علي رؤوس النخيل وبين الأكواخ المظلمة المتداعية وعلي شواطئ الترع والغدران وفي الوديان وفوق رمال الصحراء يسعي ميكروب الكوليرا في قرية القرين ويجر في انيابه الموت أينما ذهب ..ان معركة الموت والحياة علي اشدها في القرين .. ينشر الوباء دخانه القائم الخانق علي القرية الصغيرة لتنهض الحياة لتبدد بسماتها المشرقة هذا الدخان وتظل تقاومه وتقاومه .. وقد تختفي الابتسامة المشرقة احيانا وتحل محلها الدموع ومع ذلك فان الحياة لا تستسلم أبدا ولا تزال تثبت في القرين انها الأقوي .. جزء كبير من سكان القرين من غير اهلها .. معسكر التل الكبير يقع علي حدودها وقد نزح اليه عمال كثيرون من كل أنحاء القطر ليعملوا فيه واستقر جمهور كبير من هؤلاء في القرين واصبحت هذه القرية التي كان تعدادها 15 الف نسمة تضم 25 الف دون ان يزيد علي مبانيها بيت واحد .. وربما كان اهل القرين دون غيرهم من سكان قري مصر قد أخذوا بنظام البنسيونات .. فكل فلاح كان له بيت وكل بيت كان صاحبه يوفر من حجراته حجرة او حجرتين يؤجرها لغريب من العمال الذين يعملون في القرين .. وحين تفشي وباء الكوليرا انتشر بادئ الامر بين عمال الجيش الغرباء وكان الفلاحون من اصحاب البيوت يخافون التبليغ عن الإصابات خيفة ان يعزلوا هم الآخرون .. ويموت "الغريب" وليس هناك من يسال عنه .. ويحمله اهل البيت الي الجبل فيدفنونه ويعودون فإذا سئلوا عنه في الغد قالوا : لقد فر من القرين .. متي ؟ .. قبل الوباء .. وحدث ان فاحت من الجبل روائح خبيثة وذهب بعض المستطلعين وعادوا يقولون ان هناك جثثا .. ويظهر ان الذين قاموا بدفنها كانوا في عجلة من أمرهم فدفنوها علي بعد قريب من سطح الارض .. وأعلن عمدة القرية .. وفي القرين اكثر من عمدة .. انهم يتبرعون لإقامة مقابر للغرباء وحدهم .. هؤلاء الذين لا اهل لهم ولا أحباب يبكون عليهم ويحزنون لاجلهم .. وفي اليوم التالي بدأت اجراءات الحفر والبناء .. وخرج عدد كبير من اصحاب القرين يساهمون في بناء المقابر للغرباء وكان بين العاملين رجل اسمه رفاعي فقد اباه وزوجته وابنا له صغيرا .. افترسهم جميعا ميكروب الكوليرا وبقي رفاعي علي قيد الحياة .. ولقد حفر بنفسه ثلاث مقابر لأبيه وزوجته وابنه .. ومع ذلك فإن هذا لم يمنعه من الاشتراك في حفر المقابر .. للغرباء .. ولقد ظهر نوع من الفتيات في القرين .. نوع الحزينات بلا سبب .. او هكذا يري اهلهن .. ولقد كان وجودهن ضرورة لوجود الغرباء .. الغرباء من العمال الشبان رواد السينما وسكان المدن .. وحين هبطوا علي القرين لم يكن هناك مفر من حدوث قصص غرام بينهم وبين عذاري القرين الجميلات .. وبعض هذه القصص انتهي بالزواج بين عذاري القرية والغرباء .. وبعضها لم يتسع له الوقت .. وأقبل الوباء وماتت أغاني الغرام فوق الشفاه . ويقبل احد الآباء علي بيته في الليل وتقابله ابنته الشابة تسأله : اين كان ؟ .. ولماذا تأخر وطرق القرية كلها مفاجآت ؟ .. ويجيب الاب المتعب : كنا نشترك في دفن "غريب" .. وتسأله ابنته : من هو ؟ .. فيقول لها اسمه .. ثم ينسي ان يلاحظ ابنته وهي تهرب لتخفي الدموع فجأة من عينيها .. وكل يوم يموت غرباء .. وكل يوم تسيل دموع .. ومستشفي القرين الذي شهد احتدام الصراع ما يزال يشرق بابتسامات مرحة عالية .. ان هذا المستشفي ملئ بشخصيات تستحق الخلود .. هناك طبيب المستشفي الشاب يخرج من خيام المرض فيطلب من احدي الممرضات ان تربط له يديه حتي لا يصافح أحدا .. ويقابلك وهو يضحك ويمد يديه المربوطتين ويقول : لا فائدة غير هذا .. قد أنسي واسلم علي احد .. والله وحده يعلم ماذا في يدي .. ثم ترتفع ضحكته مرة اخري ويقول : كوليرا .. ثم تلمح سربا من الفتيات الصغيرات المجاهدات .. إنهن الممرضات اللواتي يكافحن الوباء يدا بيد .. تخرج إحداهن من خيام المرض فتجد جنازة امرأة تخرج من المستشفي .. امرأة كانت تعني بها بالأمس وتذرف دمعة من عينيها .. ثم تسمع مريضا يستدعيها فتجفف دموعها وتضع علي وجهها ابتسامة ثم تعود الي الخيمة . وكان الوباء علي اشده في منطقة "الجرن" وابلغت إصابة