قطارُ الصعيد عموما ً، الثامنة صباحا ً..!! أراني نطفة ًبينَ صلب أبي وترائبه، ثمّ جنينا ًفي رحم ِ أمّي عندما قصدتُ "جهينة" لتلدني، فصبيا ًلائذا ً بأبيه وأمّه، ثمّ رجلا ً يسعي ويحاولُ بلوغ َ الأقاصي والإلمام بالخفيّ والمستعصي..) الرواية ص9. في " دنا فتدلّي"- دفاتر التدوين يُؤسّس الروائيّ الكبير جمال الغيطاني لفنّ البوح.. يعلمنا كيفَ ننقادُ لإيعاز الروح ِ الظامئة أبدا ً.. والجريحة أبدا ً..، بلْ كيف نرسمُ بالكلماتِ نزيفها الحاد الذي لا يعرفُ أنْ يوقفهُ ضوء النهار بكلّ بهائه الإلهيّ،.. ولا يخفّف احزانها المزمنة التي تتناسلُ علي فراش ِ كلّ ليلةٍ حالكةٍ بطيئة.. (أصغيتُ مراراً عبرَ مراحل العمر ِإلي نبري، رصدتُ تغيراته، ولمحتُ بداياتِ الوهن، وكمائن المهاوي، ورفرفات الأسينة المعكرة للصّفو، الجالبة للمسغبة، للقبضة عند إكتمال البسط..) ص8. .القطارُ رمزُ الرحيل وهو (مصدرُ للدهشةِ والعجب) ص11 ولهُ علاقة قوية آسرة.. وموضوعية بالمكان..، والساعة الثامنة خلاصة الزمن لدي الكاتب الرواي: (الثامنة لهُ الصبوحة، وهدأة المدرج، ونعومة الوصل،.. الثامنة لا أحيد عنهُ ابدا ً، قطارات شتي لكنهُ يظلُ المرجعُ والمصدر) ص20.. ولهُ علاقة حميمية بالروح التي تظهرُ في "دنا وتدلي" كرهينة مدللة بينَ المكان والزمان، وما بينهما، وما يتوجهما هذا البوح الجميل!! .إذا صحّت عبارة الفنّان التشكيلي السريالي- سلفادور دالي، بانّهُ كانَ يرسمُ وهوَ في رحم ِ أمّهِ يصحُ ايضا ًبوح الغيطاني بانّهُ كان يرحلُ، ويعشقُ الرحيل، وهوَ لمّا يزل جنينا ً في بطن أمّهِ: "لا أدري أميلُ مُدققا ً، محققا ً، لعلي أري أو أسمع قبسا ً من أصداء بعيدة عندما سافرت من القاهرة إلي جهينة جنينا ً في رحم ِ أمّي سبعة شهور ونصف)) ص159. و"وهذا قطارٌ عرفتهُ ولا أعي منهُ شيئا ً، لكنْ ما أعنيه ذلكَ الذي اتخذتهُ أمّي بصحبة أبي، من مصرَ إلي طهطا، وهيّ حاملٌ بي، قاصدة ًجهينة لترعاها جدتي عندَ مجيء المخاض" ص215. و"رُبما أكونُ سافرتُ نطفة بينَ ثنايا أبي ومسعاه، أو بويضة تنتظر علي وسائد رحم ِ أمّي، بالتاكيد رحلتُ جنينا ً فيه وبهِ" ص20. وكأننا بالكاتب، ومنذ طفولته، يحلمُ أن يعيشَ الحياة شعريا ًlife poetically فتعلقهُ بالقطار، وفرحهُ بالرحيل.. وأشجانه لازمة من لوازم هذا الحلم.. والحبّ الغامر الصادق..!! " دنا فتدلي ".. بوحٌ شعريّ والقاريء يجدُ نفسه منجذبا ً، أسير سحر هذا النزيف، وهو نصٌ مركب، يسمحُ لك كاتبه بالاصطياف في ربوعه، وهوَ يداهمُ مخيلتك دونَ أنْ يربكك، ويتماهي مع ضربات القلب دون أن يضعف نبضه، نصٌ متكامل، يميزهُ هذا المزج الفنّي المتقن من ( السيرة الذاتية ) و( الرواية ) و(الشعر) و(اللوحة التشكيلية).. مشاهد يموسقها الإيحاء الصادق !! وقراءة شعرية ، بكلّ ما يصاحب الشعر من طقوس، تتضحُ في الكتاب كلّ هذهِ الظواهر الفنّية بسهولة، لأنّ الكاتب ينزفُ ببساطة محببة، معطيا ً الأفكار والكلمات معا ً حرية المبادرة، مبتعدا