بدأت فكرة زراعة الحدائق وتطويرها في مصر خلال الأسرتين الرابعة والخامسة (2600- 2300 قبل الميلاد). وتوضح العديد من الرسومات علي جدران المقابر المصرية مظاهر اعتناء المصريين القدماء بحدائق الفاكهة المختلفة (من نخيل وتين وعنب ورمان وزيتون، إلخ)، وأشجار الظل (مثل أشجار الأفوكادو [Mimusops] والطرفة والسيال والصفصاف، إلخ)، والتي تنطوي علي ممارسات بستانية مختلفة. كان المصريون القدماء يعتقدون أن جسد الشخص الميت يستمتع بظلال أشجار الحديقة بعد وفاته خلال الأيام الحارة، وهذا ما نراه مدونا علي جدار إحدي المقابر علي النحو التالي: "كل يوم أمشي علي الشاطيء، وروحي تستريح علي أغصان الأشجار التي زرعتها لأمتع نفسي بظلال شجر التين". كانت أشجار التين Ficus sycomorus أو "الجميز" كما ذكرت في الكتاب المقدس، من أكثر الأشجار انتشارا في حدائق مصر الفرعونية، وقد كانت توابيت الفراعنة تصنع من خشبها وكان العشاق يجتمعون تحت ظلالها. وقد كانت هذه الشجرة (كما هو مذكور) شجرة مقدسة لأن الآلهة يعيشون علي فروعها. أحد الآلهة كان يسمي "خيم"، و رمزه الهيروغليفي يعني أيضا "حديقة"، هذا الاسم قريب جدا من "خيمي" وهو أحد الأسماء التي يانعة، وفيه اعتاد قدماء المصريين علي قضاء وقتهم في اللعب والرقص والغناء (ربما يواكب هذا احتفال المصريين الحإلي بعيد شم النسيم، والذي يتم في فصل الربيع من كل عام). كان المصريون القدماء يمتلكون أنواعا مختلفة من الحدائق، منها حدائق القصور والمعابد والبيوت والمقابر. وكانت تقسم الحدائق الضخمة لقصر الفرعون إلي أجزاء صغيرة تفصلها أبواب كبيرة. وتعد الحديقة الأكثر شهرة في تلك الفترة هي التي كانت تحيط بقصر أمنحتب الثالث (1388- 1350 قبل الميلاد)، لذا أمر بحفر بحيرة ضخمة طولها أكثر من 1.5كم، وعرضها حوإلي 300 متر. واحتفل بالسنة الثانية لملكه من خلال القيام بنزهة في حديقته الضخمة مع زوجته تي. ياللروعة عندما يتصور المرء منظر هذا الفرعون العظيم وهو يسترخي في حديقة قصره ذات النسائم العليلة ويحيط به أعوانه والمقربون له. تميزت المملكة الحديثة التي ظهرت بعد ذلك (بدءا من عام 1550 قبل الميلاد) بانشاء الحدائق وزرع العديد من الأشجار حول المعابد، والتي أحيانا ما تأخذ شكل أشعة الشمس وقرصها هو المعبد. وكان لكل معبد حديقة كبيرة في منتصفها شجرة مقدسة خاصة، أما طرقات المعبد فكانت تزين بالأزهار الملونة. وقد أنشئت مستعمرات النحل داخل هذه الحدائق، وقدم عسلها للآلهة للحفاظ علي المعبد. وقد أقامت الملكة حتشبسوت معبدا رائعا لآمون في الدير البحري بطيبة به ثلاثة مدرجات مزروعة بمختلف الأشجار المنتقاة بعناية، والتي كانت تروي من مياه نهر النيل عن طريق مجموعة من الأنابيب. وقد أظهرت الحفريات جذوع أشجار الأفوكادو مزروعة داخل حفر دائرية مسورة مما يوضح العناية والرعاية الكبيرة التي كانت تحظي بها تلك الأشجار. أنشئت الحدائق ذات الأشجار العديدة والأسوار العالية حول بيوت الأثرياء. ويظهر المثال الشهير لتلك الحدائق علي جدران قبر إنيني، الذي كان مسئولا عن مخازن الحبوب في عهد أمنحتب الأول (1525- 1504 قبل الميلاد). وفي هذه الحديقة كان هناك 435 شجرة تمثل 23 نوعا، منها 170 من أشجار النخيل Phoenix dactylifera و73 شجرة جميز Ficus sycomorus و31 شجرة أفوكادو Mimusops schimperi و120 من نخيل الدومHyphaene thebaica و12 كرمة عنبVitis vinfera و10 أشجار من الطرفة Tamarix articulata وتسع من الصفصاف Salix sp وخمس من التين Ficus carica ومثلها من الرمان Punica granatum . زينت الحديقة بالعديد من الأعمدة الخشبية التي تأخذ قممها شكل أزهار اللوتس Nymphaea ذات الألوان المختلفة، وكانت الممرات التي تؤدي للمنزل تزينها نباتات الظل المتشابكة والمحملة بالأزهار. وفي وسط الحديقة كان هناك بركة ماء مستطيلة الشكل بها أزهار اللوتس ومحفوفة بأشجار الدوم والأفوكادو، كما كان هناك مخزن للحبوب مكون من طابقين. ويحتوي المتحف المصري في القاهرة علي نموذج لبيت فرعوني من تل العمارنة تحيط به حديقة كبيرة بها أشجار مختلفة وخزان للمياه، هذا إلي جانب أدوات الري ومخازن الحبوب والحظائر المحاطة بالسياج من أجل الأبقار والجاموس. تميزت حدائق المقابر بصغر حجمها، إذ إن أكثرها يوجد في الصحاري القاحلة ذات الغطاء النباتي القليل. وخير مثال حدائق مقبرة أحمس (حوإلي 1550- 1525 قبل الميلاد) التي بناها لجدته في ابيدوس وبها بركة مياه تحفها أشجار عديدة. وفي المتحف المصري هناك لوحة جدارية تصور تلك الحديقة وداخلها أشجار مختلفة ومنضدة لتقديم القرابين، ونساء يبكين أمام القبر. أما في معبد فيلة في أسوان فهناك لوحة تصف شجرة الطرفة داخل غرفة مخصصة للإله اوزوريس. وكان من الشائع وجود تربة طينية خصبة أمام المقابر المصرية القديمة، ويعتقد أنه كان يتم انشاء الحدائق بشكل روتيني امام ابواب المقابر ويسقيها أقارب المتوفي واصدقاؤه من النيل أو من بئر (وهي العادة التي مازال المصريون يمارسونها حتي الآن). بيئة البدو وحدائقهم قدر مجموعة البدو القاطنين لجنوبسيناء بحوإلي 24.000 نسمة عام 1996م و"البدو" لفظ يطلق علي شعب الصحراء وهناك حوإلي 6000- 7000 نسمة من البدو الذين يعيشون في الجبال معيشة شبه ارتحالية. ينتمي البدو في سيناء إلي سبع قبائل رئيسة كل منها تحتل منطقة محددة المعالم إلي حد ما (علي الرغم من أن هناك بعض الأماكن المشتركة بين قبيلتين أو أكثر). هناك 2500 من بدو قبيلة الجبالية هم أحفاد مجموعة من المسيحيين الذين جلبهم الرهبان من منطقة أخيا بدولة رومانيا لمساعدتهم وحمايتهم ضد الغارات، التي كانوا يتعرضون لها من اللصوص وقطاع الطرق، وعاشوا حول الدير لفترة طويلة وزادت اعدادهم بعد ذلك عن طريق الوافدين من سوريا ومن دلتا مصر. وفي القرن السابع اعتنق تقريبا جميع أفراد قبيلة الجبالية الإسلام، ويذكر البدو أن آخر امرأة مسيحية من هذه القبيلة توفيت عام 1750م. هناك بعض العائلات من القبيلة الذين ترجع أصولهم إلي دولة اليمن حيث إن أجدادهم قد جاءوا من اليمن لإعادة إنشاء الحدائق ثم بقوا وتزوجوا بالمنطقة وكونوا عائلات. في عام 1972م، قدرت السلطات الاسرائيلية عدد أفراد قبيلة الجبالية بحوإلي 1245 فردا، وبالتإلي يكون قد تضاعفت أعدادهم فيما يقرب من 25 عاما. اسم قبيلة الجبالية يعني "سكان الجبال"، وكما هو مذكور سابقا فإن كل قبيلة تسيطر علي جزء مختلف من سيناء، لذا فإن المنطقة المحيطة بسانت كاترين تتبع أساسا قبيلة الجبالية. يعيش بدو قبيلة الجبالية في مجتمعات صغيرة تتكون من 4-5 عائلات هناك حوإلي 40 تجمعا من هذا القبيل في منطقة سانت كاترين، وهي بذلك تحتوي