أكثرمن 60 نصاً بين القصة والقصيدة، تتراوح القصص بين الومضة، اللقطة، أو القصة الطويلة، وتشترك أغلبها في الانتماء لوقائع الحياة: سيدة الإلهام، أي أنها تبدو وقد تم قصها من قماشة السيرة العريضة ثم تشكيلها في أقاصيص، قطع بازل يمنحك بعثرتها ثم تجميعها من زوايا مختلفة بورتريهات لغيابات متعددة. المكان بطل أساسي المكان كعنصر سردي يحظي بأهمية كبري في أدب السيرة، وفي قصص "ثلاثية كامل" تبدو القرية بطلًا أساسيًا ليس فقط لكونها المكان الأول الذي يترك في الشخص الذي يغادر الطفولة إلي النضج آثارًا مهمة، بل لامتلاكها القدرة علي استعادة سيادتها ومكانتها لدي السارد في المراحل المتقدمة من عمره، فالقرية موجودة بِوَنسها وطقوسها وأسرارها في عدد كبير من القصص، موجودة ربما كاحتجاج علي العاصمة التي تبدو مكانتها قد تزعزعت. القرية أيضًا تعيد "العائلة" كمركز اجتماعي، وتجعل من "بيت العائلة" مسرحا لقصص عديدة، ولذكريات وقد استخدم السارد عددًا من الإشارات الجغرافية والفلكلورية التي شكلت صورة تساعد مخيلة المتلقي علي تصور القرية ومعرفة خصائصها، ومنها: فراندة البيت التي تمثل جزءا من الطريق، الشجرة التي زرعتها الأم بيديها وكبرت حتي سطح البيت، الترعة، الميكنة الزراعية، ثم: المولد والنذر، عيديات الأطفال وطقوس الأعياد، شمع المقابر. وبالإضافة للقرية فالمكان في عدد آخر من القصص هو السيارة أو الباص أو الكافيه أو كافيتريا علي الطريق الصحراوي، وكذلك الكثير من الشوارع، وكلها: مكان مؤقت، مستعار، ارتحالي، يؤكد الغياب عن مكان آخر. الزمان غير ساكن في أغلب القصص، إذ ينزلق من الراهن إلي الماضي "القريب أو البعيد في الأغلب" ثم عودة للراهن هكذا دواليك، يجتمع في القصة أكثر من زمن، بالإضافة لزمن الأفكار واصطياد "الذكريات" البعيدة.. "ماذا ستفعلْ إذا لم تعد إليها؟ إذا قررتَ، أو اضطررتَ مثلا لأن تموتَ هناك؟ هل تموتُ هي الأخري؟" الزمان أيضًا يُستقطب هنا في مراحل عمرية، فالماضي البعيد: يستحضر الطفولة والعائلة: في قصص طويلة بالأغلب، يظهر في بعضها علاقة جدلية بين الخاص والعام، أما الزمن الحاضر والماضي القريب: فيميزه توثيق المشاهدات اليومية بمفارقاتها المدهشة، فالسارد يبدو متفرِجًا علي حدث وأشخاص، ولهذا أتت القصص كاللقطة أو الومضة، وقد يكون مشاركًا بعض الأحيان. ومن القصص التي تستعرض جدل الخاص والعام: "عاصرو القصب": تقدم لنا القرية بعين ابنها الشاب: أربعة عشر ربيعًا الذي يرصد الأنا المحبوسة ما بين الهزيمة السياسية والتغيرات الاجتماعية من جهة وبين اغتراب الذات عن ذاتها من جهة أخري. فمن دخول الكهرباء للقرية ودخول ماكينة عصر القصَب إلي لفتة الخالة "بص كويس في وش الواد الصغير اللي بتشيله (...) علي كتفها وهي رايحة وجية" مُشكِكة في نسبه، وصولا إلي الأيام الخمسة المعروفة من بداية حرب 1967 وحتي إعلان الهزيمة، وخلال ذلك كله يتم الكشف عن اغتراب هذه الذات الساردة عن ذاتها... "حاولت أن أقرأ، لكني لم أنجح.... حاولت أن أنام فلم أنجح"، "لم أكن أستطيع الخروج عن أناي التي صرت إليها وانحبست فيها"، تجعلنا القصة نتساءل هل: هؤلاء الفقراء البسطاء محبو البلد والحياة والحكي هم عاصرو القصب أم هم المعصورون؟ مدينة الإسكندرية وما طرأ عليها من تغيرات، هي مسرح قصة: "زيارتان" التي يبدأها السارد بالريبة.. "كنت أظن أنني أعرف الطريق" حيث تستعرض القصة منطقة الحضَرة وهي منطقة شعبية بين زمنين: تغير بينهما الراوي عن الصبي الذي كانه.. "فتحت الشُبّاك، بحثت عن رائحة البحر فلم أجدها"، وبين امرأتين: الخالة تحيي ذكري ميراث تُحرم منه الإناث في الأرياف، بينما امرأة هذا الزمن.. "تخرج من حب لتدخل في آخر.."، وكأنها هي أيضًا لا تعرف الطريق، كالسارد الذي لم يجد من الاسكندرية التي يعرفها سوي رائحة السمك المشوي. أسرار القرية التي كشف عنها السارد في "عاصرو القصب".. ("لم تكن العلاقات السرية بين الرجال والنساء أو بين الرجال وبعضهم البعض نادرة، بل إن بعضها كان علنيًا"، كاشفًا النقاب عن بيوت دعارة معروفة بالقرية، ومن جهة أخري عن نساء قويات سافرات يبحثن عن الحب ولا يتخلين عن أطفالهن تحت وطأة أي ظروف) استكمل قسمًا آخر منها في قصة "السر" فعلاقة السارد بالعروسين تبدو.. "وكأن لي عليهما حقوقًا أسبق من زواجهما". -لقصة اللقطة منها ما يصدم بالصورة المكثفة دون إسهاب الكلمات مثل قصة "دموع"، وقصة "خجل"، ومنها ما يتميز بالطرافة رغم الشجن المدهش: مثل قصة"الكلب يلعب"، وقصة "أخوان": فكلاهما منذور لفلاحة الأرض.. "يقود جراره، يرتدي طاقية وبلغة" وليس مهمًا إن كان هو: علي أم إبراهيم!! ثم قصة "ميدو": الذي تخيل الورقة قرشًا ثم صُدِم.. "نظر إلي يدي فارغة... واصلنا السير... في صمت"، ثم "محمد الثاني": معضلة البرج المجهول بين السرطان والأسد التي حيَّرتْ السارد.."أري في نفسي صفات كثيرة من برج الأسد/ السرطان يبشرني بِخَير والأسد يبشرني بِشَر، قلت إذن هذا أوان الحسم". أغلب القصص تتميز بنهايات تعتمد علي المفارقة بالأساس، مفارقات ذات طابع ساخر وأحيانًا فلسفية، ولكونها إلي حدٍ كبير تُعتبر قصصا من الحياة فإنها تولي اعتبارًا للدور الذي تلعبه المصادفات في حيوات البشر، كأنها قاطعة الطريق علي المشاريع الصغيرة للعواطف والرغبات: مثل تلكؤ سائق الباص الذي قد يعيق الزواج في "الزوجة الثانية"، ومثل حركة المرور التي أعاقت رؤية السارد لوجه المرأة الباكية مرة أخيرة في "دموع"، ومثل موت الخالة الثرثارة قبل أن تُكمل للسارد حكاية "سنية" في "عاصرو القصب". تميزت القصص أيضًا بانتقاء مراحل عمرية: كالطفولة، وكالصبا، حيث يلعب السارد "صبيًا" البطولة في "عاصرو القصب" وفي "صورتان".. "أَقدم ألبوم صور لديّ"، نجد في إحدي الصور ذراعًا مكسورة وفي الأخري جرحًا غير منسي.. "ذراعها اليمني منسابة باسترخاء بجوار ذراع زميلنا سامح.... يبدو أن كفيهما متعانقان". جدلية الحضور والغياب، المادي أو المعنوي الجسد: عنفوان وضعف: يتجلي ببعض أقاصيص "ثلاثية كامل" عنفوان الجسد وسيرة الرغبات والاشتهاءات المتحققة وغير المتحققة، كما يتجلي بالمثل سيرة المرض: اسهال، احتقان، حصر بول، ويبدو الجسد مثل منحني يصعد بقوة ثم