نشرة «المصري اليوم» من الإسكندرية: المحكمة توقف حبس فرج عامر لهذا السبب.. والبابا يصلي قداس أحد الشعانين بكنيسة رئيس الملائكة    الوفد ينظم محاضرة تحديات الأمن القومي في عالم متغير    بعد عامين من انطلاقه.. «محسب»: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم والتوافق بين أطياف المجتمع المصري    الصاوي يستقبل الفريق الزائر لضمان الجودة والاعتماد بكلية اُصول الدين والدعوة بالمنوفية    خيانة جديدة للسيسى ..امتيازات الإمارت ب"رأس الحكمة" تحولها لدولة داخل الدولة على حساب السيادة المصرية    المستندات المطلوبة لتقديم شكوى إلى جهاز حماية المستهلك    أون لاين.. خطوات إصدار بدل تالف أو فاقد لبطاقة تموين 2024    وزير السياحة السعودي: هجمات الحوثيين لا تشكل تهديدا لمنتجعات المملكة على البحر الأحمر    إعلام إسرائيلي: متظاهرون يحتجون قرب منزل نتنياهو لمطالبته بالتنحي    رئيس الأركان الأوكراني: الوضع «تدهور» والجيش الروسي يحقّق «نجاحات تكتيكية» في أوكرانيا    اندلاع مظاهرات في تركيا لدعم طلاب الجامعات الأمريكية المؤيدين لفلسطين    الأونروا تستهجن حصول الفرد من النازحين بغزة على لتر من الماء يوميًا    الرئيس عباس يطالب أمريكا بمنع إسرائيل من "اجتياح رفح" لتجنب كارثة إنسانية    الشيبي يلجأ إلى الشناوي ومعلول لتبرئته في قضية حسين الشحات    طريق الزمالك.. التشكيل الرسمي ل مباراة نهضة بركان ضد اتحاد الجزائر في الكونفدرالية    حفيظ دراجي يرد عبر «المصري اليوم» على أنباء رحيله عن «بي إن سبورتس»    "صفقة تبادلية مع برشلونة".. تقارير تكشف موقف بايرن ميونخ من رحيل نجم الفريق    بالصور.. محافظ الدقهلية يزور الفريق الأول لنادي المنصورة لتهنئته على الصعود    بهدف الاحتكار، ضبط 135 ألف عبوة سجائر مهربة في مخزن بالظاهر    غدا .. محاكمة 27 متهما بإنهاء حياة شخص بأسيوط    تحذيرات عاجلة لهذه الفئات من طقس الساعات المقبلة.. تجنبوا الخروج من المنزل    امتحانات الفصل الدراسي الثاني.. نصائح لطلاب الجامعات ل تنظيم وقت المذاكرة    زاهي حواس يكشف تكلفة حفل الزفاف الأسطوري في حضن الأهرامات    ملك أحمد زاهر تكشف كواليس مشاركتها في مسلسل "محارب".. فيديو    ثقافة الإسكندرية تقدم التجربة النوعية "كاسبر" على مسرح الأنفوشي    حكم ورث شقة إيجار قديم بالتحايل؟.. أمين الفتوى يوضح    دعاء راحة البال والطمأنينة قصير.. الحياة مع الذكر والقرآن نعمة كبيرة    شركة استرازينيكا: مبادرة 100 مليون صحة ساهمت في القضاء على فيروس سي    منها تناول السمك وشرب الشاي.. خطوات هامة للحفاظ على صحة القلب    التشكيل الرسمي للمقاولون العرب وسموحة في مباراة الليلة    بروتوكول بين إدارة البحوث بالقوات المسلحة و«التعليم العالي»    جدول امتحانات الصف الأول الإعدادي بمحافظة الأقصر    "الرعاية الصحية" تشارك بورشة العمل التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية    فيلم «شقو» ل عمرو يوسف يتجاوز ال57 مليون جنيه في 19 يوما    إعلام عبري: 30 جنديًا بقوات الاحتياط يتمردون