علي تجمعات أكثر من المناطق الأخري، وذلك بسبب مزاياها الطبيعية فضلا عن توافر فرص العمل سواء في الدير أو في التجارة أو السياحة. وبدراسة حدائق بدو قبيلة الجبالية فقط وجد بريفولوتسكي أن هناك 170 اسرة تعيش في المنطقة الجبلية المرتفعة. يعمل الرجال سائقين أو مرشدين أو عمالا، بينما ترعي النساء المنازل ولا يتركن بيوتهن إلا النساء غير المتزوجات أو العجائز، وذلك لرعي الماعز والأغنام. كل عائلة كبيرة عادة ما تمتلك 5-10 من الماعز، 4-8 من الأغنام، 2-4 من الإبل 4-8 دجاجات، البعض يمتلك أيضا الحمير لنقل المياه والأمتعة في المنحدرات الوعرة والوديان الصخرية الصعبة. هذه الحيوانات تمثل نسبة كبيرة من ثروة الأسرة، فعلي سبيل المثال في عام 2003م كانت أسعار الإبل تساوي أي شيء يتراوح قيمته بين 3000-5000 جنيه. يعتمد البدو علي الطرق التقليدية البسيطة لزراعة بساتينهم، وهي طرق تمارس منذ سنوات طويلة، وتعد الحدائق من المعالم الواضحة في الوديان المختلفة. ووفقا لما قاله بريفولوتسكي فإن ال170 عائلة المقيمة بالمنطقة تمتلك 231 حديقة من أصل 440 قد أحصاها، أما البقية فهي أغلبها مملوكة لبدو قبيلة الجبالية ممن يعيشون خارج المنطقة مع نسبة أقل من 20٪ تمتلكها عائلات من القبائل الأخري (معظمهم من قبيلة أولاد سعيد). حوإلي ربع عائلات قبيلة الجبالية لا تمتلك حدائق خاصة (معظمهم من المتزوجين حديثا)، كما أن 60٪ من العائلات يمتلكون حديقة أو اثنتين علي الأكثر. ومما هو جدير بالذكر ان بعض هذه الحدائق تكون تابعة للدير وهم يعتنون بها في مقابل نصف الإنتاج. تزرع الخضراوات والحبوب (القمح والشعير) خلال فصلي الربيع والصيف، في حين ان الفاكهة (اللوز والتين الكمثري والزيتون والخوخ وغيرها) تكون أساسا من المحاصيل الخريفية والشتوية. الماء هو العامل الرئيسي المحدد للزراعة،لكن البدو بارعون في استخدام المياه الجوفية المحدودة ومياه الأمطار غير المنتظمة لري حدائقهم، وهي مهارات تقليدية يتوارثها الأبناء من الآباء. وتكون الحدائق والبساتين دائما بالقرب من الآبار وينابيع المياه، وعادة ما نري خراطيم المياه البلاستيكية السوداء التي اصبحت الآن سمة من سمات كل واد، ويتمن من خلالها جلب المياه من الآبار أو الينابيع العالية لري الحدائق. معظم انتاج هذه الحدائق يخصص لاستهلاك الأسرة، إلا أن بعض العائلات ممن يعيشون بالقرب من سانت كاترين يقومون ببيع فائض انتاجهم بها، وهو اسلوب اتبعه البدو حديثا لبيع منتجاتهم، وفي الماضي كان البدو يرسلون منتجاتهم إلي أسواق السويسوالقاهرة للبيع. وقد يرجع السبب وراء هذا التغيير إلي وجود أعداد معقولة من السياح والمصريين الوافدين، وارتفاع تكلفة النقل أو ظهور بدائل أكثر ربحا. في هذا الكتاب حاولنا وصف أنواع الفواكه والخضراوات التي تزرع في حدائق البدو. وللقيام بذلك كان لابد من الاعتماد علي المزارع البدوي لكل حديقة للمساعدة في معرفة أسماء وأصناف المزروعات. لكن هناك تباينا في معارف البدو، فيما يخص الأصناف فالبعض يفرق بين الأصناف عن طريق الحجم، والبعض الآخر يستخدم الطعم، وغيرهم يستخدمون الملمس أو الشكل أو الصلابة. ولهذا حاولنا الربط بين هذه الأسماء علي قدر المستطاع من أجل التوصل إلي رؤية موضوعية لتصنيف الأصناف بشكل عام. وكما ذكرنا من قبل فإن البدو لديهم أيضا حصيلة ضخمة من أسماء الأماكن للبيئة المحيطة بهم مثل المناطق العامة والوديان والجبال، وحتي البقاع الصغيرة جدا. هذه الأسماء المتعددة من شأنها تسهيل تحديد أماكن الأشخاص أو الحيوانات بكل دقة، وتتعاظم فائدتها في حالات الطواريء. وغالبا ما تكون الأسماء المطلقة أسماء وصفية، إلا أن في كثير من الأحيان تكون الأسماء مرتبطة بقصص وأحداث الماضي، ولا يميز البدو أنفسهم بين الأسماء الوصفية والتاريخية، مما يخلق بعض الصعوبات في فهم معاني تلك الأسماء، والأكثر من ذلك هو اختلاف آراء البدو بشأن تفسير تلك المعاني. فعلي سبيل المثال يسمي المسار الصعب من سانت كاترين للترحال إلي وادي جبال باسم "أبوجيفة"، والجيفة هي الميتة أو الشيء كريه الرائحة. وعليه فان معظم البدو يتفقون علي أن اسم "أبوجيفة" يشير إلي الروائح الكريهة التي تخرج من دبر الجمال، حيث صعودها هذا الارتفاع خصوصا انها تكون محملة بالأمتعة الثقيلة للمسافرين. ومع ذلك يعتقد بعض البدو أن هذا الاسم هو وصف حسي لحقيقة أنه حين الصعود لاتشاهد إلا الصخور الصماء الجافة، والتي تملؤها الجفاء فكأنها تشبه الميتة في إحساسها، وخصوصا أنك اذا نظرت خلفك فإن عينيك ستقع علي منظر بديع لمدينة سانت كاترين من المنطقة المرتفعة مما يزيد احساسك بمدي جيفة الصخور التي أمامك. حتي عندما يكون المعني لا لبس فيه، تكمن المشكلة في كتابة حروف الكلمة بالانجليزية نظرا لاختلاف طرق نطقها، فعلي سبيل المثال نبات النعناعMentha spp لايوجد له سوي نوع واحد في سيناء وهو الحبق Mentha longifolia، الذي يتميز برائحته القوية التي تملأ الوديان بعبير لاينسي الاسم البدوي لهذا النوع هو "حبق" لكن البعض ينطقها "حبك" أو "حبج" مع العلم أن "حبق" هي الأكثر صحة لأنها تعني "المكان المليء بالعطر" أما "حبك" فتعني "الإحكام في الخداع" وهي غير مناسبة هنا علي الاطلاق. لقد أدي إعلان المحمية إلي ادخال طرق حديثة للحفاظ علي البيئة، أما في السابق فكان البدو لديهم طريقتم الخاصة للحفاظ علي بيئتهم وتتمثل في نظام "الحلف". إنه نظام شائع في شبه الجزيرة العربية بأكملها، بالتإلي يفترض انه قدم إلي سيناء مع القبائل البدوية المهاجرة. ويمثل الحلف أساسا اتفاقا شفهيا علي نظام ممنهج للرعي واستخدامات المصادر الطبيعية بالوديان، فكان البدو قديما يختارون وديانا بعينها لايقاف الرعي بها لفترة محددة من الزمن، أو حتي تصل النباتات بها لارتفاع معين. في بعض الأحيان كان يسمح لحيوانات معينة فقط بالرعي. كما كان يطبق نظام الحلف علي قطع الأشجار، فكان يمنع قطع الأشجار ما لم تكن هناك ضرورة وحاجة ملحة لذلك. يتم تعيين أحد بدو الوادي للعمل مراقبا لتنفيذ الحلف، فيكون مسئولا عن متابعة سير الأمور والتأكد من عدم خرق الاتفاق بشكل متعمد أو عرضي. ولذا فإن مخالفة الحلف لها عواقب خطيرة، فالشخص الذي يرسل حيواناته لترعي في منطقة الحلف إما ان يتم تغريمه أو يخسر تلك الحيوانات ويتم منحها إلي الشخص الذي ابلغ عن تلك الحادثة. تؤيد الأسس الإسلامية نظام الحلف، لكنها تمنع الحماس الزائد في تطبيقه، وبخاصة عندما يتم منع الطعام عن الجياع أو العلف عن الحيوانات الجائعة. وتطبق هذه القواعد علي نطاق واسع بين القبائل، فمثلا خلال فترات الجفاف ونقص المياه، تكون المناطق وفيرة المياه متاحة لجميع