سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالتزامن مع إجازة البنوك وبداية موسم الحج    مصرع أكثر من 29 شخصا وفقد 60 آخرين في فيضانات البرازيل (فيديو)    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلًا شمال رفح الفلسطينية إلى 6 شهداء    تركيا تعلق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل    الخضري: البنك الأهلي لم يتعرض للظلم أمام الزمالك.. وإمام عاشور صنع الفارق مع الأهلي    جمال علام: "مفيش أي مشاكل بين حسام حسن وأي لاعب في المنتخب"    "منافسات أوروبية ودوري مصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    10 أيام في العناية.. وفاة عروس "حادث يوم الزفاف" بكفر الشيخ    كاتبة: تعامل المصريين مع الوباء خالف الواقع.. ورواية "أولاد الناس" تنبأت به    اليونسكو تمنح الصحفيين الفلسطينيين في غزة جائزة حرية الصحافة لعام 2024    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    هل يجوز الظهور بدون حجاب أمام زوج الأخت كونه من المحارم؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    العثور على جثة سيدة مسنة بأرض زراعية في الفيوم    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    أيمن سلامة ل«الشاهد»: القصف في يونيو 1967 دمر واجهات المستشفى القبطي    بركات ينتقد تصرفات لاعب الإسماعيلي والبنك الأهلي    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    مصطفى شوبير يتلقى عرضًا مغريًا من الدوري السعودي.. محمد عبدالمنصف يكشف التفاصيل    سر جملة مستفزة أشعلت الخلاف بين صلاح وكلوب.. 15 دقيقة غضب في مباراة ليفربول    الإفتاء: لا يجوز تطبب غير الطبيب وتصدرِه لعلاج الناس    محمد هاني الناظر: «شُفت أبويا في المنام وقال لي أنا في مكان كويس»    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    برلماني: إطلاق اسم السيسي على أحد مدن سيناء رسالة تؤكد أهمية البقعة الغالية    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    رسميًّا.. موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    ملف رياضة مصراوي.. هدف زيزو.. هزيمة الأهلي.. ومقاضاة مرتضى منصور    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    السفير سامح أبو العينين مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأمريكية    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    أول ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    الغانم : البيان المصري الكويتي المشترك وضع أسسا للتعاون المستقبلي بين البلدين    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    خالد منتصر منتقدًا حسام موافي بسبب مشهد تقبيل الأيادي: الوسط الطبي في حالة صدمة    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصتان
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 02 - 2016


اللاعب
تتابع: قلوب، مربعات، أشكال وأرقام... تتالي، ثم مشهد الحسناء في كساء أشبه ما يكون بغلمان رشيدية، ألف ليلة بغدادية، إلا أنه يأخذ من سربلة يونانية رومانية تبين عن اكتناز ساق بمحزم تحت الركبة، وقفة عرض واستعراض لا تخفي لكنها ليست إغرائية، بمقياس اليوم علي الأقل؛ الحسناء هذه في موقع تحته قلوب ومربعات مرقمة كأنها حافات انحدار، وفوقه أخري كأنها بدايات ارتقاء إلي حيث الفارس شاكي السلاح أو أشبه بذلك، يترنح تحته جواد أصيل تجمح به رغبة وتلجمه أخري ... لتبقي الذروة فوق ذلك كله، قمة المنتهي، هيلمان الجاه، طيلسان المجد وهام الأبهة، تتماوج في اتجاهاته المتوازية المتقاطعة في انتظام، وديانُ المذهب ودوائر المقصب منسابة نحو الأسفل تمسح زركشة أذيالها برفق صقيل مرمر، كما تلمس بلطفها أكف العاشقين خدود الحسان.
تتابع الأوراق مربعات بالخمسة والستة والآس، زهرة شبه كاس مرة، وعمود صنو صولجان مرة أخري، لتطل راية الفارس الأزرق، يسبح كله في سماوي غامق منفتح الزرقة، ليت ما بعده يأتي بإطلالة صاحب الهيلمان، ليتها تطل هامة الرّاي، إذن ليكتملُ أو يكاد المراد.
ليت ليت ليت... فالفارس عاطل بلا هامة مجد فوق المقام تمنحه القيمة والمعني، كما هي الحسناء بدورها المطل قبل ذلك ودونه مجلبة فرسان، مقام لمقام دونه مقام فوقه مقام، بناء عمود انتظام لا هرمي، ليت ليت ليت... ويخلف موعده الرّاي، يطل سن الآس. الآس أساس. يطل هذه المرة جد مشرق يعوم في ضيائه الذهبي، دائرة دينارية (دولارية لو أمكن بمقياسنا اليوم أو أوروية)؛ تكتمل الأوراق متراصة منشة في اليد، جملتها في العد والحساب تحددها حركة السوق، يمكن ويمكن... السوق لا يرحم، منطق نعم أو لا، تشتري أو تبيع، تربح أو تخسر، لا مجال لربحين معاً في آن واحد، لا خسارة لمتنافسين اثنين في آن واحد، وحده سيد نفسه منطق السوق والتنافس.