على أوامر الاستعداد لعملية رفح    رمضان عبد المعز: فوّض ربك في كل أمورك فأقداره وتدابيره خير    الرئيس العراقي خلال استقباله وزير الري: تحديات المياه تتشابه في مصر والعراق    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    نشرة في دقيقة | الرئيس السيسي يتوسط صورة تذكارية عقب افتتاحه مركز الحوسبة السحابية الحكومية    طريقتك مضايقاني.. رد صادم من ميار الببلاوي على تصريحات بسمة وهبة    وزير بريطاني يقدر 450 ألف ضحية روسية في صراع أوكرانيا    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    رفض والدها زواجه من ابنته فقتله.. الإعدام شنقًا لميكانيكي في أسيوط    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    بصلي بالفاتحة وقل هو الله أحد فهل تقبل صلاتي؟..الإفتاء ترد    الليلة .. سامى مغاورى مع لميس الحديدى للحديث عن آخر أعماله الفنية فى رمضان    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية في قرية جبل الطير بسمالوط غدا    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    ضبط 4.5 طن فسيخ وملوحة مجهولة المصدر بالقليوبية    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    «فوبيا» تمنع نجيب محفوظ من استلام «نوبل»    قضايا عملة ب 16 مليون جنيه في يوم.. ماذا ينتظر تُجار السوق السوداء؟    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    البوصلة    حسام البدري: أنا أفضل من موسيماني وفايلر.. وكيروش فشل مع مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد صبحي..مفكر مصري يجرؤ علي السؤال

في الأسبوع الماضي رحل د. مصطفي لبيب أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، تاركاً عدداً من الأبحاث والكتب المطبوعة، وفي ذات الوقت ترك لنا- أيضاً- مجموعة من الدراسات التي لم تنشر من قبل.. وقد أهدي دراسة منها للزميلة مني نورالدين بخط يده، ننشرها لأهمية ما تطرحه هذه القامة الكبيرة من آراء وأفكار.. في هذه الدراسة يلقي الضوء علي رحلة مفكر مصري متميز هو د. أحمد صبحي.
عندما أصدرت الباحثة الأمريكية "كورا ميسون" في النصف الأول من القرن الماضي كتابها الرشيق عن سقراط- إمام الفلسفة ومثلها الأعلي في التاريخ- وسمته بعنوان "سقراط الرجل الذي جرؤ علي السؤال" ذلك أن القيمة الحقيقية تكمن في القدرة علي طرح السؤال أكثر مما تكمن في الظفر بالجواب.
ولكم ظلَّت فلسفة سقراط حيَّة ومؤثرة بمنهجها في "التهكم والتوليد" فكان سقراط، وهو يتساءل عن العدالة والخير والجمال، يوقظ محاوريه من سباتهم الدجماطيقي ويكشف مزاعم امتلاكهم للحقيقة وهم أبعد ما يكونون عنها.. كما أن تطور الفكر الفلسفي يكشف عن صدارة هذا المنحي السقراطي في اعتبار جوهر الفلسفة تفلسفاً، أي تساؤلاً عن الماهية وعن الغاية والقصد من الوجود.
وعلي حين يستريح المقلدون إلي صواب ما ألفوه، فيصبح الإجماع في عُرفِهم دليلاً يعلو علي المراجعة، تتحدد قيمة المفكر وأصالته دونما ريب في جرأته علي طرح السؤال الجوهري، وفي التماس البرهان علي صدق الدعاوي كذلك.