سكان الأراضي التي تعاني من الجفاف. وللأسف الشديد ترك العمل بهذا النظام خلال القرن العشرين، لكنه من الواضح أن إعادته من جديد ستساعد إدارة المحمية علي تحقيق أهدافها، وهذا ماترمي إليه إستراتيجية إدارة محمية سانت كاترين. فبالاتفاق مع السكان المحليين، نجحت إدارة المحمية في إعلان منطقة حلف علي جبل الصفصافة للحفاظ علي نبات الزعتران وعلي فراشة سيناء الزرقاء المرتبطة به ( أصغر فراشة في العالم والمتوطنة لتلك المنطقة)، ويقوم فريق علمي من مؤلفي هذا الكتاب وبمساعدة باحثي المحمية والدارسين المصريين والأجانب بدراسة هذه الظاهرة بصورة تفصيلية. كما ذكرنا من قبل فإن البيئة الجبلية للمحمية تتكون من عدة أنظمة مختلفة لصرف أو تسرب المياه يتألف كل منها من عدد من الوديان المتصلة، داخل كل واد تنتشر حدائق البدو ذات الأحجام المختلفة، التي تتمركز حول الآبار لتوفير مصدر دائم للمياه وهناك نحو 400 بستان في جبال منطقة قبيلة الجيالية، متوسط مساحة كل منها حوإلي 0.2 هكتار وتحتوي علي حوإلي 50 شجرة وتكون الحدائق بمثابة الملاذ الصيفي للبدو خلال فصل الصيف حين تنتقل العائلات من بيوتها الشتوية في المناطق ذات الارتفاعات المنخفضة (عادة ماتكون حول مدينة سانت كاترين) إنها أماكن جميلة ورائعة يشتاق إليها معظم البدو خلال فصل الشتاء، فهي كما وصفها جوزيف هوبز «بساتين قبيلة الجبالية هي الجنة بعينها». الغالب في المحاصيل الزراعية التي تنتجها حدائق البدو أنها عضوية حيث لايتم استخدام للمبيدات أو الأسمدة، ويكون السماد الوحيد المستخدم للأرض هو فضلات الإبل والماعز، التي يتم جمعها ونشرها علي التربة بشكل تقليدي، إلا أنه قد بدأ أستخدام بعض الأسمدة الصناعية في وادي فيران. كما ساهمت الارتفاعات الشاهقة والظروف المناخية القاسية التي تتميز بها المنطقة في الحد من ظهور الآفات والأمراض بشكل عام، وبالتإلي فإن المحاصيل الناتجة تكون في مجملها صحية جدا. تاريخ زراعة الحدائق في سيناء كان المسيحيون يقومون بزراعة الحدائق، فالمئات من الرهبان والنساك وملاك الحدائق من المزارعين كانوا يعيشون بالمنطقة خلال العصر البيزنطي. وعلي هذا فإن فكرة إنشاء حدائق خاصة في سيناء لإنتاج بعض المحاصيل الزراعية قد رسخها النساك ممن جاءوا للإقامة في المنطقة علي مدار القرون الميلادية القليلة الأولي. وقد استخدم بدو قبيلة الجبالية الزراعة كمصدر مهم ودائم للمؤن يمكن الاعتماد عليه، وهي بذلك لا تتشابه مع معظم قبائل البدو الأخري الموجودة في الشرق الأوسط إلا بدو مرتفعات النقب الذين يعيشون أيضا بالقرب من المستوطنات البيزنطية القديمة. حالة أخري وحيدة جديرة بالذكر لقبائل مشابهة في المملكة العربية السعودية تنشيء الحدائق بالطين يزرع بها أساسا أشجار النخيل إلي جانب بعض الخضراوات والأعلاف الحيوانية أعتادت هذه القبائل علي ري الحدائق أو مايسمونه المزارع من خلال الآبار كما هو الحال في جنوبسيناء. أنشئت لأول مرة حدائق جنوبسيناء الكبيرة والمنظمة علي نحو جيد عندما خرج الدير إلي حيز الوجود علي الأرجح في نهاية القرن الرابع، وقد قطع الغزو العربي للمنطقة في القرن السابع دعم الحكومة البيزنطية المركزية (حتي وإن بقيت سيناء بعيدة إلي حد كبير عن الإدارة المسلمة الواردة) وغادر معظم المستوطنين، وتدهورت طريقة إنشاء الحدائق في معظم الأماكن إلا في الجبال العالية المعزولة في جنوبسيناء، ومن أقدم الحدائق بالمنطقة هي تلك الموجودة في وديان الدير وجبال والأربعين وإطلاح، والتي من المؤكد أن تاريخها يعود إلي تلك الفترة الزمنية، كما أن هناك حدائق أقامها آخرون في الأديرة المتفرقة في الجبال (مثل دير أنتوش في منطقة رأس زليقا قرب جبل أم شومر ووادي رمحان، ودير البنات في وادي فيران، ودير سجيليا في وأدي أجالا قرب جبل سريال، ودير أبو المغار في وأدي الفريع وهو جزء من سهل الراحة) كما أن أقدم الحدائق في نظام وادي جبال هي تلك التي في وديان الزواتين والجلت الأزرق، والتي من أكثرها شهرة الحديقة المسماة »جنينة النصراني« ويعتقد أنه تم الانتهاء من زراعة كل هذه الحدائق من قبل المسيحيين البيزنطيين قبل ظهور الإسلام وتعد الحدائق التي تظهر الآن بقايا لشبكة واسعة من الحدائق أنشأها الرهبان والنساك منذ القرن الرابع. يمتلك بدو قبيلتي الجبالية وأولاد سعيد حدائق سانت كاترين، وتمتلك قبيلة مزينة أيضا بعض الحدائق، لكن تنحصر ملكيتهم للحدائق فقط، ولا تمتد للأرض، وبالتإلي لايحق لهم إنشاء أي حدائق جديدة. يرجع نسب بعض عائلات قبيلة الجبالية إلي رجل يدعي بخيت وشقيقه الجندي (من نسلهم أولاد الجندي) ثم أنجب بخيت الابن حمايدة (الذي انحدر من نسله عائلات الحمايدة) والذي كان له ابنان هما وهيبات وسليم، واللذان يعتبران أسلاف ربعي أولاد سليم والوهيبات. يقول أناس آخرون من بدو قبيلة الجبالية إن ثلاث عائلات فقط من قبيلة الجبالية هم من جاءوا من أوروبا لخدمة الدير وهم أبو هيب والحمايدة وأولاد سليم. ثم جاءت عائلة واحدة من مصر وهي عائلة أولاد الجندي من أجل حماية الدير، وقامت قبيلة الجبالية بإعطائهم مساحة كبيرة من الأرض، وأعطوهم حق منع إقامة أي حديقة علي تلك الأرض من العائلات الأخري دون أن يدفع مبلغ من المال للحصول علي إذن للبناء من أولاد الجندي وفي نهاية المطاف أصبح أولاد الجندي رابع ربع لقبيلة الجبالية وهويمتلك فعليا من الأراضي مايزيد علي ماتمتلكه الأرباع الثلاثة الأخري مجتمعة وقد حدث في وقت سابق أن تم تقسيم أراضي قبيلة الجبالية بدقة بين أرباعها ورغم ذلك فإنه يمكن لأي ربع الآن أن يبني منزلا أو حديقة علي أرض تابعة لربع آخر مع أخذ الإذن، ومع مرور الوقت أدي ذلك إلي تفتيت الأراضي المملوكة لمعظم العائلات والأرباع. تعد قبيلة أولاد سعيد من القبائل الكبيرة في المنطقة، والتي لها تاريخ طويل يفوق كثيرا تاريخ قبيلة الجبالية. إنهم كبار ملاك الأراضي من وادي رزنة إلي وادي السيج، بالاضافة إلي منطقة لامسردي، التي هي ممر صخري يمتد من وأدي التفاحة كما أنها تمتلك المنازل القديمة والأراضي في المدينة نفسها، ولاتزال تعيش بعض العائلات هناك في سلام مع قبيلة الجبالية بعد الانسحاب الإسرائيلي من سيناء عام 1979م، عمدت الحكومة المصرية إلي تنظيم ملكية الأراضي في المدينة بموجب المراسيم، في حين أن منطقة الجبال البعيدة لاتزال ملكية الأراضي فيها ينظمها البدو ويعرف البدو جيدا زيادة الطلب علي أمتلاك أراضي سانت كاترين سواء من قبل البدو أنفسهم أو من المصريين الوافدين ممن يرغبون الاستقرار عليها، وعلي الرغم من رفضهم لفكرة فقدان الهيمنة علي تلك الأراضي، فإنهم يطمحون في إيجاد نظام حكومي ميسر يحترم