سبق للكاتب المغربي إسماعيل غزالي أن أصدر مجموعات قصصية منها: (بستان الغزال المرقط- عسل اللقالق- لعبة مفترق الطرق) ثم أصدر إلي الآن روايتيْن هما: (موسم صيْد الزنجور) و(النهر يعض علي ذيْله). لكن "إسماعيل" لم يقطع مع كتابة القصة القصيرة. فها هو يطالعنا بمجموعة جديدة صادرة عن دار العيْن بالقاهرة، عنوانها: (غراب ،غربان، غرابيب).ولعلَّه يثبت بهذا التنقل بين القصة القصيرة والرواية، أن الأمر لا يتعلَّق بجنس أدبي محدَّد وصار مهيْمناً يستهوي الكُتَّاب ويحقق الشهرة حين يكون الكاتب موْهوباً حقّاً. تتكوَّن هذه المجموعة من سبع عشرة قصَّة تتصدَّرها توطئة، والتوطئة هيذ في الواقع- قصة القصص.. وممّا ورد فيها أن قبيلة من هنود أمريكا كانت تمجِّد الغراب وتقدِّسه ونسجت حوله أسطورة تقول: ( نثر الغراب السمك والفواكه علي طول خارطة العالم حتي يوفِّر دائماً ما يقتات عليه. خشي أنْ يجد صعوبة في العثور علي نثر طعامه هذا بسبب ظلمة الكوْن، فحلَّق عالياً من خلال فتحة في السماء ورصد أميرة علي ضفة نهر في الجنة، ثم حول نفسه إلي ورقة من شجر الأرز وطفا في دلْوِها.عندما شربت الأميرة الماء دخل الغراب إلي جسمها وأصبحت حُبْلي به، فأنجبته بهيْئة صبي افتُتن به الملك وزوجته وسمحا له باللعب بالصندوق الذي يدخر ضوْء النهار. ما أنْ تلقَّف الصندوق حتي عاد إلي شكل الغراب وفرَّ عائداً به إلي الأرض عبر فتحة السماء دائماً. ثم حدث أنْ كسر الغراب الصندوق في فورة غضب فامتلأت السماء فجأة بالشمس والقمر والنجوم..) ص: 26 لقد ورثنا أن الغراب ذبحكم سواده الحالك- هو نذير شؤم ومدعاة تطيُّر وهو غراب البيْن. وتناسيْنا أنه مَنْ أهدي قابيل إلي دفْن أخيه هابيل بعدما قتله.(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) سورة المائدة:(30-31)
كل قصة في المجموعة تشوِّقك إلي ملاحقة قصَّة أخري. فتصادف الغراب مرسوماً في لوحة أو ينقر علي زجاج نافذة أو يفقأ عيْنيْ صائده. وقد تأتي أسراب من الغربان تزعج السكان بشحيجها وتهلك المحاصيل أو تنتفض من تحت معطف (أهقار وتعني الغراب في الأمازيغية) الشاب الأشقر المحبوب فتخلِّصه ممَّن حكموا عليه بالإعدام. ولكن في كل ما يأتيه الغراب، إنما هو انتقام ممَّن يؤذيه لأنه، في الأصل فاعل خير وفيٌّ لمَن كان عطوفاً عليه. لقد كان وفيّاً للشاعرة "الصعلوكة" (وحيْشاء أنس الفلا) التي كانت تقتسم معه قوتها واستمرَّ يبني عشه علي شجرة فوق قبرها. وحتي لما اقتُلعت الشجرة وبُني مكانها برج عال في إحدي البلدان العربية بقي يحوم حول البرج. كما كان وفيّاً لامرأة أخري عالجته من كسْره ولزم بيْتها واستمرَّ حريصاً علي عادتها في زيارة أشهر الكُتَّاب اليابانيين. ثمَّ إنه شقَّ بطن المرأة الحامل وأخرج الجنين فكان أمهر من الطبيب الذي تأخَّر بسبب حادث.