وقد تميَّز أحمد صبحي- رحمه الله- بجرأته الملحوظة علي اقتحام ميادين يهابها الباحثون، ففي بدء تحصيله العالي يتساءل عن حقيقة وجدوي انقسام المسلمين إلي سُنَّة وشيعة فيجعل رسالته للماجستير "نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنا عشرية" أبرز طوائف الشيعة وأكثرها نفوذاً في عصرنا.. وإدراكاً منه لجوهر الإسلام بما هو هداية ورحمة للعالمين، وأن بعثة النبيِّ الخاتم جاءت تتمة لمكارم الأخلاق كان اختيار صاحبنا للمذاهب الخلقية في الإسلام موضوعاً لرسالته في الدكتوراه، وأثناء قيامه بالتدريس في جامعة "صنعاء"، حيث يسود الفكر الزيدي، عكف علي إعداد دراسته الضافية عن "المذهب الزيدي" التي جاءت موضوعية تخلو من التحيز لأية نعرة مذهبية. ولم تقتصر دراساته علي ميدان الفكر الإسلامي وحده، والكلامي منه علي الخصوص، بل امتدت لتشمل الفكر الفلسفي الغربي كذلك فيطالعنا بدراسته الرائدة عن "فلسفة التاريخ" والتي جاءت فتحاً في الكتابة الفلسفية المعاصرة بالعربية ولا يفوته أن يُؤصِّل فيها لجهود المسلمين في هذا الفرع الهام من فروع البحث الفلسفي، ثم يكتب دراسة عن علاقة الفلسفة بالطب، وبعدها تجيء دراسته البانورامية في محاولة جسورة لتجديد الوعي الإسلامي ولحل إشكال التراث والمعاصرة، بعنوانها الدال "هاؤم اقرأوا كتابِيَه" والتي يحرص في بدايتها علي التنبيه إلي آفة الخلط بين ما هو وَحْي يُوحَي وبين آراء علماء أو أئمة مهما علت مكانتهم، فكل يؤخذ من كلامه ويُترَك إلاَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم فيما يبلِّغ عن ربه، وإلي آفة التعصب للمذهب أو الرجال، فلقد افترق المسلمون إلي شيع ومذاهب كُلٌّ يزعم أن مذهبه وحده هو الإسلام الحق وما عداه زيغ وضلال، وإلي آفة التقليد في دين ينهي عن التقليد ويعيب علي المشركين قولهم "هذا ما وجدنا عليه آباءَنا.."؛ فرسوخ المعتقدات علي مدي القرون لا ينهض دليلاً علي أنها من دين القَيِّمة، وكأني به في هذا الكتاب الجامع يسجل قصة عَقْلِه بعد عناء الطريق.
وخاتمة مؤلفاته رسالته التي طرح فيها سؤالاً مهماً لاتزال له وجاهته البالغة، وهو سؤال كان قد راود من قبل بعض أعلام الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر وتفاوتت إجاباتهم عليه. هذا السؤال هو: هل يُعَدُّ المذهب الوهابي سلفياً؟ ولا يقنع صاحبنا بمجرد طرح السؤال وإنما يجتهد في الإجابة عليه. ولأن صاحبنا كما عهدناه مفكر حر نزيه صادق النيّة في المعرفة، يتأسي بقول الإمام علي كرّم الله وجهه "لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الرجال بالحق تعرف أهله" فإنه يلتمس صواب الفكرة في ذاتها لا في قيمتها الفورية ولا في آثارها الاجتماعية، ولا في حياتها عند أصحابها والمروجين لها، كما لا يقيم وزناً لاعتبارات المنفعة وحسابات السياسة التي قد تُلزم الكثيرين بالتكيف أو حتي يغضِّ الطرف عن الدلالة الحقيقية للأفكار وعن التفتيش في بواعثها الكامنة وتطورها، لذلك كله ولأسباب تتعلق أيضاً بمهمة مؤرخ الفكر المهموم بقضايا أمته الحريص علي وحدتها واستعادة نضارتها كانت جرأة أحمد صبحي في إعادة طرح السؤال.

وفي نبرة هادئة تخلو من التشنج، ومن الانحياز الأيديولوجي الذي هو دأب الكثيرين في زماننا، وفي موضوعية مشهودة يسعي في تؤدة للظفر بالإجابة.
والرسالة يُغلّفها الأمل في أن تكون بحضرة جيل من الباحثين علي بيِّنة من تراثنا لا نجد في مؤلفاتهم البذاءة والإسفاف في القول أو الاندفاع إلي تبديع الخصوم أو حتي تكفيرهم بل يتقون الله ويقولون قولاً سديداً.
يبدأ صاحبنا بحثه هذا بملاحظة أولية، تكشف عن رحابة موقفه في فهم الدين الخاتم الذي جاء رحمة للعالمين، فيقرر أن "أدعياء السلف قد جنوا جناية كبري علي الإمام أحمد بن حنبل الذي يعد مذهبه أكثر المذاهب توسعاً وثناء علي الإمام علي بن أبي طالب" وأن المتأخرين جنوا علي الإمام أحمد بن حنبل حتي أصبح مشاعاً علي لسان الناس أن لفظ حنبلي يُراد به متشدد في الدين، ومن ثم فإني أود وآمل أن يُستبدل بهذا اللفظ.. ما قاله الرسول صلي الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون" فهذه هي التسمية الحقة للمتأخرين من أدعياء مذهب السلف.
