طَلب مني الكهربائي أن أمر عليه بعد حوالي الربع ساعة لكي يأتي معي لإعَادة تصليح الكهرباء وتوصيلها، لم أجد مفراً من الرضوخ إلي طلبه.ذهبت إلي أول نَاصية الشارع وجلست علي مقهي يطل مُبَاشرة علي قلب ميدان الجيزة. فضلت الجلوس في الخَارج فلم أجد سوي كرسي واحد خال بجوار رجل أصفر الشعر أبيض البشرة. سألته إذا كان هناك أحد يجلس بجواره فهز رأسه نفياً. وضعت الحقيبة علي الأرضِ وجلست بجواره، بعد لحظات أتي عَامل المقهي يرتدي قميصاً أبيض مَكتوبا عليه بخياطة حمراء "مقهي مرعي" وضع كوب شاي أمام الرجل ذي الشعر الأصفر والذي تبينت من وجهه عدداً من البثور ذات اللون البرتقالي ربما تكون من تأثير المشي في الشمس. نزلت الشيشة بجوارنا فأخذ مبسمها ووضعه في شفتيه، طلبت من عامل المقهي الثاني واحد شاي سكر زيادة وأخذت أتأمل الرجل الجالس بجواري بحذائه الكوتش الرخيص وبنطاله القماشي ذي اللون الأخضر القميء. وضع القهوجي أمامي كوب الشاي وكوب آخر يحتوي علي مياه تكثفت قطرات من المياه علي جدرانها من الخارج. ذهب القهوجي فأخذت أفكر في اسم مرعي وكان أول ما خطر علي بالي فوراً اسم مرعي بتاع الكليمه تلك الشخصية الغامضة التي خلقها أحمد آدم أو القرموطي وتقريباً لم يرها أي من المشاهدين. فكرت في شخصيات أخري غامضة سمعنا عنها ولم نتأكد من وجودها فوجدت القائمة تطول لكن بشكل لا ارادي وجدتني أفكر في شخصيات كافكا المدفوعة باستمرار من قبل قوي أو أشخاص غامضين نحو تحقيق مصيرها الموسوم بالبؤس والتدمير الذاتي نفسياً وبيولوجياً. أشعلت سيجارة وسرحت في الميدان متذكراً تفاصيل أعمال كافكا كأحلام جميلة وبعيدة مستعيداً ذلك الشغف وتلك النشوة القديمة التي كانت تصاحب قراءتها. مأساة حقيقة أن تصل لمرحلة لا تستمتع فيها بقراءة أعمال كافكا، بل فقط تظل مخلصاً لحنين اللحظات القديمة الجميلة التي صاحبت قرائتها. إنها النوستولجيا يا عزيزي مرعي.أيه...ما العمل؟ نعم الأمر صعب، لكنها الحياة من قال أنها زحليقة. مددت قدمي وأخذت نفساً من السيجارة كنت الآن مستكنيس وآخر عظمة وأبهة أحس بالحكمة تسري بين أطرافي فتركت عيني تتابع العجائز والرجال العابرين في الميدان بحركتهم البطيئة المتخبطة في الزحام مثل سلاحف تحاول الهرب. أعني حاول أن تقف في أي جزء في القاهرة وستجد أن البشر يتحولون يوماً بعد يوم إلي سلاحف، جلدهم يزداد سمكاً حركتهم تصير أبطأ لكنهم يزدادون عددا فيصبحون مثل مجموعة من السلاحف تحاول الفرار من قفص ضيق يحترق فيجرون ببطء فوق بعضهم البعض. حتي النساء أصبحن يشبهن السلاحف البحرية الأكثر انسايبة، أما الشابات منهن فلديهن فقط جلد كالسلاحف الوليدة أكثر بياضاً ونضاره لكن حركتهن أبطأ مقيدات بالحجاب أو بالأصباغ الملونة. مأساة حقيقة أن تعيش في قفص يمتلأ بالسلاحف. وضع الرجل ذو النمش والبنطال الأخضر القميء مبسم الشيشة علي الطاولة الصاج الصغيرة، وقام وانصرف دون أن ينظر خلفه. كان القميص ملتصقاً بظهره بفعل العرق و أردافه من البنطال تتحرك ببطء تماماً مثل السلحفاة. رميت السيجارة وطلبت الحساب فأتي نفس الرجل ذي القميص الأبيض بخياطة كلمة مرعي، نظر إلي وقال: - ثلاثة جنيه. أخرجت الفلوس من جيبي لكني أوقفت يدي بعد أن أخرجتها وقلت له: - أنا واخد واحد شاي رد في تلقائية وهو يشير بيده المبتلة في اتجاه الكرسي المجاور لي والخالي: - طيب والأستاذ اللي كان معاك.