عن المراوغة، والخدع، والتكلف، والمشاهد السينمائية الباهتة، لأنهُ يكتبُ حلمه- صلاة الجسد، ويُؤرّخ لجرحهِ هوَ، والجرحُ غائرٌ، يحكي بلغة نزيف لا يهدأ، وهذهِ اللغة حميمية دافئة، ليست مثقلة بالزخارف، ولا تركن للبلاغة الخاوية، بلْ عميقة.. موجعة.. هادفة، وذلك هوَ مصدر الجذب والدهشة في نصّ الغيطاني!! "دنا فتدلّي".. نصٌ مركب text composit مزيج فنونٍ راق ٍ فمن ( السيرة الذاتية) مشاهد حياتية مهمة، بمثابةِ أناشيد الروح ِ الجريحة ِ.. المهمومة خلاصة كيمياء الهمّ والظمأ، اللذين ارتبطا بها كالهواء، ورائحة الرغيف، ونسمات العشق، فكانت أناشيد ملائكية صادقة، مؤثرة، شفافة، تجرحُ أكثر مما تحكّ علي الجرح، تؤرّخ ولا تكتفي بتلاوة آيات عذابها، تفيضُ بتلقائية وعفوية نهر ٍ فتي، توجعُ بتفاصيلها وأشجانها وأحزانها العميقة، لا تملك إلا أن تهيّأ لها بساط الروح، وحرير الجسد ِ، وعشب الذاكرة لتعيشها مثقلا ً.. معذبا ً.. ومفكرا ً بآلامها وجراحاتها التي لا تندمل..، هي سيرة الجسد السجين الظاميء، والذات الصادقة الجريحة :( لا بدّ لكلّ امريءٍ من مبتدا ومنتهي، حتّي إنْ تلاشي في الواقعِ الخارجي، فإنه يظلُ ماثلا ًعندهُ قائما ً بهِ ) ص19. ليسَت سيرة ( قطار) متعثر، مثقل، مهموم، ولا هيَ حالة ضجر قاتلة ل(محطة) باردة، رطبة، مظلمة، ولا هيَ حركات عقارب مضطربة ل( الساعة الثامنة)، إنما هي بوح الروح التائقة للحرية، للأمان، لعناق الهواء الذي لم تلوثهً أصداء التحيات الزائفة،..وللرقص مع قطرات مطرمفاجيء، أو التأرجح بضفائر الشمس قبل الغروب،.. ليصيرَ للرحيل ِمعني الولادة، وصفير القطار هو زغرودة الفرح بهذه الولادة، مهما كانت صعبة ً وعسيرة..هي البوح بلغةٍ تبدو بلا كلمات، يلون كلّ الأشياء ليصير لها معنيً أعمق وأكبر، بما فيها ( الرصيف) الذي لمْ يعُدْ لهُ ( بداية ونهاية) إنما (سكينة ومعني بلوغ)-ص29. وفيها من ( الرواية) هذا (الاستجواب التأملي) أوْ(التأمل الاستجوابي)- كما يعبّر ميلان كونديرا في تعريفه للرواية..، وبراعة التكنيك، وهوَ الأهم كما يري صنع الله إبراهيم، واللغة الشفافة النابضة بالشجن، والزمان والمكان المتبادلان.. والمتداخلان بتفاهم حميمي، ونظام ودقة مدهشين، وجرأة الرواي حتّي الوضوح والتعرية.. وذاكرته الصافية التي التقطت وخزنت أدّق التفاصيل الحياتية، بمهارة عالية..كذلك المقدرة الفائقة في معالجة الحدث، بما يمتع القاريء، ليكون جزءا ً منه مشاركا فيه، وهوَ يربض في إيقاعه حتّي آخر خيطٍ نحيل ٍ من خيوط الذاكرة !! قطار، محطة، رصيف، أمكنة روائية مشحونة بالدلالات والمفارقات، .. الساعة الثامنة، السابعة والنصف، الثانية عشرة والنصف، الواحدة أزمنة حرجة.. موقوتة علي نبض قلب نحيل..