لم يعد خافيا اليوم، علي فراسة مشهدنا المعرفي والإبداعي، ما لمدلول (الثقافي) من اعتبار إنساني يتسع كل يوم ، بِتَوطينِه كنزاً جماعيا،ينهل منه الجيلُ بعد الجيل روحَه ومعناهُ وجَدوي هُوِيّتِه.كما لم يعد خافيا عليها أيضا ، مقدار الجهود الإبستيمية الكونية،التي تتواصل دون انقطاع أوكَلل،من أجل البحث عن مفهوم إجرائي للفعل الثقافي، بِهُوِيَّةٍ مُتَكَثِّرَة، تنتفي من ثناياها تلك الثنائيات الفكرية الإنسانية العقيمة،التي أخطأت الطريق تاريخيا إلي صياغة آفاق إيجابية لِخِصْب مجتمعي حقيقي، فضلاً عن كونها لم تجسد بهذه ( النّهضة المُخطَأَة ) سوي الوجه الناقص للإنسان الفِطري. وبالتأكيد؛ يهجس تاريخ الجدل الفلسفي والسوسيوثقافي علي الخصوص، حول ثنائية (الهامش والمركز) الثقافيين، بِوَجهٍ شاحبٍ ومُتَصَلِّبٍ،يُنتظر إعادة رسم ملامحه وتقاسيمه. 1 حول أسئلة الثقافة الشعبية: علي أَثَر ذلك، وعلي امتداد سنوات، يتم تأسيسُ ضَربٍ من الوَعي التاريخي المغربي، بأهمية النقاش حول مخاطر المأزق المفهومي التي يمكن أن تَسِمَ الواقع الدلالي لمصطلح (الثقافة الشعبية)، علي حين غفلة من أطياف مشهدنا الثقافي المعاصر.علي اعتبار أن هذا الوعي ينقدح علي خلفية الحذر المنهجي، من هيمنة التباس متراكم ومُتشعِّب- لأسباب سياسية أوإيديولوجية أوإثنية تاريخية - حول أبعاد المفهوم المعرفية والمجتمعية،في تصوّرات أفراد وأطياف ناشئة، ضمن أسرتنا الثقافية المتنوعة. وبغض النظر عن عمق وحجم المشاركة في تشييد هذا الجدل المجتمعي حول دلالات مفهوم (الثقافة الشعبية) وإبدالاته، فإنه يمكن القول، بشمولية هذه المشاركة في تأسيس مثل هذا الوعي،حيث أثّثَ سيرةَ النقاش حوله، وعلي فترات؛ فلاسفةٌ ومُبدعون، علماءُ وأكاديميون، نقادٌ ومحللون، سياسيون وإعلاميون، فنانون وصنّاع وحرفيون أيضا.ولعل هذا الزّخم الذي مَازَ تاريخنا الثقافي المعاصر علي مستوي الوعي النظري،علي الأقل، هوما رشّح أطيافاً ثقافية عديدة بالمغرب،لتتطلّع إلي استشراف نقاش يُطارِح أسئلة متقدمة. نتوقعُ اليوم، إذن،إنصاتاً واعيا لما تمور به ثقافاتنا المعاصرة، المتعددة في أصواتها عموديا وأفقيا، من أسئلة متقدمة، لعل أبرزَها يخرج من جُبّة سؤال كُلِّي، هو: هل مفهوم (الثقافة الشعبية) - وبما يهجس به من مداليل- كائنٌ غيرُ ثقافي؟. ولعل من التساؤلات المتقدمة، التي يستدعيها ذلك التساؤل الكُلِّي؛ - ماذا يَفهم الفاعلُ الثقافي والسياسي والديني، من ظلال تأويلية لمدارات الثقافة الشعبية تاريخا وراهنا؟ - هل يمارس الفاعل الثقافي والأكاديمي، قراءاته الذاتية لما يجري حوله في العالم ثقافياً، علي ضوء ما يفهم من تلك التأويلات، أم العكس؟ - هل حان الوقت لمقاربة مفهومية لهذا التّداوُل الذاتي الجماعي، تُبَلْوِر تَصَوُّراً خِصباً، غيرَ مستحيل، حول تراثنا الثقافي الحي والعريق في نفس الآن؟ - هل سيُسهِم مثلُ هذا التداول المفهومي، إن هوتحقّق، في إعادة تفسير رَاهِنِ ثقافتنا الشعبية، ورِهَاناتِهَا؟. - كيف يمكن مطارحة بعض النقاش حول "ثَقافِيَة" الثقافة الشعبية، بحيث تنهدم الهوة بينها وبين عَدْوَة الأفق النُّخبَوي المزعوم خَصماً لها؟ - ما هي حدود الفطري والنخبوي في نسيج ثقافة كهذه؟ وأين ينتهي تَصوُّر الهامش الثقافي ومتي يبدأ ضمنهما؟ - ما هي دلالة الهامش الثقافي، ضمن هذا السياق، وهل هومفيد في تشييد فَهمٍ سليم لثقافات منبثقة عن مجتمعنا المتنوع؟. - هل هذه الثقافة الشعبية، نقيض، بالضرورة، لثقافة النخبة الثقافية؟ - من منهما يمثل الكُلِّي أويعكس الجزئي في نسيج ثقافتنا الراهنة؛ التي يفترض أنها متنوعة في وحدتها،متوحدة في اختلافها؟. - أليست هناك إمكانية للتفكير الجماعي في مصطلح أكثر استيعابا ووظيفية من اسم ( الثقافة الشعبية )؟ - ألا يمكن مغادرتُه كُلِّياً، نحودوالّ أخري، من قبيل ( التراث الثقافي غير المادي )، الذي يُعتمَد الآن كَونياً؟ 2- حول اختبار فرضية الهَامِش الثقافي؟: يتطلب الانخراط في هذا النقاش الجماعي، طرقُ الأبواب أولاً، علي مُنجَز تاريخنا السوسيوثقافي، إذ بإمكانه إضاءة الأمداء الدقيقة لحقب تراثنا الثقافي غير المادي، التي مارست حضوراً ما في سلسلة زمننا المعاصر تخصيصا. كما بإمكانه الحفرُ عموديا في تلك البنيات الاجتماعية والإثنية والدينية والسياسية، التي أسهمت تاريخيا في نسج أسداء تراثنا الثقافي غير المادي. وإذ تراثنا الثقافي،لا يعكس بُنيانًا ميتا بل حيا،ولا يشي بأي معني لدَيمومةٍ مُتحجّرة،رغم سيماء العراقة والتوغل الماثلة فنيا في نسيجنا المجتمعي التقليدي علي الخصوص، فإن سؤال التحول الثقافي الذاتي لهذا التراث الثقافي غير المادي،يظل سؤالا جوهريا، لأنه يكشف عن مدي صحة فرضية (نقاء) هذا الإرث الثقافي الخاص من تراثات الآخرين، أومدي قدرته علي امتصاصها بشكل صامت. وهكذا، يتعذّر الوقوفُ علي (الخاصية الشعبية للثقافة) التي تَسِمُ معمارنا الوجداني والسلوكي تلقائيا، دون مطارحة متأنية لخاصية التحول في بنياتها المادية والفنية التي تبدومتوارثة؛ وكأنها ثابتٌ من ثوابتها. ولعل سؤال المثاقفة التاريخية لأصواتنا الجماعية الأصيلة،يمسّ إشكالية أخري ينبغي مُقاربتُها،وهي مصادر التثقيف الذاتي التاريخي، وكيفيات تشكلها بطبائعها الحضارية والإثنية والروحية المتنوعة. علي حين تبدوبنيات ومصادر سلوكنا الثقافي المعاصر، غير بعيدة تماما عن مشروع تفسير إشكال المصدر الثقافي برمته. علي أن من بين الفواصل التي انتبه إليها مسار الجدل الفلسفي والسوسيوثقافي مؤخَّراً،ما عبّرت عنه مفهومات (الثقافة الشعبية) خلاله، من انزياحات واعية عن خَلفيات تَأطيرٍ للفعل الثقافي علي ضوء فَهْمٍ، قد يكون تجزيئيا، لدلالة الهامش الشعبي. لذلك لا يبدومباغتا،أن يُشار اليوم إلي زوايا نظر إبستيمية ومؤسسية كونية،عرفها جدلُ الثقافي مع الإيديولوجي بمشهدنا الفكري، وهي تُحقق امتداداتٍ أوسع في فهمه وتفسيره. كان ذلك بالطبع، انطلاقا من منجزات الدرس الفلسفي الكوني، وتراكم الخبرة التفسيرية لتفكيرنا الفلسفي الراهن. حيث بدتْ الفِطْرِيَة الثقافية للذات، اكْتِنَاهاً واعياً وطويلَ الأمد لنفسها، بنفسها، في ضوء نفسها، وحسب. أما الأنتروبولوجيةُ الثقافية. وأثناء ذلك، فقد عمّقت مجري هذا الفَهم الفِطري لمدلول أفعالنا الثقافية المتنوعة،حيث عرّفتها علي ضوء العلاقة الجدلية مع سيرورة اشتباكاتٍ روحيةٍ وتخييليةٍ وماديةٍ، بين وعي الإنسان وحياته الروحية والمجتمعية تاريخيا،أفضت إلي نمط ونظام حياة مارسه منذ أجيال،باعتباره حصيلة زمنية للتواصل الروحي والمادي مع العالم من حوله.وهذا التواصل الحي هوما شكَّلَ له تاريخا وجدانيا ومعرفيا وسلوكيا حياًّ غير مَيِّت، يعكس تمثيلا أحسن للهُويّة الفردية والجماعية. فهل بالإمكان الطموح إلي توسيع حدقة التساؤل،حول فطرية الثقافي لا هامشيته؟.والتساؤل حول نسبيته التاريخية لا مطلقيته المزعومة أحياناً؟ ثم التساؤل حول رحابة مدلولاته ومجالاته وأزمنته وصيغه ومرجعياته،علي الرغم من هُويته النسبية؟ ثم التساؤل حول قدرته علي مُحَايَثَة الراهن، حتي يؤول إلي تراث ثقافي روحي حيّ ذي راهنية قوية، تطرح علي ذاتنا الثقافية أسئلة تقيم في المستقبل، لا الماضي الفلكلوري، أوالإيديولوجي، أوالإثني، أوحتي الكولونيالي؟. إن جدلاً ممكنا، حول تراثتنا الثقافي غير المادي،يراهن علي قدر كافٍ من الحضور في أسئلة العالم وهواجسه، لَكَفيلٌ بِمَلْءِ البياض المفهومي الجماعي، طَيَّ أسمائنا وعلاماتنا ورموزنا وأيقوناتها الثقافية التي تدَعي بعضُ الأطروحات الفكرية، أنها رازحةً، بِالكُلِّيَة، تحت وَهْم الهامش والشعبوية. وقد لا يكون بمقدور ثقافة كهذه، والحالةُ تلك، مغادرة السطح السياحي للباسنا الثقافي، إلي رحاب كونية دالة،يحوز معها الرمز الثقافي بالمغرب،علي عراقة المفهوم وتجذُّرَه في حياة الناس ووعي الآخرين بها، كممارسات وتصوّرات وأشكال تعبير ومعارف ومهارات وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية، تهجس تلقائياً بقدر كبير من التنوع الثقافي والإثني واللغوي والديني، يفضي إلي أفق التوحد عن طريق الوعي المعرفي بالاختلاف. 3-ماذا لوتَمتَلِئُ الخانة الفارغة؟: حصلت، إذن، تطورات مفهومية كونية وإقليمية، وسَّعتْ من بقعة الضوء الدلالي والمصطلحي لهذا الفهم الشمولي الدال علي ثقافات مجتمعنا المعاصر. فَهْمٍ بمقدوره، ربما، مَلْء الخانة الفارغة، في سِجِلّ "التراث الثقافي غير المادي" ومدوّناته. مَلْءٌ، ربما، سيجنح إلي مزيد تدقيق في وزن حمولته الدلالية ومساحتها، بما يقتضي فهماً جماعيا أقوي، ووعياً أعمق لأبعاده وأسمائه. وذلك في شخص نقاش واسع حول احتمالات هشاشة مفهوم "الثقافة الشعبية"، بما قد تتداخل به مضامينه مع أفق "التثقيف الشعبي"، وحقّ أطياف المجتمع وشرائحه في تَمثُّل "تراثها الثقافي غير المادي" بكل سبيل، وتوظيف كل التقنيات الكونية وإمكانات الفنون والآداب والصناعات الثقافية، - في اتجاه حصول كل فرد من أفراد المجتمع علي مطلب تثقيف عميق الغور برموزه وأيقوناته. - فيتجاوز بذلك أحلامَ قوي التجهيل والاستغلال، ويمارس حالات متنوعة من فهم ذاته، فهماً لا من قبيل الترف الفكري، بل استجابة لضرورات ردم الهوّة الثقافية والمجتمعية بين فئاته وأهازيجه ولغاته، كما لضرورات الموقف الواعي لا الساذج من عولمة متوحشة تُحايِثُه وتشتبك معه بأطيافها الافتراضية يوما بعد يوم،ذلك في أفق إعادة الاعتبار لتاريخ هش لوجوده الروحي والمادي بين الجغرافيات الثقافية للعالم. وفي الوقت الذي يشهد المسار الراهن لهذا التراث الثقافي غير المادي،علي أدوارٍ كَونية قَومية ومحلية لافتةٍ من المتعذّر تجاهلُها، قامت بها أصواتنا الثقافية برهافة ونبل وجدارة، فإن هذه الأخيرة سعتْ منذ عقود،عبر المؤسسات الثقافية للمجتمع المدني، إلي تجذير مفهوم نسقي للهويتنا الثّرّة، وذلك علي مستوي مقاومة قوي التجهيل،وظلمات الفقر الروحي والفكري والوجداني،التي حاصرت فكرنا،اجتماعيا وثقافيا، بجحافلها الخانقة خلال فترات وحقب تارخية ومعاصرة معروفة، فضلاً عن الدّور الرفيع الذي أسسه مسار هذا التراث الثقافي بتوحيد أفق التلقي الروحي والإبداعي والثقافي للأجيال، علي خلفية تنوع أصواته ولغاته لا خلفية تنميطها وتبضيعها. ولعله،لأجل ذلك، وغيره كثيرٌ؛ نقترح استقراء التاريخ الثقافي وحتي اللساني، الذي جاءت منه تسمية (الثقافة الشعبية )،وذلك لتحليل السياقات المختلفة لاستعمال المفهوم، وكيفات تبلوره في مُنجَزنا الفكري والإبداعي.،ومن ثم مطارحة أسئلته الثقافية،من زاوية تحديد الشروط والسياقات البنيوية والدلالية والأخلاقية ( بالمعني الفلسفي لكلمة أخلاق ) التي تفضي إلي قوة التماسك الضرورية للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية،علي أساس الاختلاف والتنوع،لا التشظي والتفتت.