رغباتهم، ويؤمن لهم ملكية الأراضي والاعتراف بها. عندما قدم بدو قبيلة الجبالية للمنطقة كان هناك عدد من الحدائق المنتشرة في كل مكان ولاسيما في وادي جبال وكان يعيش بالمنطقة المسيحيون البيزنطيون (معظمهم من الرهبان)، وكانت تنتقل ملكية الأراضي إلي بدو قبيلة الجبالية عن طريق قيامهم بشرائها من أصحابها أو مشاركتهم في بعضها إلي أن يتم ملكيتها بعد ذلك شيئا فشيئا لأبناء وأحفاد أفراد القبيلة ولقد تم بيع الأراضي بشكل جماعي عن طريق مجموعة من القرارات التي اتخذها كلا الجانبين، ثم قسمت الحدائق في البداية علي العائلات دون تخصيص أي حديقة لأي أسرة داخل العائلة، إلا أن العائلات قد قامت بعد ذلك بإنشاء الحدائق الخاصة بهم ويتم مشاركة ما تنتجه كل حديقة من الحدائق الأصلية بين أفراد العائلة التي تمتلكها، فعلي سبيل المثال يخصص إنتاج حديقة الزيري، القريبة من جبل عباس باشا من الزيتون، لعائلة الحشاش بأكملها،ولكل فرد من تلك العائلة نصيب في رعاية هذه الحديقة وإنتاجها. إن الأهمية الاقتصادية التي تمثلها الحدائق لبدو الجبالية عبر تاريخهم غير واضحة بشكل كبير، ولقد حاول دان رابينوفيتش (1980م) من خلال رصد الزيارات التي قام بها الحجاج للدير في القرن التاسع عشر، الاستدلال من خلال شواهد تلك الفترة علي نمط معيشة البدو وخلفه بريفولوتسكي، الذي اعتبر أن النظام الغذائي للبدو في القرن التاسع عشر كان معتمدا علي السلع الغذائية الواردة مثل السكر والأرز والقمح والقهوة، وهي كلها مواد غذائية لا يمكن زراعتها في المناطق الجبلية وبحسبة معقدة يمكن القول بأن كل أسرة كانت تستهلك نحو 1200 جالون من القمح سنويا، وهو ما يكلفهم حوإلي 6 جنيهات إسترليني طبقا للأسعار عام 1850م كما أن السلع المستوردة الأخري كانت تكلف الأسرة المكونة من 6 أشخاص حوإلي 20 جنيها إسترلينيا سنويا. كيف يحصلون علي هذا المبلغ الكبير نسبيا من المال؟ هذا هوالسؤال الذي طرحه عالم اللغويات من جامعة كامبردج البروفيسور إدوارد بالمير، حيث قضي ستة أسابيع بالقرب من الدير عام 1868م للإجابة عليه، وقد ذكر البروفيسور أن مصادر رزق البدو كما استشفها من خلال التحدث معهم تتمثل في إرشاد الحجاج، بيع بعض الموارد الطبيعية لأسواق القاهرة (الفحم وقرون الوعل والصمغ العربي) ، إنتاج وبيع التبغ والتمر وشعر الماعز وصوف الأغنام وعموما لم يكن هناك سوي طريقتين للحصول علي المال لدفع ثمن السلع المستوردة، وهي بيع الموارد الطبيعية أو بيع الخدمات وسنتطرق لكل واحدة من هاتين الوسيلتين لاحقا. هل اعتمد بدو قبيلة الجبالية في معيشتهم علي رعي الأغنام والماعز بشكل أساسي كما يفعل البدو في أنحاء أخري من الوطن العربي؟ من المثير للاهتمام أن تسجيلات الرحالة لزياراتهم نادرا ماتطرقت للثروة الحيوانية التي يمتلكها البدو باستثناء الجمال وقليل من الأغنام أحيانا ولم تكن قبيلة الجبالية أبدا من البدو الرحالة، فارتحالاتها لا تتعدي مجرد التنقل بين المنازل الصيفية والشتوية، بينما القبائل الارتحالية حقا هي التي تعتمد علي الرعي في معيشتها، وخير دليل علي ذلك بدو صحراء التيه، والذين يرتحلون علي الدوام حتي تاريخه وأشار بالمر صراحة إلي أن البدو نادرا ما يقومون بذبح الأغنام إلا كأضحية (وهي نسبة تقدر حاليا بحوإلي 3-4 رءوس من ذكر الماعز لكل أسرة سنويا) وقد استخدم رابينوفيتش هذه المعلومات للإشارة إلي أن اعتماد قبيلة الجبالية علي الرعي محدود خلال الفترة الماضية التي لاتقل عن مائتي عام ويعد الصيد أيضا مصدرا معقولا يمكن البدو من الحصول علي الطعام والمال، إلا أن تسجيلات الرحالة لم تذكر سوي حالة واحدة فقط لبدوي كان يتخذ من الصيد حرفة (وهو كان يصطاد أساسا عند الكتلة الصخرية لجبل سربال)، رغم أن الحياة البرية في الماضي كانت أكثر وفرة وهذا ما دعا إلي اعتبار الصيد العرضي هو الأكثر شيوعا عن الصيد الاحترافي، ولقد أرجع بالمر قصة رجل بدوي أطلق النار علي وعل إلي رغبته في تناول وجبة عيد الميلاد ومن هذا المنطلق رأي رابينوفيتش أن الثروة الحيوانية الداجنة والرعي والصيد لم تشكل عنصرا مهما في حياة البدو ولم يستحوذوا علي النصيب الأكبر من اقتصاد قبيلة الجبالية سواء المتمثل في سد احتياجاتهم اليومية أو تحقيق الربح المادي. وعلي صعيد آخر ذكر الرحالة ممن زاروا مصر في القرن التاسع عشر، أن الفحم كان السلعة الرئيسية في اقتصاد البدو، فقد كانوا يقومون بإنتاجه من خشب أشجار السيال والطرفة وكان الربح المادي من وراء بيع حمولة واحدة للجمل من الفحم يكفي لإطعام أسرة كاملة لمدة شهرين، كما أن بيع 125 كيلو جراما فقط من الفحم كان يكفل للأسرة النقود التي تكفيها لشراء احتياجاتها لمدة عام كامل وقد ذكر آرثر ستانلي عام 1853م، أن تجارة الفحم هي الرئيسة وربما الوحيدة في شبه الجزيرة، وذكر أنه كثيرا ما التقي بقوافل الجمال المحملة بالفحم علي الطريق بين القاهرةوالسويس. وقد أشار رابينوفيتش أيضا بعيدا عما قاله بالمر، إلي أن التسجيلات التي قام بها الحجاج لزياراتهم للمنطقة في القرن التاسع عشر لم تذكر أي شيء خاص بثمار الحدائق، وهو الأمر الذي يثير الدهشة نظرا لما تتمتع به هذه الثمار من أهمية اليوم وفي عام 1868م، وصف بالمر الحدائق ( مثل تلك الموجودة في وادي إطلاح) بأنها مهجورة تماما وغير مستغلة، وأن الحدائق التابعة للدير هي التي كان يتم زرعها وكانت تؤتي ثمارها ويعد هذا الأمر محيرا، لأنه يرسم صورة عن حياة قبيلة الجبالية قديما مختلفة تماما عن المزارعين ورعاة الأغنام والماعز الذين نراهم اليوم. وإذا ما انتقلنا إلي الوسيلة الأخري وهي بيع الخدمات، نجد أن أهم ما يمكن أن يقدمه بدو قبيلة الجبالية دون سائر قبائل سيناء، هو تقديم الخدمات للرحالة والسائحين وزائري الدير، والتي تتمثل في الإرشاد وقيادتهم في صعود جبل موسي، والسير في الوديان، وتسهيل تنقلاتهم وطعامهم ونومهم، ونظرا لمستوي الأجور التي ذكرها عدد من الحجاج في القرن التاسع عشر، فإن المرشد البدوي يقدر أنه يعمل لنحو 30 - 50٪ من السنة لكسب المبلغ المإلي المطلوب لشراء السلع الأساسية اللازمة لأسرته، وهو ماتقارب قيمته 20 جنيها إسترلينيا. كان هناك مصدر آخر للدخل للبدو يحصلون منه علي المال، ويتمثل في عمليات الابتزاز مقابل الحماية أو السطو علي الأموال من الرحالة ومن رحلات الحج وقد كانت سيناء قبل قيام محمد علي باشا باكتشاف الأوضاع بها وتهدئتها تدريجيا في أوائل القرن التاسع عشر منطقة برية حقا، كما كان البدو يتمتعون بسمعة سيئة نتيجة لعمليات الابتزاز والسرقة والقتل، التي كانت تتم هناك بصورة متكررة وكان معظم المسافرين إلي الحج يخشون من مرشديهم البدويين ودائما ماكانوا