، "عبد المقصود"، "زكية"، "الأستاذ عدلي"، "مصطفي أفندي"، "إيزيس"، شخصيات روائية فاعلة ومهمة في زمن ٍ طاريء، فرح، دموع، حنين، وأحزان، وهموم، وعلاقات وقتية سريعة، في لحظات حرجة وعابرة، وكلّ ما يرتّب فصول العمل الروائي والقصّصي، وسط كلّ هذا يجدُ القاريء نفسه في متعة التناول الجاد.. والمعالجة الباهرة، ترتفعُ بها اللغة الشعرية مصدر الجذب والتواصل مع العمل الروائي: (سري الدفءُ عبرَ أوصالي وتجاوزني إليها، تلاطمنا، ولحظة نطقها محذرة أنْ يرانا أحد، كانت تخمشُ جلد صدري، ركزنا فأوجزنا، وبلغنا ما نقطعه ُ في أيام خلال لُحيظات زاعقة، فائضة عن الحاجة، نازة بالرغبة في الاتحاد بين اثنين من النوع الإنسانيّ، لمْ يعرفْ أيّ منهما الآخر قبل الانفراد وتفجّر السعي والتوق المُهلك المُؤدي إلي الاحتراق حتّي الترمد والخمود..)-ص83. .ومنَ "الشعر": (الصنعة ُوالعشق ).. وذلك الجسر المُوصل بينَ (اللامرئيّ والمرئي بينَ الفكرةِ والشيء ) بتعبير أوكتافيو باث..، ثمّ ذلكَ الخيال الراقي، واللغة الدافئةwarm language..، وتلكَ الحروف الفسفورية الموحية التي تجعلك أمام قصيدةٍ مشرعة الأبواب والنوافذ، قافيتها فتافيت الجسد العاشق، ووزنها وإيقاعها نبض القلب، تجعلكَ تعيش الحدث والفكرة شعريا ً، فتنقاد إليه حتّي آخر حرفٍ جارح ٍ، ومُقلق ٍ فيه : (إليه التوق، والرغبة ُ في الإدراك، وطرح التساؤلات وتعدّد الإحاطات، والحيرة، لذلكَ كانت الدمدمة والإضافات الموقدة، المُؤجّجة، المُفضية إلي توثبات شتّي، مُستدلا ًبالإشارات اللواحة علي ما كانَ، وما يُمكنُ أنْ يكون..)-ص10. وقراءةٍ حالمةٍ للرواية تجدُ نفسك أمام لوحاتٍ تشكيلية، صنعتها أصابع الكاتب الفنّان الحالم، متناسقة الخطوط والألوان، مدهشة الفكر، سهل التنقل من لوحة إلي لوحة، مصحوب بمتعة بلا حدود، تحرسك جنود الدهشة بلا ملل، فتثني علي هذهِ الأصابع التي رسمت الأفكار..ورتبت المواقف..وخلدت حركة الناس ( الأبطال ) الصباحية، وضبطت الواعيد بتوقيت القلب، بكلماتٍ منغمة.. وملونة تفيض برائحة الأرض، والمطر، وندي صباحات النيل، وأغاني إنسانه البسيط المشتعل جنونا ً بالحياة..!! في "دنا وتدلّي حزنُ لا مثيلَ له!! وحنين جارفٌ لكلّ ما يجدّد نبض القلب،.. وعلاقات متعددة، عدد الهموم والناس والأحلام، فيها الحميمي المنقوش في الذاكرة، الذائب بماء الجسد، وفيها الطاريء الغامض الموحي بالحزن والخوف معا ً..، وأزمنة متداخلة، فيها الشعري.. والخانق.. والذهبي ّ.. والقاتم، .. أزمنة بلا بوصلة، تبدا من توق الجنين للرحيل، وحتّي آخر محطة باردة..، وأماكن كثيرة بلا اتجاهات.. ولا خرائط، تبدا من الولادة وحتّي سقوط آخر دمعة حنين حجرية.. !! في " دنا فتدلّي".. ولادة ، وموت، وحبّ، وحلم، وتمن ٍ،.. تقابلها تعرية، وفحش، وخجل، جدية، وسخرية، ضحك وبكاء..، كلّ هذا المزيج الرائع يجعلك أمام نصٍ ٍ مفتوح..راق ٍ فيه من الدفء والشاعرية واللون والإيقاع الكثير..، وفيه من رؤي وأحلام الكاتب والروائي الكبير- جمال الغيطاني ما يستحق الانتظار.. والقراءة.. والمزيد من التأمل !! دفاتر التدوين " دنا فتدلي " رواية- جمال الغيطاني مركز الحضارة العربية . فصل من كتاب نقدي، قيد النشر، بعنوان "الحالمون".