يتجه إلي الهبوط، والضعف سواء البدني أوالنفسي يؤثر كلاهما بالآخر ويتأثر به، ففي قصة "الخصي": لاصقة علاجية يتعلق بها آملا في الشفاء لكنها تفعل العكس حينما يجعله اضطرابه وقلقه يستعملها في أماكن غير ما خصصت لها. الموتي غائبون حاضرون: مثلما في قصة "السر"، خوفًا من أن يكونوا قد أفشوا هذا السر قبل وفاتهم، وفي "نَذْر" الأحياء يستلمون من الموتي ليس فقط مسئولية النذر، بل أيضًا.. "أعطيته النذر وكيسًا من البُن، من بقايا ليلة عزاء أمي". وفي "زيارة" يدفع بحث القطة التي لا تعرف بموت الأم بالسارد إلي زيارة قبرها في الصباح التالي. وفي "حب حتي الموت" يخدع جمال الجسدين العاريين السارد فلا ينتبه لموتهما، وفي "تبذير" تبدو الرغبة العارمة في الإنفاق كإشارة لكون المال المختبئ ميتا وجامدا، وفي "الوريث" تؤول إلي السارد مدخرات الصديق المتوفي.. "ولَّاعات رخيصة.... حملتها معي إلي القرية، حيث يوجد من يملؤها". وفي "الخصي": يبدو الألم النفسي سببا للمرض الجسدي.. "أعيش حالة من التعاسة المؤلمة لأنني أشعر أن بداخلي أشياء كثيرة لا أستطيع تحقيقها علي أرض الواقع". تتجلي في أقاصيص "ثلاثية كامل" مركزية العلاقة بالأم/ الشجرة، خاصة بعد موتها حيث تصبح لأشيائها البسيطة المتبقية قيمة كبيرة: فيقول السارد: أتكئ علي "عصا أمي" ويضحك.. "لي فيها مآرب أخري" كالدفاع عن النفس بفترة الانفلات الأمني، وفي "حب حتي الموت" يغضب من احتفال الجيران بعرس ابنهم بعد "أسبوع واحد" من وفاة أمه.. "قررت أعيش حزني بعيدًا"، وفي "ليلة عيد": يتجشم السارد عناء الذهاب للمقابر ليلًا كي يوقد الشموع للأم والأهل، لأن هذا بالنسبة له هو العيد.. "كان ضوء الشمعتين أنيقًا وبهيًا ولائقًا بما أحب لي ولهما، وفي "حنين" يرتبك السارد في إعداد طعامه، وما إن ينجح ويضبط الأمور حتي يتذكر أن اليوم مولد النبي.. "المرة الأولي التي أقضيه وحدي.... بعد موت أمي". ومن قصيدة"نسيان": قالت أمي وكانت ترتدي السواد لماذا لم تتزوج حتي الآن؟ قلت لها: هل أنساكِ الموت أنني متزوج؟ قالت: نسيت أسماء أولادك قلت: أنا الذي أُنسيتهم. غام وجهها في الظلام. افتقاد التواصل مع الأحبة: وجه آخر للغياب: تمكنت بعض القصص رغم قصرها من اجتراح أزمات إنسانية عميقة تمس العلاقة بين الرجل والمرأة، وكذلك الحب المأزوم، ففي قصة "موضوع مهم" بدون ذكر لمفردة: زوج/ زوجة تفسر القصة الطبيعة المركبة المتناقضة و"شبه القدرية" كذلك لعلاقة الزواج: الحب/ السجن... "المشكلة كانت كيف أحكي لها.." فالصعوبة بالغة في مصارحة الأحبة، وتأتي بعدها قصة "إنها واللهِ لقهوة" لتعبر عن التواصل المفتقد وربما عن نفاد الصبر. ولا تبتعد "من أول نظرة" عن السابقتين، فالموقف من الورد يكشف التباعد الفكري بين السارد وبين "مني" ما يساعده عل يالاستقلال بشجرة الياسمين في بلكونة الغرفة الأخري، أما "شمعة واحدة" فتبدو كسخرية من تصورات البطلة عن مشاعرها وعجزها عن التواصل مع ذاتها... "أهداني شمعة"، أرادت اثنتين، لكن حتي الوحيدة التي أخذتها لم تتذكرها. اغتراب الذات عن ذاتها وعن الآخرين: في قصة"ضَيف" يختصر السارد قريته لسنوات طويلة في البيت والمقابر، ثم ذات مساء.. "أكتشف أنني لست موجودًا إلا كشبح، سواء بالنسبة لنفسي أو للآخرين في هذه القرية"، يساعد علي ذلك استخدام لغة تقريرية وحيادية، مترفعة عن التعاطف المجاني اللامبرر، بخلاف النبرة الجريحة في القصائد الشعرية، كما يُعبر استخدام ضمير المخاطب في بعض النصوص مثل "تعوَّد قليلًا" عن هذا الاغتراب.. لماذا تفر؟ تعوَّد قليلًا علي النوم والصحو والموت والحب والبحر والنهر والعشب والأمنيات الصغيرة. غياب الأصدقاء: لم يظهر في القصص صديق إلا في قصة "ميدو" وهو الطفل ابن زميل السارد.. "كنا سعداء، أنا جَزل وهو يكاد يغني، لعبنا الألعاب التي يحبها كلما التقينا"، وفي قصة "صديقي" حيث يصفه.. "بضجته وأنّات الحزن علي الوطن في أشعاره"، وفي "الوريث" كان الصديق.. "يحب أن ينزل من برجه العاجي"، قبل أن توافيه المنية. فكرة "الزوجة التانية": هل تطرأ فكرة الزواج الثاني لمجرد وجود السارد في الاسكندرية؟.. "لمَ لا تؤجل سفرك/ تستفيد من اليوم التالي بالزواج من بنت خالك التي طالما.."، يقترح ذهنه عليه بشكل براجماتي هذه الفكرة دون التفكير بتبعاتها: هل الزوجة الأولي ستوافق؟ هل الثانية سترتضي باقتصار لقائهما كل فترة؟ البرجماتية أيضا تبدو في تقدير مدي ملاءمة المرأة المختارة.. "لا تبدو لي شديدة الشهوانية، وهذا مناسب في سني الذي يزيد عنها خمسة عشر عامًا"، وفي أحد طقوس الزفاف.. "وأنا جالس في البانيو سألت نفسي: تري ماذا كنت سأفعل أكثر مما أفعله لو كنت ذاهبًا لتزف إليّ عروستي؟"، أم هل ثمة تأثير للقرية وثقافتها وقِيمها في خيار الزواج الثاني؟ هل ثمة خواء يُعمِّق الفراغات بين كلمات هذه القصة؟ إحساس بتسرب العمر دون معني، وإلحاح فكرة عمل شيء، أي شيء، لمنحه المعني، حتي لو كان هذا الشيء هو زواجاً ثانياً!! الأطفال بوجودهم الخاطف "حاضر/ غائب"، والعصي علي النسيان، صاروا أبطال قصص لافتة: مثل "ميدو"، وفي قصة "مشهد": يبدو الطفل لم يتأقلم مع الرجل الجديد في حياة أمه، وفي "محمد": الرضيع.. "هدأ محمد حين شم رائحة أمه قادمة تهرول من بعيد"، وفي "كيك": يداهم السارد الخوف علي طفلة تبتاع وحدها من البقال كالكبار، ولا يهدأ إلا عندما يظهر أبوها.. "كنت مراقبها من فوق". وفي "ضيف": يبدو تعدي الأطفال علي فرندة البيت بغرض اللعب فيها موفرًا الأمان لهذا البيت أكثر مما يوفره صاحبه الغائب. في "عبر الزجاج": عينان: عين من وراء زجاج الغرفة، والأخري من وراء زجاج الباص المدرسي تتبادلان النظر والمحبة. وقبلهم قصة "ثلاثية كامل" القصةالأولي بالكتاب والتي منحته عنوانها حيث يلتقي السارد بكامل في ثلاث لحظات: تواريخ ومفارقات،الأولي يميزها الدفء والألفة، ويظهر الافتقاد في الثانية، ثم الأسي علي الغياب في الثالثة. ومن غياب "كامل" إلي قصيدة "رؤية" حيث يسأل صديقته الميتة هل وصلت أمي عندكم؟؟ لم ترد قلت: انتظريها، فهي عجوز وتمشي ببطء. »ثلاثية كامل« مجموعة قصصية جديدة للقاص والروائي والناقد الأكاديمي د. سيد البحراوي صادرة عن دار نشر "الكتب خان" 2016.