تتابع الأوراق، قلوب مربعات أرقام في مشهد لوني يتغير باستمرار، كلها ليست إلا تأثيثاً لما يمكن أن يأتي أو يجب... ليت ليت ليت... ليكتمل أو يكاد المراد، التأثيث ليس نافلا بإطلاق، ولا مركزياً بإطلاق، إنما ضروري بإطلاق؛ لا بد من فراغ لامتلاء ولامتلاء من فراغ، كل يأخذ المعني مما... ومما... لكنها تخلف الحسناء، ويبرز بدونها الفارس هذه المرة كالمهتاج أو هو المهتاج فعلا، ولسبب لا يخفي: ما القيمة ولا الوضع في مقام بلا حسان، هي الضرورة إذن تدفع في غير ميعاد والجندي دائماً صنو الضرورة ليحتل وظيفة الإمكان. أينتظر ظهور حسناء نؤوم الضحي، ويخل بالدور والوظيفة حين يفاجئ الهيلمان في أية لحظة، ماذا لو يسبق بحضوره الرّاي؟ أتقول حينئذ إنها تلك التي... هي التي... إنما... لكن... عندما...؟ علي من تقرأ زبورك يا داوود؟ المسألة ليست في قوة الضرورة رغم قوتها فعلا، الجوهر في المعني، الفارس بلا حسناء نقصان مشين مؤكد، لمن أنت فارس بلا تلميحة نظرة سحر، أو بسمة ثغر، أو ندي زغرودة؟ لمن أنت فارس بلا دغدغة غيرة وبركان انتظار مكتوم مكظوم؟ والفارس بلا راي لا معني له، لا داعي من الأصل كله، ولا ... لا... لمن تكون أنت إذن شاكي السلاح بلا رفراف علم يزدهي وتحيي؟ لمن قامة تنتصب علي صهوة أصيل تختال قوائمه بك، تجمح به رغبة تلجمه أخري، إن لم يكن ثم عليّ مقام يشرف أو راقي نظرة تراقب؟ لمن الزرد والخوذ وسربلة الفولاذ بلا حرب ولا معركة في حاضر أو خاطر؟ ... تلك هي المسألة.
تتابع الأوراق، قلوب مربعات أرقام تأثيثية، سلم ارتقاء، درجات انحدار إلي... وإلي... تكتمل الأوراق منشة في يد دون أن يكتمل المراد هنا، بالمقابل في اليد الأخري منشة موازية ولا يكتمل المراد هناك، إنما السوق مفتوح والرواج صنعة ومناورات إيهام وتوهيم، منشتان متقابلتان، خصمان كل يرنو إلي الربح من جانبه وحده ولا يمكن ... كل يجفو الخسارة راغباً عنها من جانبه وحده ولا يمكن، لا بد مما ليس منه بد، ومنطق السوق منطق وسوق لا بد فيه من رابح من جهة، وخاسر من جهة أخري؛ منشتان أيتهما هذه وأيتهما تلك؟ أيهما أنا أيهما هو (أنت)؟
تبدو المنشتان كالمتعادلتين وما هما بذلك، فالسوق لم يفتتح بعد، ما يزال في الإمكان خلق المفاجأة من جديد وبصفة كلية، كل منشة ترمي أوراقها واحدة واحدة بالتناوب والتتابع، لتمتح من الرصيد المشترك، هنا يمكن لليمني أن تسحب حظها أو حذقها علي نحو يزري بالقيمة المبدئية المتوهمة لليسري أو العكس؛ تصورْ أن هاته تطلع بالطيلسان الهيلمان يبعث الروح في جسد الفارس المهتاج من سوء حظ وخيبة موعد مع حسناء، ومن سوء طالع يجمده في موقف انتظار غير مؤكد لبهي طلعة الرّاي وهام أبهته، حينئذ ينقلب كل شيء إلي ضده: الربح المتوقع من جهة يؤول إلي خسارة، والخسارة المؤكدة من جهة أخري تحول إلي ربح وغنيمة.
