتهم الإنسانية ولجأوا لحيوات حيوانية... استوطن جموع من البشر في المزارع والغابات، عاشوا كما القردة أو الخنازير، وباتوا بين الأوساخ والقاذورات. وقف داروين بجوار صديقه توماس هاكسلي أمام المدفأة وهما يلقيان بأوراقه داخل النيران لتلتهمها. لم يقو تشارلز علي الوقوف طويلا، جلس علي كرسيه الهزاز وتولي توماس استكمال عملية الاحراق... احمرت عينا داروين وهو ينظر إلي نظريته المحترقة. لم يكن ليبكي، كان أشد وأكثر صلابة من ذلك، إنجليزيا عن حق. دخل أحد أبنائه وظل واقفا بالباب متأملا المشهد، التف داروين بجسده ونظر إليه مليا، دقق بملامحه، تأمل تفاصيل وجهه الأشقر وشعره المفرود الطويل وعيونه الصارمة وجسده المنتظم، ثم عاد ليتأمل أوراقه المتفحمة ونظريته عن التحول لحيوانات... تخللت رائحة الورق المحترق أنف داروين، وسقطت دمعة هاربة لم يلمحها أحد، السبب لم يكن حرق نظريته، السبب كان أكثر قسوة من ذلك. سعل عدة مرات قبلما يخرج من مكتبه صامتا متوجها لحجرة نومه دون أن يودع توماس أو يتحدث لابنه. ظل تشارلز مكتئبا لأيام، تطارده الخيالات في صحوه والكوابيس في نومه، تطارده خنازير وقردة وأفيال ووحوش ضخمة، يقطعون خلفه المسافات وهو يجري ببذلته الكاملة وشعره الأشيب ممسكا بمنديله، يسعل، ثم يبصق فيه ويتحشرج صوته بينما يكمل عدوه وسط الأحراش. ظل علي ذلك الحال طوال الأسابيع الأخيرة إلي أن تواري جسده الهزيل في مقابر وست منستر العتيقة. علي بُعد أقدام من حجر رخامي منقوش عليه اسمه الثلاثي، تشارلز روبرت داروين، وبالقرب من جسده المتحلل، وقف أحدهم وتأمل محيطه مطمئنا أن ما من خطر يحدّق به، تقدم ماشيا علي أربع، اقترب من الحجر الرخامي ثم نبش في الأرض وشمها مصدرا صوتا عاليا من أنفه المتضخمة، بحث عن بقايا طعام، عن حشائش غير سامة، عن أي شئ يؤكل، أقلق السبات الطويل للعجوز الإنجليزي، أزعجه بعد مائتي عام من الهدوء، هدوء لم تفسده الحروب أو التقلبات الجوية أو مارجريت تاتشر، نبش بالقرب من مثواه الأخير وكأنه أحد الوحوش التي طاردته في كوابيس الليالي الأخيرة، كأنه وحش أو خنزير عاد بعد عشرات السنين ليتعقب تشارلز مرة أخري، ليقلق نومته، ليطارده من جديد.