يؤكدون في كتاباتهم علي ضرورة اليقظة وتوخي الحذر منهم ولم يستطع أحد ممن يتحدثون العربية بطلاقة أو ممن يعرفون الأعراف العربية جيدا إنقاذ إدوارد بالمر، الذي اغتيل في سيناء عام 1882م وقد أبدت بريطانيا في العهد الفيكتوري استياءها الشديد من مقتل بالمر، مما دفع البرلمان البريطاني إلي إعطاء الأمر بالتحقيق في هذه الواقعة، والذي نتج عنه وثيقة رائعة كشفت الستار عن السلوك غير المسئول للمسئولين البريطانيين وبدو سيناء علي حد سواء وردا علي ماحدث وتأمينا للمسافرين في سيناء، قام البريطانيون بوضع نهاية للطريق البري الذي يتخذه الحجاج إلي مكة سنويا عبر سيناء، والذي كان عمره 600 عام، مما ألحق الضرر باقتصاد البدو في الأماكن الأخري. إن الطريقة التي يتعامل بها البدو مع المتغيرات المحلية والعالمية تعكس مدي المرونة التي يبدونها للتفاعل مع الظروف المحيطة ويعتقد. رابينوفيتش أن هناك طريقتين أساسيتين تجعلان الفرد يعيش معيشة البدو في سيناء: إما الاعتماد علي أرض سيناء في المعيشة (من خلال الرعي والزراعة)، أو استغلال العالم الخارجي. (من خلال تجارة الفحم وتلبية احتياجات الحجاج)، وأصبحت الطريقة الأخيرة هي المهيمنة في القرن التاسع عشر حيث ظهرت فرص التجارة وخدمة الزائرين، مما تسبب في إهمال الحدائق وهجرها. ولم يكن من الممكن الجمع بين الطريقتين ، نظرا لأن كلا منهما تأخذ الكثير من الوقت والجهد، ولايعتقد رابينوفيتش أن تقطيع أشجار السيال لاستخدامها في إنتاج الفحم النباتي يمكن أن يؤدي إلي استنفادها، وهذا ما نظنه صحيحاً، ونظراً لأن أشجار السيال لاتوجد في المناطق المرتفعة وتتمركز في الأراضي المنخفضة والساحلية، حيث إن تلك الأشجار نادرة أو غير موجودة علي الإطلاق في معظم أراضي قبيلة الجبالية، لذا وجد القليل من المواد والمعدات الخاصة بحرق الفحم وتجهيزه. كما يعتقد أن غزو الأتراك لسيناء خلال الحرب العالمية الأولي قد ساهم في وقف نزيف قطع أشجار السيال وإنتاج الفحم، حيث قام الأتراك باستبدال الفحم بالنفط والغاز ومع الوقت انتهت الحرب ولم تسترد أسواق الفحم نشاطها. وبالمثل اختفت السياحة الدينية في الوقت نفسه لكنها عاودت الاستئناف مجدداً، إلا أن السيارات والمركبات حلت محل الجمال كوسائل للنقل. ومن هذا المنطلق يري رابينوفيتش أنه خلال الفترة ما بين الحربين ومابعدها برزت مرة أخري أعمال الرعي وزراعة الحدائق، كما كانت قبل القرن التاسع عشر. وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وصل متوسط قيمة العائد السنوي للحديقة إلي 110 جنيهات، وهو مبلغ يكفي لمعيشة أسرة بدوية لمدة ستة أشهر علي الأقل، حيث كانت نفقات معيشتهم حوإلي 8 جنيهات فقط شهرياً. وكانت أحجام القطعان التي تمتلكها الأسر كبيرة نسبياً، حيث تتراوح الأعداد في القطيع الذي تمتلكه الأسرة الواحدة بين 50و60 رأساً، كما أن المنتجات التي تنتجها قطعان الماشية توفر مايكفي من النقود لمعيشة العائلة نحو أربعة أشهر. وتشبه القطعان التي تمتلكها قبيلة الجبالية في أحجامها الكبيرة القطعان النموذجية للقبائل الارتحالية التي يكون كل اعتمادها علي الرعي، لكن معيشة أهل القبيلة في المناطق المرتفعة تجعلها تعتمد علي الماعز أكثر من الأغنام، إلا أن الماعز في سيناء صغيرة نسبياً وغير منتجة. تسببت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967م في تراجع الطلب بقوة علي فاكهة سيناء حيث قطعت المنافذ التقليدية، كما كان طلب الجانب الإسرائيلي لفاكهة سيناء بسيطاً نظراً لتوافر الفاكهة عالية الجودة، والتي يتم استقدامها من أرض فلسطين وإسرائيل. وهكذا تراجعت أهمية الرعي والزراعة تماماً في السبعينيات ليصبح القائمون عليها مجرد عمالة مدفوعة الأجر لسد حاجة المحتلين الإسرائيليين. ورغم أن هذا الأمر وفر للبدو مبالغ مالية كبيرة نسبياً كل عام، فإنه قوبل بارتفاع تكاليف المعيشة بشكل كبير يتراوح بين 5 و10 مرات. وهكذا أصبح الدخل القادم من الحدائق بالكاد يكفي للعيش لمدة شهر واحد، مما أدي إلي إهمال تلك الحدائق وبالذات الموجودة في أماكن بعيدة ونائية. ومع هذا نجد أن البدو استثمروا الثروة الجديدة في إنشاء حدائق جديدة معظمها تكون بالقرب من الطرق الرئيسية والممرات للتسهيل علي مالكيها. وبعد أن أعاد المصريون أرض سيناء، قل عدد العمالة مدفوعة الأجر، ونشط الاقتصاد المعتمد علي الحدائق مرة أخري. وهكذا يري رابينوفيتش وبعض المؤرخين الاجتماعيين الإسرائيليين أن ازدهار زراعة الحدائق لايمثل سوي العودة إلي الخلف بالنسبة لقبيلة الجبالية، ويوصون بإنشاء نظام تأميني يسمح باستثمار الجهود خلال الأوقات الجيدة بحيث يكون مستعداً للاستمرار وتغطية النفقات أثناء الفترات الصعبة. (انظر الشكل3). عاين بريفولتسكي حالة حدائق قبيلة الجبالية عام1977م ولم يجد سوي الثلث مزروعاً كلياً أو جزئياً، وتم الاستغناء عن ثلث آخر (علي الرغم من أنه لايزال ينتج ثمار الفاكهة)، كما كان يعاني ثلث آخر من الخراب التام. واصلت 30-40 أسرة فقط الهجرة الموسمية التقليدية، من أصل 100 أسرة اعتادت علي قضاء الصيف في الوديان العالية. هناك ثلاثة أسباب رئيسية لهجرة العائلات لحدائقها، وسوء حالة الحدائق في ظل غياب الاعتناء بها، والأضرار الناجمة عن السيول الكارثية لشتاء 1968-1969م. ظهر مؤخراً مصدر جديد للدخل لأصحاب الحدائق، حيث تم تحويل بعض الحدائق وإنشاء حدائق جديدة واستخدامها كمواقع لتخييم السائحين. إن تلك المواقع توجد الآن فقط في وادي جبال، الذي يعد الموقع الرئيسي للتنزه علي الأقدام، (أنظر زلط وجبلبرت، 1998م). هذه الحدائق تشكل جزءاً من الاتفاق بين البدو مالكي، تلك الحدائق في واد وبين الشيخ موسي المسئول عن تنظيم رحلات السفاري في قبيلة الجبالية. وفيما يخص التخييم فقط تطورت بشكل كبير في وادي غربة، حيث تحولت مظاهر الخراب القديمة وما يصاحبها من حدائق إلي أماكن رائعة للإقامة وبطريقة صديقة للبيئة "إنشاء المنتجع البيئي"، والذي يديره أحد البدو المتخصصين، ويسمي جميل عطية ويسانده عدد من البدو. وقد تم بناء المنتجع بقواعد تراعي البعد البيئي وتقلل من الآثار المصاحبة للسياحة، ولذا نجد المكان مزوداً بمراحيض بدائية يتم التخلص فيها من الفضلات بصورة لاتضر بالبيئة (التحلل البكتيري)، وكذلك تسخين المياه يتم باستخدام الطاقة الشمسية، والإنارة بالشموع، والمبني والتجهيزات كلها من خامات البيئة المحلية. إنشاء الحدائق والري يحتاج إنشاء حديقة إلي الكثير من النفقات، قيل إنها تعادل تقريباً تكاليف معيشة أسرة مكونة من ستة أفراد لمدة عشرة أشهر. وتحدد أماكن توافر المياه مكان بناء الحديقة. ومن الصعب أن يتم تحديد أين