منشتان متقابلتان قابلتان لكل شيء من ربح وخسارة، إنما المؤكد أن إحداهما ستصنع الربح والأخري تتكبد الخسارة، هي بدورها أيضاً تصنع الخسارة؛ إذ كل شيء في السوق صنع يد ذاتي ومسؤولية شخصية؛ أيهما أنا، أيهما هو (أنت)؟ يمين، شمال؟ منشتان أيتهما... وأيتهما؟
الاختيار ليس سهلا، لمن همه أن يربح ويربح فقط، لا أكثر ولا أقل، وهل من آدمي إلا وهو ذلك الشخص، إذن مرة أخري وأخري، أيهما أنا أيهما هو (أنت)؟ يمين منشة أم منشة يسار؟ تراود خاطرة ليست مبتذلة، بل تبدو حكمة لا بأس بها ومن ثرات مجيد: تلتزم في مسيرك بأن تؤشر إلي اليسار لتنحرف يمينا، هكذا بلا شك تتجنب كامن كمائن، وتصنعها استباق مناورة لصالحك، نظير أخري متوقعة ضدك، تزرع واقعاً في رحم غيب: تؤشر في اتجاه منحرف إلي ضده، الآخر الخصم العدو الناكر المتربص من وراء أو أمام، ترتبك خيوطه يفقد التوازن؛ وأكثر من ذلك عندما يكون متنكراً غير مفصح، لا من خلف ولا من أمام، يرتبك من ذاته، يعتريه ارتعاش باطن وظاهر، حينئذ يكون لك أن تتجاهل انكشافه وتمضي فيما أنت فيه.
أيهما إذن... وأيهما؟ يمين يسار؟ انحرفْ وأشّرْ. يسار يمين؟ أشّرْ وانحرفْ. هذه أنا، هذه هو (أنت). انتهت مرحلة، وهات ما عندنا معاً: ترتمي ورقة تأثيث هدامة لبناء المقابل، ترتمي عليها استجابة توحي بأن الإصابة لم تكن في الصميم ولا قريب الهدف، إنما مست عتبة الحماية، نالت سطحياً من قشرة الجدار أو كادت، جدار الحماية. والآن، الأمر لي، ليسار يجيد الهدم أو البناء ولا يعرف الوسط، الرمية ناسفة بأقل ما يمكن لما لا حماية له، هكذا يبدو اليمين لا يتقن الحساب، معادلاته من الدرجة الأولي دائما، لا يدخل في اعتباره قوة الخصم الحقيقي، علي الأقل يعتبره علي شيء من غفلة، ليتركه يبني كما يشاء ولو بدون حماية؛ أو هو يجيد الحساب أكثر، معادلاته من الدرجة الأولي دائماً لكنها تحسم النتائج في غير توقع، حمايته توهيم وإيهام، بدون حماية يبني، لكنه يناور بكامل الثقة، يوهم بأنه علي خير ما يرام، فإذا ما أفلتها الخصم الأيسر لحظة، رمية لغير هدف حق كما أريد به؛ إذا به الحظ يتحالف مع اليمين، ليأخذ كامل نفسه بقوة، لا ليعلن تمام بنائه بنجاة من نسْف كان محققاً فحسب، وإنما ليسحبها، لا الورقة الحامية لبنائه الذي أصبح مكسباً مسجلا في رصيده الثابت، وإنما ليرميها مباشرة ناسفة لبناء الخصم تتهاوي لبناته؛ تقول وما دخل الحظ في المعادلة؟ وهل يمكن اعتبار حساب الحظ؟ بمعني أن انتصار يمينك لا دخل فيه لقدرة مميزة في اللعب ولاعبه، وإنما لغيبية دخيلة، لا قبل لقدرة بها ولا ميزة بادعائها، تقول تقول تقول... أقول لك أنت من يسميها حظاً أو يعتبرها كذلك، الغيبية أو ما تسميها كما تريد، هي بدورها حساب يمينك، يحسبها من يسارك ولا يحسبها من ذاته فقط وبالضرورة، أتسمي مناورته الإيهامية بالحماية والأمان ومظاهر الثقة، حيث لا حماية ولا أمن حق، وحيث توقع خسارة مؤكدة؛ لكنها يسارك من يقع في كمين الإيهام ويرمي لهدف مغاير؛ يمكنك أن تستمر كما تشاء في تسمية الأمر حظاً وغيبية، وانصرفْ بما تشاء من قوة تدبير إلي معادلاتك المعقدة الدرجات.