جديدة لسيدة في الخمسين من عمرها .. وطارت الي بيتها سيارة المستشفي وسيارة التبخير وحملت السيدة علي النقالة وقفل موكب المستشفي في طريقه عائدا اليه .. تلاحقه صرخات من اقارب المريضة .. وتلاشت الصرخات .. وكان الموكب يجتاز اخر حدود "الجرن" ليدخل في الطريق العام الي المستشفي ووقف طفل صغير في السابعة او الثامنة من عمره علي باب احد المنازل وتابع بلا مبالاة موكب المريض يمر أمامه .. ثم استدار لينزل درجة السلم وهو يغني : حمودة ياني .. وابتسم الطبيب وابتسمت الممرضة .. ولم يستطع الطفل ان يدرك اي شجاعة كانت تجيش في صدره ... ولقد كان الهاربون جميعا من الغرباء .. ان العمال الذين وفدوا للعمل في الجيش لم يستطيعوا الصمود لمأساة القرين .. فهرب منهم من استطاع الي الهروب سبيلا وبقي منهم من لم يستطع الهروب لسبب او لآخر وهؤلاء هم يمثلون جانب الخوف في القرين .. اما اهل القرين الأصليون فما اروع المثل الذي يضربونه للشجاعة والإيمان .. انك تقابل بعضهم فلا تكاد تحس انك تعيش في قرية الموت .. انهم جميعا يعرفون الخطر المحدق بهم فقد قابلوه يفتك بأهلهم وأصدقائهم ومع ذلك فالإيمان العجيب بالقدر لا يفارقهم .. وبعض نواحي الحياة هي .. هي لم تتغير .. اللحم المعلق في الاسواق للتراب وللهواء .. والخضر معروضة لمن يشتري .. والبلح من كل الألوان والأنواع .. والحركة دائبة ولكنها خالية من الصخب المعتاد . وحين تمر أمامهم مواكب المرض او مواكب الموت تلمح في عيونهم للحظة خاطفة نظرة خوف .. ثم يستعيد الايمان مكانه وتنتصر الحياة .. ومصر كلها تلح في طلب اللقاح .. والقرين ميدان الخطر ومصدر الوباء لم يلقح الا ثلثها ومدنه ذلك فلا تكاد تسمع شكوي .. وحين يظهر الوباء في أحد المنازل ينقل سكانه الي المعزل ويقفل البيت وترسم علي بابه دائرة داخلها نقطة ومعني هذه النقطة ان المنزل موبوء .. وكثيرا ما استيقظ رب اسرة في القرين ليجد منزل جيرانه وقد رسمت عليه الدائرة في وسطها نقطة .. لقد حدث كل شئ اثناء الليل .. زحفت الكوليرا .. وحمل المصاب ونقل اهل البيت وترك الميكروب علامته المخيفة علي الدار .. وانتهي كل شي .. والعجيب ان هذا لا يحدث ذعرا ولا يسبب رعبا ..كان بيومي عامل تبخير .. ونأت ذات ليلة منذ اسبوع واستيقظ في الليل علي أعراض الكوليرا فنقل الي المستشفي ونقلت عائلته الي المعزل .. وجاء اخوه في الصباح يعرف ما حدث حين رأي الدائرة ذات النقطة المستديرة مرسومة علي الباب .. وذهب الي المستشفي ليشيع جناز اخيه .. وفي المساء كان قد أخذ مكانه في حمل عدة التبخير والطواف بها علي المنازل النوبية . وربما لم يكن الوباء اشد ما يقاسيه اهل القرين .. الفلاحون منهم انقطعوا عن حقولهم وقلعوا داخل القرية وهم يعلمون ان بعض العرب "البدو" يغيرون عليها ويسرقون ما فيها .. والعمال يعلمون ان بينهم وبين العمل في الجيش اسلاكا شائكة وألغاما تفجر الارض تحت أقدامهم نارا ودما .. كل هذا والقرية محاصرة .. لا دخول ولا خروج .. وكل ما تقدمه الحكومة من معونة هو عشرة قروش لكل رب عائلة يتقدم الي طلبها .. ثم هو لا يستطيع بعد ذلك ان يشتري بها شيئا .. ولقد كان بعض اهل القرين يكسبون في الزمن السعيد الماضي خمسين جنيها في الليلة احيانا . ولا تخلو القرين بعد ذلك من فلاسفة لا يشعرون بالكوليرا ولا بالوباء وتبتسم ابتسامة مرة وأنت تسمع ان احد مدرسي الإلزامية قد حبس نفسه في بيته أياما ليفكر في مشكلة هامة هي اسم القرين ومن اين جاء ؟.. ثم يخرج الرجل من عزلته ليعلن للملأ اكتشافه .. القرين .. لقد اطلق هذا الاسم علي القرية السلطان قايتناي.. وكان السلطان قد زارها ليصلي في مسجدها الذي أنشئ في عهده ولاحظ وهو يدخلها ان أمامها نخلتين متعانقتين بالخلاف كالمقص المفتوح وقال السلطان : انهما مثل القرنين .. ومع الزمن تحول اسم القرنين علي الألسنة الي القرين .. وتقابل الشيخ حيثما تقابله فيفاجئك : هل عرفت من اين جاء اسم القرين ؟.. ومهما كان ردك نفيا او إيجابا فإنه لن بتركك حتي يروي لك قصة اكتشافه لاصل اسم القرين. آخر ساعة 1947