ستحفر البئر بالضبط. وهناك بعض الوديان التي تشتهر بمصادرها المائية الغنية ومنها وادي جبال والتلعة وإطلاح. وهناك عدد قليل من البدو من كبار السن ممن لديهم الخبرة في تحديد أماكن حفر الآبار بالضبط. فهم إذا أرادوا حفر بئر في مكان ما، فإنهم يتبعون سياج الصخور الجرانيتية (يسمونه خط محمد) ثم يقومون بحفر البئر عند قاعدته أو عند اختفائه. بمجرد أن يتم حفر البئر، التي تكون بمثابة مصدر يمكن الاعتماد عليه في توفير مايكفي من المياه، تشيد الأسوار الحجرية للحديقة عند النهاية السفلية للبئر، بحيث يكون الري أسهل. يقوم البدوي مالك الأرض بحفر البئر إما بنفسه أو بمشاركة عدد من الرجال، وهي مهمة ضخمة تتم في الأرض الصخرية الصلبة، وإذا ما لم يكن هناك أي مؤشر علي ارتشاح المياه بعد عمق مترين يترك البئر ويبدأ التفكير في حفر بئر أخري. يكون عمق البئر النموذجي الناجح حوإلي 4 أمتار، إلا أنه يمكن أن يصل إلي 25 متراً، وبشكل اسثنائي يكون العمق 37 مترا. تتكلف عملية الحفر 300 جنيه للمتر في الاراضي الرميلية و500 جنيه في الأرض الصخرية. ولإنشاء حديقة مساحتها حوإلي نصف فدان (2100 متر مربع) يكلف الأمر حوإلي 30.000-50.000 جنيه بأسعار عام 2003م2، وهي تكلفة حفر البئر وبناء السور وشراء أنابيب المياه والبذور، إلخ، أما في عام 1977م، كانت هذه التكلفة 500 جنيه فقط. وعلي الرغم من حدوث تضخم كبير في الأسعار، فإن التكلفة النسبية لإنشاء حديقة قد زادت بشكل ملحوظ. وبالنسبة لكيفية زراعة أشجار الحديقة فلابد من ترك مسافة 3م2 بين كل شجرة وأخري، ويكون عدد الأشجار في الحديقة معتمدا علي مساحتها ونوعية التربة وتوافر الموارد المائية. تحتوي وديان فيران والطرفة علي آبار عميقة جدا، تتطلب الآن مضخات كهربائية لرفع المياه. بينما في الماضي كان يتم رفع المياه من الآبار في سانت كاترين باستخدام الشادوف، وهي طريقة تقليدية مصرية تتكون من عمود يحمل وزنا عند أحد طرفيه ودلوا مربوطا بحبل عند الطرف الآخر. وفي السنوات الأخيرة قام البدو بشراء أنابيب بلاستيكية سوداء من أسواق القاهرة تستخدم في جلب المياه من الينابيع المرتفعة إلي الحديقة عن طريق الجاذبية. ويمكن لهذه الأنابيب أن تقطع مسافات طويلة داخل الوديان، لذا لم يصبح مكان الحديقة معتمدا علي موقع البئر كما كان قديماً. ومن الناحية البيئية فقد خلق هذا النظام مشاكل خطيرة، حيث إن جميع خزانات المياه الطبيعية في الجبال والوديان النائية تم الوصول إليها وتوصيلها بالخراطيم وسحب مياهها للزراعة، مما أدي إلي جفاف تلك الخزانات وموت النباتات البرية، وأيضا تعرض الحيوانات البرية لخطر العطش ونقص الموارد الغذائية، مما يهدد بضياع تلك المصادر. في الماضي كان يتم سحب المياه في الآبار لتتدفق داخل قنوات وممرات توصلها مباشرة إلي النباتات، ولايزال هذا النظام متبعا في بعض الحدائق إلي الآن، وبخاصة في وادي فيران. أما في الوقت الحاضر فالمياه يتم رفعها لتخزن داخل خزانات مصنوعة من الحجر والأسمنت ، ثم يتم دفعها داخل القنوات عند الحاجة لذلك. في الربيع والخريف تحتاج الأشجار للري مرة واحدة فقط في الأسبوع، بينما يتم ريها في الصيف مرتين علي الأقل في الأسبوع لإنتاج محصول جيد. أما الخضراوات فهي تحتاج إلي الري بصفة منتظمة ويومية. الممارسات الزراعية جميع الحدائق تحتوي علي أشجار فاكهة، ومعظمها تنتج بعض الخضراوات. وتعد أكبر حديقة من حيث المساحة هي تلك التابعة للدير عند نهاية وادي الأربعين ، حيث تصل مساحتها إلي حوإلي 20 هكتارا وتحتوي علي عدد كبير من أشجار الزيتون القديمة (حوإلي 700 شجرة). وقد وصف أحد الرحالة "بوركهاردت" هذه الحديقة عندما زارها عام 1816م، بأنها "مكان رائع للراحة، وسط أشجار الزيتون". لاتستخدم الأسمدة الصناعية في أي من الحدائق علي حسب ما نعرف، بل يتم جمع روث الماعز والجمال وينقع ثم يوضع علي سطح التربة. ولا تستخدم المبيدات الكيميائية ما عدا كبريتات النحاس التي يتم رشها علي الخضراوات لمكافحة الآفات الحشرية في بعض الحدائق بمدينة سانت كاترين. وبالتإلي تكون جميع المحاصيل التي تنتجها حدائق الوديان المختلفة عضوية بصورة كبيرة. وعندما يكون هناك فائض في الإنتاج، يباع هذا الفائض لتوفير دخل إضافي. وفي الآونة الأخيرة قام أحد البدو من أصحاب الخبرة (محمود دقوني) بعمل مشروع بيئي متميز كان يقوم به أجداده، وهو القيام بتجفيف ثمار الفاكهة والخضراوات بطريقة بدائية في الهواء الطلق ويقوم بتغليفها وتسويقها للبدو وزوار المنطقة، وفكرته بدأت لرفضه طغيان استخدام الخضراوات والفاكهة المعلبة أو المحفوظة وانتشارها في محلات البقالة بمدينة سانت كاترين. يمارس البدو تطعيم الأشجار بمهارة عالية، وهو يتم عادة في شهر مارس. فالتين البري علي سبيل المثال أكثر مقاومة للظروف البيئية عن نظيره الصالح للأكل، حيث إنه يمتلك جذوراً وسيقاناً قوية تتكيف بشكل جيد مع ندرة المياه، وبالتإلي يقوم البدو بتطعيم جذور التين البري ببعض فروع من التين الصالح للأكل. وبالمثل يتم تطعيم الجذور المقاومة للجفاف من نبات الزعرور البري Crataegus Sinaica بمختلف أنواع الفاكهة، أو صنف واحد من المشمش بآخر، أو في بعض الأحيان جذور التفاح بأشجار الخوخ (مما يجعل طعم الخوخ مختلفاً وأحلي كثيراً). ومن المعروف أن بعض عمليات التطعيم التي تتم في الحدائق تكون أقل نجاحاً، حيث يمكن مثلاً تطعيم شجرة تفاح بكمثري، لكن الشجرة المطعمة يمكن أن تموت بعد مرور سنة واحدة، كما أنه من الممكن تطعيم السفرجل بالتفاح لكن الثمرة تكون مالحة. وكما ذكرنا سالفاً، فإن البدو يعيشون في منازلهم الشتوية الموجودة في سانت كاترين في فصل الشتاء، ويقومون بزيارة حدائقهم بين الحين والآخر. تحتاج الحديقة للري أسبوعياً بداية من شهر فبراير، ومرتين في الأسبوع خلال شهري أبريل ومايو، ويومياً في الفترة ما بين يونيو وسبتمبر، يتم تقليم تكعيبات العنب والبدء في ريها في شهر فبراير، وبحلول شهر أبريل تبدأ زراعة الحدائق بالخضر وتخصب بروث الماعز. ووفقا للأعراف المحلية تعود العائلات إلي الحدائق الجبلية في يونيو عند بدء نضوج المشمش بالمدينة. وقد يعود الرجال بانتظام للعمل في سانت كاترين، لكن العائلة لا تترك مواقعها في أعإلي الجبال حتي يحل شهر نوفمبر فتعود لتستكمل دورة العام. هذه الهجرة الموسمية مألوفة للمزارعين والرعاة في كثير من المناطق الجبلية في العالم أجمع. أشكال مكافحة البدو للآفات يكون معدل الإصابة لأشجار الفاكهة في المناطق الجبلية المرتفعة منخفضاً بصورة كبيرة، وبالتإلي لا يتعين مكافحة الآفات خلال معظم السنين. ويستثني من هذا التعميم الرمان وبعض أشجار اللوز، وبمجرد