غير أن الإنسان يبرهن مرة أخري علي حمقه. إذ توهَّم الزوج أن الغراب قد أخرج الجنين وقتله فانهال علي الغراب ضرباً ورفْساً.ولم يتدارك فعلته الشنيعة إلا بعدما صرخ الطفل سالماً وسألت الزوجة عن مُنْقذها الغراب. في كل قصة تحضر الغربان فرادي وأسراباً. يطالعك الغرابُ من خلال لوحة فنّية ل(فان جوغ) أو (بيكاسو) أو بالإحالة علي قصيدة الغراب الشهيرة للكاتب الأمريكي(إدغار ألان بو) أو قابعاً علي ذراع (هيتشكوك) صاحب الفيلم المعروف:(Les Oiseaux) أو من خلال سمفونية يعزفها شاب ألماني.أو في علاقة البشر بهذا الطائر العجيب أُمَماً ومشاهير عبر التاريخ. ومن غير شك أن (إسماعيل غزالي) يعرف الفيلم المذكور كما اطلع علي أدب ابن المقفَّع ولافونتين و(العجوز والبحر ) ل:هيمنجواي وغيرهم من الذين وظَّفوا الحيوانات والطيور في أدبهم، لكنه يأبي إلا أنْ يبدع عالمه الخاص المتميَّز، بأنْ يؤثِّث لعملية السرد وفضاء المتخيَّل بأدوات مختلفة تضمن تحقيق الدهشة والإمتاع علي نحو مغاير تماماً. إنها قصص يستعصي تلخيصها،. يمتزج فيها الواقع وواقع الذات الكاتبة بالخيال والحلم، وتتوالد من أسطورة الهنود أساطير. ففي (غربان برج لندن) مثلاً: (فشل مهاجر إفريقي في تحقيق حلمه كلاعب لكرة القدم في لندن وتقلَّبت به الأحوال في أكثر من مهنة دون أنْ يستقرَّ علي حال واحدة، فاشتغل كجامع للقمامة وكعامل في ورشات البناء وكمقلِّم بنبات الحدائق وكنادل في الحانات.. الخ) ص:148 ولمَّا ضاقت به الدنيا بما رحبت، قرر ذات يوم أنْ ينتحر وإذا بغراب ينعق فوقه طويلاً فاستبشر خيراً وتراجع عن قراره، وتقدَّم يطلب ليعمل في برج لندن حارساً للغربان. لكن طلبه رُفض لأسباب عنصرية.ثم بدا له أنْ يعود إلي بلده في إفريقيا ليتعلَّم لغة الغربان. وبعدما تعلَّم نصيبا من صيْحاتها عاد إلي لندن ينعق ويشحج إلي أن انقادت له الغربان وشرع يجمعها في مأرب له بسريِّة تامة. أصبحت الغربان تهجر القصر الملكي وتتَّجه إليه، فخاف الإنجليز من أن ينهار القصر لأنهم ورثوا ( أسطورة غربان برج لندن لها علاقة بنبوءة في القرن السابع عشر تقول إن استمرار العرش رهين بوجود الغربان في البرج فَزَوالها من البرج يعني سقوط الملكية، وهكذا أصدر شارلز الثاني ( 1660-1685 ) مرسوماً ملكياً للعناية بها بشكل فائق وألا يقل عدد الغربان في البرج عن 6. ولذلك يُقصُّ ريش الغربان للحيلولة من طيرانها). ثم بعدما عُرفت حكايته، أصبح هذا المهاجر الإفريقي المزوِّدَ الوحيد للقصر بالغربان. وانقلب وضْعه من إنسان منبوذ لسواد بشرته إلي رئيس الأمن المشرف علي غربان القصر بأمر من الملكة نفسها.