والملاحظة الثانية هي وقفة صاحبنا مع حديث الرسول صلي الله عليه وسلم: "سألت ربي ثلاثة أشياء فلم يجبني إلي اثنتين وأجابني إلي الثالثة: سألت ربي ألا تختلف أمتي من بعدي فلم يجبني إياها، سألت ربي ألا تقتتل أمتي من بعدي فلم يجبني إياها، سألت ربي ألا تجتمع أمتي علي ضلال فأجابني إياها" وفي هذا الحديث الشريف ما فيه من تأكيد متصل علي أن الإجماع لا يتحقق إلا بالاستقراء التام لعموم رؤي أهل الإيمان في القضية التي تكون موضعاً للمجادلة بين أتباع مذاهب متباينة ويدفعون بعضهم بعضاً، وفيه أيضاً تقرير إلهي لحق الاختلاف بين المختلفين وتلزم البيِّنة علي من ادّعي، ولئن كانت الأمة الإسلامية لا تجتمع كلها علي ضلالة بوعد إلهي، فإن ذلك لا يحول دون أن يَضِلَّ فرقةٌ من الفرق، ولو شاء الله لهدي الناس أجمعين.
والملاحظة الثالثة هي التفرقة الواضحة بين ما هو ديني وعقيدة إلهية وبين ما هو رأي بشري يحتمل الصواب والخطأ والرَدَّ والمراجعة، وهو ما يُعبِّر عنه القول المأثور: "قولي صحيح يحتمل الخطأ وقول خصمي خطأ يحتمل الصواب".. أما عن الموقف الراجح من الأحاديث والمأثورات الدينية فإن معيار قبولها هو أن تُوافق المعقول دون النظر إلي السند وإن صح، والعَرضُ علي كتاب الله فإن لم توافقه يُضرب بها عرض الحائط، فضلاً عن ضرورة النظر إلي النسق الديني في مجموعة دون اجتزاء فلا نؤمن ببعضه ونكفر ببعض.
والملاحظة الرابعة هي ضرورة ألاَّ تغيب عنا حقيقة كون القرآن نزلَ بلسان عربي مبين وأنه قمة الإعجاز في البلاغة العربية التي تتضمن بطبيعتها ضروباً من المجاز والاستعارة والكناية، الأمر الذي يوجب علي الراسخين في العلم تأويله دون الانحسار في تفسير حرفي.
وإلي جانب هذا كله يحرص المؤلف علي الوقفة عند بعض المصطلحات المهمة ومنها مصطلح الصُحبَة والصحابة لرسول الله صلي الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار الذين زكَّاهم النص الديني- قرآناً وحديثاً- ورفع من أقدارهم. ويؤكد أحمد صبحي اختلافه مع الذين يترخصون في مفهوم الصحبة ليشمل كل من لقي النبي وآمن بدعوته ولو ساعة من زمان، إذ أن هذا ينافي مفهوم الصحبة بكل المعايير. وهنا يتساءل- بحق- كيف يمكن أن تجتمع صفة تأليف القلوب التي تفيد الذَّم مع صفة الصحبة التي تفيد المدح؟ وهل يليق أن تسبق كلمة "سيدنا" أشخاص المؤلفة قلوبهم فيستحقون "الترضية" شأنهم شأن أبي بكر وعمر وعثمان وعليَّ مثلاً؟
وفي تحديده الدقيق لمعني السلف والسلفية يعي، بحس المؤرخ، أن الفكر تعبير عن عصره، فيلاحظ أنه كما كان عصر التابعين والسلف الصالح عصر ابتكار للعلوم الدينية، وهو ما ظهر عند الأحناف وعند الشافعي ثم عند الإمام أحمد بن حنبل من بعد الذي فقهه واسع الأفق يعتمد الاجتهاد ويدين التقليد، كان عصر ابن تيمية، الذي اجتاح التتار بلدته حرَّان وفَرَّت أسرته هاربة إلي دمشق وعاش حياته كلها في ظل الغزو التتري، تعبيراً عن حالة الرعب والفزع.