الخروج عن نطاق الجبال العالية نجد أن الحدائق التي توجد علي ارتفاعات منخفضة تواجه أشجارها مشاكل كبيرة مع الآفات، وتعاني كلا المنطقتين من آفات الخضر. وبما أن ما تنتجه الحدائق من ثمار لابد أن تكون عضوية، فلا سبيل لمكافحة الآفات كيميائياً، بل لابد من اللجوء إلي أساليب مقاومة زراعية أو بيولوجية. وقد ابتكر البدو أنفسهم العديد من الطرق للحد من وقع الآفات علي محاصيلهم مستخدمين تقنيات بسيطة وآمنة بيئياً، فهم قد لاحظوا أن دودة الرمان علي سبيل المثال تهاجم ثمار الرمان وتفسدها، لذلك فهم يقومون بلف الثمار بأكياس ورقية خلال الفترة الحرجة التي تقوم الإناث البالغة للفراشة بوضع البيض خلالها مما يحمي الثمار بشكل فعال للغاية من الإصابة. وهناك نوع آخر من يرقات الفراشات تهاجم الكوسة وظهرت أعراض تلك الإصابة حديثاً، وربما تكون قد استحدثت للمنطقة مع إدخال سلالة جديدة من الكوسة كبيرة الحجم. وقد أثبت البدوي المزارع حسين صالح بالتجربة أن نوع التربة لم يكن له أي تأثير علي معدل الإصابات، ولكنه اكتشف أن استخدام حاجز بسيط من الكرتون المفتوح حول النباتات يمنع زحف الآفات من نبات إلي آخر، ويمنع الإصابة تماماً، لقد نفذ حسين تجربته متبعاً الطريقة العلمية السليمة. الحدائق في ظل قانون البدو هناك عدد قليل جداً من المشاكل بين البدو متعلقة بالأراضي أو الموارد المائية، وذلك لأن الأجيال تتوارث احترام العادات والتقاليد والأجيال الحديثة توقر كبار السن الذين يقومون بدور القضاة، ومن ثم تكاد تكون المنازعات غير موجودة، ومع كل ذلك فإن ملكية الأفراد للأراضي تحرر لها الوثائق التي توضح حدود كل حديقة مما لا يدع مجالاً للشك حول هذه المسائل. وينص قانون البدو أن صاحب الأرض يحق له إنشاء حديقة حول أرضه، وذلك ببناء سور من الحجارة يحيط بحدود الحديقة، وفي هذه الحالة لا يحق لأي شخص استخدام هذه الأرض إلا إذا تم إهمالها لمدة عام كامل، عندئذ يحق لأي فرد من قبيلة الجبالية الاستيلاء علي هذه الأرض واستخدامها. وإذا كنت قد حفرت بئراً في أرض ما حتي ولو كانت علي عمق متر واحد وتفتقر للمياه، فإن تلك الأرض ملك لك للأبد. فالآبار بالطبع لها أهمية خاصة في البيئة القاحلة، وهي خير عنوان علي قيمة ما يبذله البدو من جهد لتطوير الأراضي. أكثر من ذلك فإن هناك زراعات لبعض أشجار الفاكهة داخل الوديان دون أن تحتويها أسوار لحمايتها، وكما هو الحال مع جميع الحدائق والمحاصيل التي بداخلها، فإن هذه الأشجار تكون مملوكة لأسرة ما أو رجل ما. ودائما ما يحترم البدو خصوصية هذه الأشجار، فلا يأكلون ما تنتج من ثمار إلا إذا كانوا علي علم بأنها ليست ملكاً لأحد، أو أن مالكها قد زرعها كمورد عام يستفيد منه الجميع، وهي عادة ما تكون أشجار تين أو توت. حتي في قري الدلتا المصرية تكون ثمار أشجار التوت ملكا للجميع، فيمكن لأي شخص جمع وتناول التوت ولا يعرف تحديداً السبب في هذا الأمر. فمن المحتمل أن يكون هذا الأمر راجعاً إلي ارتباط وقت إثمار أشجار التوت بفترة وجيزة قبل تفعيل الحلف وبالتإلي تعطي الفرصة للجائعين من منحهم الطعام مجاناً إيذاناً بتفعيل الحلف. يأخذ البدو موضوع ملكية الحدائق علي محمل الجد، فإذا كان مالك الحديقة ليس موجوداً لا يسمح بدخولها لسببين: أولهما: احترام مبدأ الملكية نفسه. وثانيهما: أن الحديقة تكون في الصيف مأوي للأسرة، لذا فإن الزائر كما هو غير مسموح له بمقابلة العائلة داخل المنزل لا يسمح له بزيارة الحديقة. ومن المثير للاهتمام أن النساء لا يمتلكن أبداً الحدائق، بل تنحصر ثرواتهن في الذهب والماعز. وقد ربط هوبز بين مواقف الرجال بالنسبة لكلا النوعين من الحرمات وهما الأشجار والنساء. فهو يري أن دخول الحدائق دون الحصول علي إذن أو إلحاق الضرر بالأشجار أمور تتساوي عند البدو مثل انتهاك حرمة البيت أو المرأة. لذا فإن ندرة حدوث أي نوع من السرقات أو التعديات داخل الحدائق نظراً لموقف البدو الحازم حيال هذه الأمور مما يعمل علي تقليص دور القوانين والأعراف في تلك القضايا، وأن كسر تلك القواعد ينذر بعواقب وخيمة. وكما هو المعتاد في الثقافة العربية، يستثني من هذا الأمر المسافر الذي هو في حاجة إلي المياه والغذاء من أجل البقاء، فهو مسموح له بدخول الحديقة لتناول بعض الثمار عندما يكون جوعان، ولابد أن يترك علامة علي ذلك حتي لا يتم تفسيره علي أنه حادث سرقة. يعطي هوبز مثالاً شيقاً للعواقب التي قد تنجم عن دخول الحديقة وسرقة بعض الثمار من أشجارها. فالقرارات الفردية بشأن هذا الموضوع يعدها البدو متعمدة وذات مغزي. وهكذا يتم حساب كل خطوة من ممر المشاة إلي جدار الحديقة، فتكلفه تلك الحركة تكون واحدا من جماله كغرامة. اجتياز الجدار يستلزم دفع جمل آخر، دخول الحديقة والمشي إلي الشجرة يتكلف كل منهما واحدا آخر، الوصول إلي الثمرة يتكلف جملاً آخر، وكذلك مغادرة الحديقة. وهكذا يكون مجموع الغرامة ستج جمال يقوم القاضي بتقدير قيمتها المالية، التي تعادل نحو 10 - 40 ألف جنيه مصري، وهو مبلغ فلكي حقاً. حتي المجموعة من قبيلة الجبالية، والذين لا يملكون حالياً حدائق (10٪ من قبيلة الجبالية وفقاً لبريفولتسكي) ، كانوا لفترة ما من حياتهم يمتلكون حديقة أو يشاركون في واحدة.فملكية الحدائق يمكن أن تضيع نظراً لظروف مالكيها الاقتصادية أو نتيجة لدفع الغرامات التي يوجبها القانون المحلي. وتعد عملية شراء حديقة عملية مكلفة للغاية إلا أنها تمثل استثماراً كبيراً، وتعادل قيمة الحديقة عادة تكلفة معيشة أسرة بدوية لمدة عام. ويمكن بيع الأراضي لأفراد من الربع نفسه، لكن البيع لأشخاص من ربع آخر يستلزم موافقة الربع الذي ينتمي إليه مالك تلك الأرض. الميراث في قبيلة الجبالية غير متساو بين الجنسين طبقاً للشريعة الإسلامية. فبعد وفاة الأب أو الأم يتم تقسيم التركة إلي أنصبة، فيرث الابن الذكر ضعف ما ترثه الابنة، ويرجع السبب في هذا التقسيم إلي أن الرجل هو الذي يتحمل تكاليف المعيشة وتوفير السكن بأكمله، ولا تدفع المرأة أي شيء بل تحتفظ بميراثها لنفسها. ولا ترث المرأة البدوية في الأراضي والبيوت، بل يقتصر ميراثها علي الأشجار والثمار فقط. والسبب في ذلك أن البدو يعتقدون أن المرأة إذا ورثت الأرض فإنها ستنتقل تلقائياً بعد وفاتها لأسرة زوجها. فالمرأة المسلمة تحمل اسم والدها، بينما ورثتها يحملون اسم عائلة الزوج وهذا يعني أن الأرض سوف تؤول في النهاية لعائلة مختلفة. لذا فإن الرجال يحتفظون بالأرض لهم ولأبنائهم الذين يحملون أسماءهم. وفي المقابل هم من يقومون برعاية الحدائق والاهتمام بها، وعندما تؤتي الأشجار بثمارها لابد لهم من مشاركة شقيقاتهم في الانتاج حتي ينالوا نصيبهم