هكذا، لم يبقَ الكاتب في حدود الأسطورة الموْروثة لدي الإنجليز، بل استلَّ منها أسطورة أخري جديدة، تدين النزعة العنصرية والماضي الاستعماري حيث يتشابك الواقعي بالخيالي. وهو ما ينسحب علي سائر القصص. ففي في كل مرة يفتح كوَّة في أسطورة أو لوحة أو قصيدة تتناسل منها حكايات مؤسطرة. كما يبتكر في الوصف حيلة أدبية تمكِّنه من إطالته حين تُقدم هذه المرأة علي تقطيع الغراب بحيث تجعل لكل عضو منه طبخة خاصَّة: (العينان-القدمان-المخالب واللعاب-المصارين-المعي الدقيق-عروة الإثني عشر-المصران الأعور-الرغامي والمرئ-القصيبات-الطحال-الكليتان-الحنجرة-القلب-الحوصلة-المنقار-الجناحان-المعدة الغدية-الرئتان-المثانة-المرارة-البنكرياس-المخ-الريش-اللسان-الفخذان-الصدر-العنق-العظام-الخصيتان). فأما جِلْده وذرقُه فقد استعملتهما لكتابة ورقة، وأما دمُه فأضافتْه إلي النبيذ. ولنتصوَّرْ أن لكل طبخة زيوتها وتوابلها وخضراوتها ونباتاتها الخاصة وتطيب علي جمر شجرة مختلفة: (الأقاقيا-القثاء-الخرنوب-القيقب-القراصيا-الأسل-الأبي-الأثل-البلوط-الرتم-العرعار-النارجيل-الخروع-اللبان-الدردار-العثق-الفيلكون-الأكاسيا-الصنوبر-الغرقد-العثرب-التنوب-النلك-الكافور). هذا الوصف الذي يطال أشياء كثيرة ومتنوِّعة ويسمِّيها بمسمَّياتها يندر أنْ نعثر عليه لدي معظم الكُتَّاب. وهو فضلا عن ذلك ليس رقعة حيادية تزيِّن المشهد وحسب، بل تضفي علي عملية تحضير العشاء- بهذه التفاصيل الغريبة - هالة سحرية. وصف يسحر بواسطة اللغة وطول النفَس، ويبرِّر النتيجة التي ستؤول إليها الأحداث حيث سينقلب السحر علي السَّاحر بسبب ما حصل من تنكيل بهذا الغراب فتنتحر الزوجة محترقة، ويموت الزوج أيْضاً، لأنه تلذَّذ بطعمه. فإذا ما انسحبنا من المتن في مجموعه ونظرنا إليه من مسافة، يبدو عقداً من اللآلئ يحكمه خيط أسود من الغربان والأغْرُب والأغربة والغرابيب، لكن سَوادها لا يدعو إلي التشاؤم ولا إلي التطيُّر،وإنما من شأنه أن يجعل القارئ/الإنسان يكتشف هذا الطائر من جديد.بل يكتشف الإنسانُ ذاتَه وجهلَه بمحيطه وعلاقاته السطحية بالكائنات. لعلَّه يقف علي غربته هو في هذا الكوْن، لا علي غرابة الغربان.
وقد يرتاب المرء في تصنيف المجموعة. إذْ فيها من التمايز بين القصص ومن الترابط الروائي في آن، أو هي عَوانٌ بينهما. وربما كان لتنقُّل (إسماعيل) بين الكتابة القصصية والروائية أثره في إنتاج هذا النموذج المُميَّز الذي قد يصلح أرضية للمنظرين والمولعين برسم حدود صارمة بين الأنواع الأدبية، تدفع إلي مراجعة مسألة "التجنيس" الأدبي وكذا التفكير انطلاقاً ممَّا يمليه النص ومقتضيات سيرورته ومدي تناغم تمفصلاته . تلكم هي الكتابة الأدبية حين تمتح من المألوف لترقي إلي اللامألوف بلغة (إسماعيل غزالي) المتفرِّدة وقدرته علي خلق عوالم لم نعْهدْها لدي غيره. وتستوْجب علي من يريد أنْ يُعدَّ دراسة نقدية أنْ يجلس طويلاً ويقرأ مراراً ليقف علي تقنية البناء القصصي ودلالاته العميقة وما يستدعيه الكاتب من مخزونه الفني الثقافي الغني.وهو ما لا تدَّعيه هذه الكلمة/ الخبر. فقد يحدث للمرء أنْ يقرأ كتاباً ثم لا يلبث أنْ يدرك بأنه أهدر من وقته نصيباً ويندم، لأنه لم يحصِّل متعة ولا فائدة. لكنَّ من يقرأ إبداعات إسماعيل غزالي، أبداً، لنْ يندم. الجزائر