ولئن كان ابن تيمية مخلصاً غاية الإخلاص صادقاً مع نفسه غاية الصدق، إلا أنه اعتبر نفسه السلفي الوحيد في عصره وأراد أن يتَّبعه كل السلفيين أما المخالفون فهم المارقون، ولم يُرد أن يشاركه في صفة الانتماء إلي السُّنّة حتي الأشاعرة، فصبَّ عليهم جام غضبه واتهمهم جميعاً بأنهم لم يتخلصوا من التأويل لدي المعتزلة، الذين لم يقرأ لهم كتاباً واحداً من كتبهم، وكذلك في عداوته للشيعة لا يتخذ موقفاً وسطاً وإنما يَردُّ أقوالهم إلي حد يكاد يفضل علي الإمام عليَّ كرم الله وجهه معاوية ويدافع عن ولاته بمن فيهم الفاسقون منهم، ومعاوية هذا هو الذي ابتدع بدعة سَب »ِّ عليَّ « علي المنابر "ليشب عليها الصغير ويهرم عليها الكبير"، وظلت بدعته سارية حتي أبطلها الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، ومعاوية هو من ابتدع مبدأ الجبر السياسي في قوله: "احتكمتُ أنا وعليَّ إلي الله فنصرني الله علي عليَّ" وفي قوله، بعد أن أوعز بقتل "الحسن بن عليَّ"، الذي كان قد اتفق معه علي أن يلي الخلافة من بعده ثم تخلص منه بالسُّم ليجعل الخلافة في ابنه يزيد من بعده، "إن لله جنوداً من العسل".. فمعاوية هو مَن جعل الدين في خدمة السياسة بعد أن كانت السياسة خاضعة لشرع الله، وأخذ أمر الأمة بالسيف، ولولاه لكانت- فيما يقول الحسن البصري- شوري إلي يوم القيامة، ويخلص أحمد صبحي إلي أن فكر ابن تيمية جاء تعبيراً عن عصر التدهور الذي يُرفع فيه شعار "قولي حق وما عداه باطِلٌ، ومن يخالفني فهو مُشرِك زنديق" بينما شعار السلفية الحقَّة: "قولي حق يحتمل الخطأ وقول خصمي خطأ يحتمل الصواب".. فكان ابن تيمية يستهل كتبه ورسائله بالادعاء بأن ما يقوله هو ما قاله الرسول صلي الله عليه وسلم والصحابة والتابعون وأنه ليس مبتدعاً في ذلك، ويلاحظ المؤلف كذلك أنه لو كان ابن تيمية قد نشأ في مصر أيام هزيمة السلطان قطز للتتار في عين جالوت وقد احتشد خلفه معظم فِرَقْ الصوفية لكان موقفه من التصوف غير الموقف الذي حَمَّلهم فيه البعد عن الإسلام والزَّندقة.. ولا يكتفي ابن تيمية بنسبة أقواله إلي النبي صلي الله عليه وسلم والصحابة وأنه متابع لهم غير مبتدع وإنما يُسَمِّي أسماء مؤلفاته بلفظ "عقيدة" وهو لفظ خطير لم يكن يقول به أحد في القرون الثلاثة الأولي.
وثمة ملاحظة أخري مهمة يشير إليها المؤلف وهي أن فتاوي الفقهاء تختلف بالطبع باختلاف الزمان والمكان، وأن تعدد المذاهب الفقهية آيةٌ علي ازدهار الفكر الديني، وأن الدين يُسر لا عُسر إلي حد أنه عند الضرورات تُباح المحظورات وأنه حيث المصلحة فثمَّ شرع الله.

وفي رَدِّ المؤلف علي دُعاة السلفية من المتأخرين (بدءًا من ابن خُزيمة ت: 311ه ومروراً بابن تيمية ت: 728ه ومحمد بن عبدالوهاب ت: 1206ه) الذين رفضوا التأويل لمجرد أن المعتزلة قالوا به، واندفعوا إلي الجانب المعاكس وهو أخذ الصفات الجسمية علي ظاهرها، في حق الله تعالي، علي الحقيقة دون المجاز إلي حد تكفيرهم من قال: إن وجه الله تعالي هو نفسه، فيبيِّن لنا أن التكفير هو بسبب نقلهم ما يُفترض أنه في الأذهان صفات إلي ما هو في الأعيان أجسام.. وعلي حين ذهب دُعاة السلفيَّة إلي إثبات هذه الأسماء للأعضاء أو للجوارح فهم مُجَسِّمة مشبِّهة، لأن هذه المسألة تحكمها قواعد اللغة والمنطق، ومن ثَمَّ فدعاة السلفية مجسِّمة مشبِّهة بكل تأكيد وهم الذين ينطبق عليهم الحديث النبوي: "لتتَّبِعَنَّ سُنَن من كان قبلكم" أي اليهود.