الشرعي من ميراث والديهم. يمكن للمرأة الزواج من رجل من العائلة نفسها أو الربع أو القبيلة، بينما يحتاج نسب القبائل المختلفة لبعضها موافقة كبار هذه القبائل. ونادراً ما يقوم الرجال بالزواج من نساء من قبائل أخري، فالعائلات عادة ما يكون لديها حساسية مفرطة تجاه تلك الأوضاع غير المألوفة، ومع هذا فهناك أحد الروايات أن امرأة بدوية تزوجت من رجل من منطقة دلتا النيل دون علم أسرتها، لكنهما عادا بعد عام واحد من الزواج دون حدوث أي مشكلة. يعد الثأر سمة من سمات المجتمعات العربية التي لاتزال موجودة في بعض المناطق، بل إنه من الممكن أن يكون سبباً في فقدان الأرض والحدائق. فإذا ما قتل رجل لأي سبب من الأسباب، ففي المقابل لعائلته الحق في قتل أي فرد من أفراد عائلة القاتل، وعادة يكون المستهدف هو القاتل نفسه (إذا كان معروفاً) ، أو أي فرد ذي مرتبة مرموقة من أفراد أسرته. وفي ظل عدم وجود نظام فعال للمراقبة، يتحول القصاص إلي عملية انتقامية ويؤدي إلي عداء لا نهاية له. ولايزال الثأر موجوداً داخل القبائل البدوية في سيناء، لكنه ينظم وفقاً لقواعد معينة مما يحد من الأضراراللاحقة ويحجمها. وحينما تغيب مثل هذه القواعد فإن المجتمع بأسره يصاب بالشلل. ففي صعيد مصر علي سبيل المثال لا يوجد أي تنظيم لموضوع الثأر علي مستوي المجتمع المحلي والشرطة، وهذا يتيح للعائلات الكبيرة الهيمنة علي الموقف، بينما تعاني العائلات الأقل علي نحو غير مناسب، ويكون أفرادها عرضة لهجمات انتقامية ولا تستطيع الدفاع عن نفسها. يختلف الوضع بالنسبة لقبيلة الجبالية نظراً للتأثيرات القوية لشيوخها وسيطرتهم علي الموقف والتي تضمن انتهاء العداء عند قيام عائلة القتيل بالثأر له. ويتخذ الثأر أشكالاً عديدة، فيحق لعائلة القتيل أن تأخذ حياة فرد من عائلة القاتل أو منزلاً لهم أو حديقة أو جملاً أو أي شيء تختاره، وهناك قواعد تفصيلية تحكم هذه المسألة. واحدة من تلك القواعد يطلق عليها "الخمسات" وهي جمع الرقم خمسة، وهي تشير إلي أن الثأر يؤخذ من أي من أفراد العائلة علي مدار خمسة أجيال، وهي حسبة معقدة. فقد يتم حساب الخمسة أجيال من خلال حصر أقرباء القاتل، مع اعتبار أكبر الذكور سناً في عائلة القاتل ممثلاً للجيل الأول، ويمكن أخذ الثأر من أي فرد ذكر من أفراد العائلة تكون سنه فوق السادسة عشرة (أي يستطيع الدفاع عن نفسه)، ومن ضمن أفراد العائلة أولئك المنحدرون من نسل أشقاء الجيل الأول. وتستمر فرصة الأخذ بالثأر حتي الجيل الخامس، ولكن بمجرد ظهور الجيل السادس يخرج بعض أفراد العائلة من دائرة الأخذ بالثأر. فإذا كان الجيل السادس من نسل القاتل، تستبعد بقية العائلة من الثأر، وينحصر فقط في هذا النسل. وإذا كان الجيل السادس هو نسل أناس آخريين داخل العائلة، يخرج هذا النسل بالكامل خارج دائرة الخطر. وكما تحدد هذه القاعدة الأشخاص العرضة للثأر، تحدد مجموعة الأقارب الذين يمكن أن يتوقع البدوي منهم المساعدة عند وقوعه في ورطة أو عند تعرضه للهجمات، لذلك فإن هذا المفهوم مهم جداً في المجتمع البدوي. وللتأكيد مجدداً نقول إن قبيلة الجبالية تأخذ بالثأر مرة واحدة فقط ثم ينتهي الموضوع علي حسب ما فهمنا، ويرجع هذا إلي التأثير الكبير لشيوخ المجتمع المحلي. وتكون المحصلة النهائية الناتجة من تطبيق الأحكام هي منع وقوع المجتمع تحت سيطرة العائلات الكبيرة، واستمرار عجلة القتل بصورة لا نهائية، وهذا بالطبع يعود بالنفع علي الجميع. ويطلق علي هذه القاعدة لقب "الرجل بالخمسات"، والرجل هنا تشير إلي الأقدام والأرجل. وتعني أنه إذا كنت تريد الثأر، فعليك أن تمشي حتي تصل إلي الجيل الخامس من أسرة القاتل. الحدائق في حياة الأسرة البدوية حدائق عائلة أبو مغانم تظهر مدي التشابك في الملكية، فلقد ذكر بريفولتسكي بالتفصيل أن البطريرك موسي اشتري حديقة في وادي جبال من بدوي من الصوالحة مقابل 15 - 20 جنيها في مطلع العشرين، وكان لموسي أربعة أبناء أكبرهم صالح، الذي كان يعمل في الدير لسنوات عديدة استطاع خلالها توفير مبلغ يكفي لبناء حديقة علي منحدر سهل الراحة علي الأرض الممنوحة له من قبل الدير تقديراً لجهوده. وفي وقت لاحق استطاع الحصول علي حدائق عائلته المتهدمة في وادي أبو ولية بما ادخره من نقود وبثمن بيع 40 عنزة وجمل واحد، كما قام بشراء أسهم بقية أفراد العائلة، وكان مبارك شقيقه شريكاً معه في هذا العمل من خلال المساهمة بأمواله التي حصل عليها من عمله في مناجم المنجنيز الموجودة في أم بجمة بالقرب من ساحل خليج السويس ومن نقل البضائع وبيع جمل يمتلكه، وعلي هذا استطاع صالح بناء حديقة جديدة كبيرة في وادي أبو ولية. وقد تنازل الأخوان (صالح ومبارك) عن نصيبهما في أرض والدهما لأخوايهما الأصغر سلامة وحسين، اللذين ورثا في نهاية المطاف حديقة والدهما. ثم حصل الابن الأصغر منهما حسين والابن الأكبر مبارك علي الكثير من المال من العمل بأجر،وتخلوا عن أنصبتهم في الحدائق النائية في الجبال، وبنوا حدائق جديدة بالقرب من الطرق الممهدة حديثاً. وقام حسين نجل الابن الأكبر صالح برعاية الحدائق في أبو ولية، وأقام حديقة جديدة، وحفر بئرين جديدتين، وأنشأ موقعا لتخييم المسافرين للوادي. استخدامات انتاج الحدائق في الماضي كان نظام المقايضة معمولا به بين بدو الطور والعقبة وسانت كاترين، حيث كان يتم تبادل السمك القادم من الطور أو خليج العقبة بفاكهة سانت كاترين. وغالبا ما كان يجري هذا التبادل في المولد عندما كان يجتمع الناس معاً للاحتفال (سواء المولد النبوي الشريف أو موالد الشيوخ المعروفة). وكانت تنظم قبيلة المزينة اجتماعاً سنوياً للبدو، وكان يشارك في هذا الاجتماع البدو من جميع أنحاء سيناء، بالإضافة إلي بدو الأردن والمملكة العربية السعودية، وذلك لتبادل السلع والفواكه وغيرها من المنتجات. وكان يقام ما يقارب حوإلي 50 خيمة بدوية مصنوعة من شعر الماعز علي مدي ثلاثة أيام، ويتم ذبح عدد 5 - 7 جمال لطعام المشاركين. وبشكل عام تقوم القبائل البدوية في سيناء بعقد تلك الاحتفالات حتي الآن في بعض الأنحاء. يتجمع بدو قبيلة الجبالية سوياً بالقرب من قبر النبي هارون في وادي الشيخ. وفي بداية الاحتفالية يأتي الشيخ موسي مرتدياً جلباباً ناصع البياض بعد عودته من رحلته إلي القاهرة لجلب بعض من ماء الورد من المحلات التجارية بالقرب من مسجد الحسين. يتم رش ماء الورد علي طول الطريق وصولاً إلي قمة جبل موسي. ويعتقد أن رش مثل هذه المياه العطرة علي الأرض المقدسة من شأنه جلب الحظ الجيد لها، وخصوصاً زيادة كميات الأمطار وخصوبة التربة. بعد ذلك، تبدأ الاحتفالات والمقايضات، كما تتخذ العديد من القرارات القانونية والعائلية.