وفي تفنيده لدعوي المتابعين لمحمد بن عبدالوهاب، ولابن تيمية من قبله، وفي اعتبار الصلاة في المساجد التي بها قبور نوعاً من الشرك وتسميةِ من يصلي فيها بالقبوريين، يقول أحمد صبحي: "لن نجد آية واحدة في القرآن الكريم تنهي عن الصلاة في المساجد التي بها قبور" وقوله تعالي: "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" والآية الواردة في سورة الكهف هي: "قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا" وإنّ ادّعاء أدعياء السلفية بأنهم هم وحدهم الموحدون لأنهم لا يُصَلُّون في المساجد التي بها قبور هو بدعة في الوقت الذي يَدَّعون فيه أنهم يحاربون البدع.. كما أن العقيدة الحقة إنما يجب أن تستند إلي أصول الإيمان.. فلا يحق لأحد أن يتزيَّد عليها أو يُؤوِّل أيَّاً منها خاصة من هؤلاء الذين ينكرون التأويل، ثم يميزون بعد ذلك بين توحيد الإلهية وبين توحيد الربوبيَّة" وعلي حين يتعلَّل هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم هم وحدهم الفِرقة الموَّحدة بحديث الرسول صلي الله عليه وسلم: "لعن اللهُ اليهودَ والنَّصاري فإنهم اتخذوا قبور أوليائهم مساجد" فإن صاحبنا ينظر إلي هذا الحديث من شقين: الأول هو أن مسائل العقيدة يجب أن تأتي في القرآن أولاً ثم تأتي الأحاديث النبوية لتؤكد ما جاء به القرآن، وهو ما يتسق مع حديث "العَرْض"، والشق الثاني التأكد من صدق الحديث بنقد مَتْنِه، وبالإشارة إلي ما قاله الرسول صلي الله عليه وسلم فالحديث معارِض لما ورد في سورة الكهف.
أما من حيث نقد المتن فاليهود لم يتخذوا قبور "أوليائهم" وكان أَوْلَي أن يُقال" أحبارهم" و"رهبانهم" من الألفاظ الواردة في القرآن الكريم، والذي ورد في القرآن الكريم عن أماكن العبادة لليهود والنصاري "صوامع وبِيَع"، فهل فات الرسول عليه الصلاة والسلام (وهو معصوم) أن يتخذ هذه الألفاظ القرآنية؟!
هكذا استند أدعياء السلفية إلي حديث متعارض مع روح القرآن من جهة، ويتناقض مَتْنُه معه من جهة أخري، ولكنهم أرادوا أن يجعلوا أنفسهم هم وحدهم الموحدون دون سائر فرق الإسلام، ولذلك تنطبق عليهم الآية القرآنية: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَي اللَّهِ" (الأنعام: 159).
ويعاود المؤلف الإشارة إلي موقف السلفية الحَقَّة، بدءًا من ابن عباس إلي الإمام أحمد بن حنبل الذين كانوا يثنون علي الإمام عليَّ (ربانيِّ هذه الأُمة) والذي أكثر أحمد بن حنبل في مسنده من الرواية عنه، فيقارنه بموقف ابن تيمية معقباً علي ذلك بقوله: إن ابن تيمية، وإن كان من أعظم الفقهاء ما في ذلك شك فإن المسألة ليست فقهاً ولا مجرد علم بالحديث ولكن التدين قبل ذلك كله ويعد ذلك كله بصيرة نافذة حُرِمَ منها ابن تيمية وكل من سار علي دربه، وما كان أجدره بأن يراعي محاولة رأب الصدع في وقت احتلَّ التتار فيه بلده، ولكنه طعن في فرق الإسلام جميعاً معتبراً نفسه المعبِّر الوحيد عن أهل السُّنَة فنقدَ حتي أقرب الناس إليه وهم الأشعرية، وطالب الجميع أن يتَّبعوه وإلاَّ فقد خرجوا عن سُنَّة النبي صلي الله عليه وسلم.. أما كان أَوْلَي به أن ينهج نهج الغزالي حين قال في مواجهته لآراء الفلاسفة: "عند الشدائد تذهبُ الأحقاد".
لقد كانت نوايا ابن تيمية حسنةً بلاشك والله أعلم بما في الصدور، وكان غيوراً علي الإسلام بلاشك، ولكن كانت تعوزه البصيرة، لأنه كانت تسوقه في فتاويه وفي آرائه العصبية الجاهلية التي جعلته يدافع عن معاوية بل حتي عن ولاته الفاسقين.
وجاء محمد بن عبدالوهاب بدوره معبراً عن عصره الذي كانت الدول الأوربية تتكالب فيه علي تِركة الرجل المريض (السلطان العثماني) فأثار فتنة حين اتخذ من مسألة ثانوية- وهي بناء القبور والأضرحة- مسألة رئيسية وعدَّها أصلاً من أصول الدين مُفَرِّقاً بين ما يُسمِّيه توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية، مُدعيَّاً أن الرسول أنجز توحيد الربوبية وعليه أن يُتمِّمَ توحيد الألوهية، مُتَبنيَّاً كل أفكار ابن تيمية، وأعانه أمير الدرعيَّة علي نشر دعوته بالقوَّة فأثار فتنة اضطرت الدولة العثمانية في مواجهتها إلي الاستعانة بمحمد علي باشا والي مصر.

كان يُظَنَّ أَوَّلَ الأمر أن محمد بن عبدالوهاب من المجدِّدين الذين يحاربون البدع، ولكنه غالَي في سفك دماء كل مَن خالفه معتقداً أنه يتأسي برسول الله صلي الله عليه وسلم في محاربة المشركين.
وهكذا دخل الفكر الإسلامي منذ عصر أدعياء السَّلَف في نفق مظلم، ولن تجد مذهباً شديد الطعن في مخالفيه سليط اللسان مثل أدعياء السلف من أمثال ابن خزيمة وابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب.
لقد حَرَّم ابن تيميّة ما أَحلَّه الله حتي كاد يُحَرِّم الصلاة في مسجد رسول الله لأن به قبره!
وجاء ابن عبدالوهاب ليحِلَّ ما حرَّم الله من سفك دماء المسلمين، ولا يُعرف لأدعياء السلفية أدني جهد في الجهاد لا قديماً ولا حديثاً ضد الاستعمار والصهيونية، ولا يجيدون فيما- يقرر أحمد صبحي- غير تكفير المسلمين.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولعلّه يحسن بنا في هذا المقام أن نورد ما سبق أن قاله الإمام المصري المستنير محمد عبده من أنه لم يُسمَع في تاريخ المسلمين بقتال وقع بين السلفيين والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السُّنَة والمعتزلة، مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السُّنة سلفيين وأشاعرة، كما لم يُسْمَع بأن الفلاسفة الإسلاميين تألَّفت لهم طائفة وقع الحرب بينها وبين غيرها، نعم، سُمِع بحروب تُعرف بحروب الخوارج، كما وقع من القرامطة وغيرهم، وهذه الحروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة حُكم الأُمَّة، ولم يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة ولكن لأجل أن يغيِّروا شكل حكومة، وما كان من حرب الأمويين والهاشميين فهي حرب علي الخلافة، وهي بالسياسة أشبه، بل هي أَصلُ السياسة. (ج3 ص267 من الأعمال الكاملة)، والإمام محمد عبده قريب في ذلك من موقف الشيخ الأزهري محمد بن إسماعيل ابن الأمير (ت: 1182ه)، الذي عاصر محمد بن عبدالوهاب وتنصَّل من دعوته.

وفي ختام رسالته يورد أحمد صبحي نماذج غريبة وصادمة من بعض فتاوي علماء المسجد الحرام تُعبِّر عن طبيعة الفكر الوهابي.
والله الهادي إلي سواء السبيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.