مرة أخري ترمي اليمني ناسفة بناء جديداً، لكن اليسري تتلقي بنجاح تاركة فرصة ممكنة لإتمام بنائها إذا ساعدت الظروف (لا تقول الحظ)... وفعلا تساعد الظروف (لا الحظ طبعاً)، وتعلن اليسري رصيداً ثابتاً مقابلا لمثيل اليمني، وتكون الساحة قد أخليت تماماً إلا من منشتين صافيتين، يمني ويسري أو يسري ويمني، لا فرق (في الترتيب طبعاً) وإلا فهذا يمين وهذا شمال، خصمان منشتان متقابلتان في معركة، المعركة الآن في فصلها الأخير، يمكنك أن تتنبأ بمتن منشته وما تحتوي، ويمكنه مثل ذلك في شأنك ومنشتك. منطق الحساب والسوق هنا في أوج تجلياته، انكشاف متبادل إذا تعادلت الفطنة ما بين يمني ويسري، أو يسري ويمني، انكشاف لا يعني مرة أخري انحسام الأمر ليمين أو شمال، تصورْ طبيعة المعركة هنا، ولتكن الأيسر: أنت تعرف الأيمن في كافة مواقع قوته ونقط ضعفه، وتسدد لكنك لا تستطيع أن تحسم النتيجة لصالحك، أتقول إنه الحظ وتلك الغيبية و ما يرتبط ويختلط و... و... كأنك تعزي النفس مسبقاً؟ دعني أقول لك بصفاء أكثر هذه المرة، ولا تضعني موضع الخصم دائماً، تميمتك هاته التي تسميها غيبية في صف الأيمن، هي بدورها الغيبية الأكبر الأكثر، غيبية الغيبيات، أم الغيبيات إذا شئنا التعبير بما يلائم المقام؛ والأمر كله في تمام واقعيته حساب، بلا أي دخل لدرجة المعادلة، المهم ترتيب العناصر (لا تقويتها بالضرورة) وهندسة المواقع (لا وفرتها بالضرورة)؛ تصورْ بدل الاهتمام بحشد العدة والجهود في تقوية عنصر وموقع، أنك تصرف طاقتك (الفكرية طبعا والعملية بعد ذلك) لهندسة المواقع ووضع العنصر المناسب في مكانه المناسب، أي أنك تصنع من
الضعف قوة، وهو السر فيما يجعلك تري الخصم متمايلا من ضعفه، لكنه ما يلبث أن يحسم النتيجة لصالحه، لتقول إنها الغيبية وأنها... لا. إنها الهندسة الهادئة المتروية، والرماية المتناسبة مع الهدف. ألا تقول في حكمة مأثورة أو نصيحة: أشّرْ... وانحرفْ عكس ذلك؟ الآن يمكنك القول بالمنطق نفسه: لا ترم ذبابة بطلقة مدفع، إذ ليس المهم القضاء المحقق علي الذبابة، وإنما الثمن مقابل ذلك، إنه السوق يا صاحبي. هههها أتري كيف انطلقتْ مني الكلمة عفواً وبحميمية تامة؟ قلتُ لك "يا صاحبي" ونحن في موقعين متقابلين بمنشتين كل منهما تنشد كمالها في التهام الأخري، أتستطيع مثل ذلك: أن تنادي يمينك "يا صاحبي" بصميمية وعفوية مقتضيات السوق؟ أشعر أنك لا تستطيع، علي الأقل بالطواعية التي أُظهرها، بل تظهر بتلقائية مني كما تشاهد؛ وهو سر يمينك لا منطقك القاضي بأن الخضم خصم ولن يلتقيا؛ اسمع مني، هذا خلاف الهندسة المدرسية؛ المتقابلان في معركة ليسا خطين متوازيين أبدا، علي افتراض أن المتوازيين لا يلتقيان في عقلية ما، غير ذلك هو الصحيح، المتقابلان في معركة متلاقيان متقاطعان منفصلان متصلان في أكثر من مفصل وزاوية؛ هنا هندسة الترتيب والتنظيم، معادلة العنصر والموقع. الأمر ليس سفسطة أو غيبية لا عقلانية أو... لا. بل الواقع والتاريخ، انظر إلي أكبر معركة عداء حربية بين متقابلين، ماذا تري؟ دمار وقتل وخراب؟ صحيح، لكن الناتج أكثر من ذلك في نظر التاريخ ومنظوره علي المدي البعيد، والتاريخ نظر بعيدا، حينئذ ستجد أن المعارك بين الأعداء والمتعادين، تؤتي خصوبتها فيما بعد، وأكثر من ذلك: كلما كانت الفجوة الحضارية والإثنية والفكرية الإديولوجية أبعد ما تكون بين الفريقين، كلما كانت الخصوبة أوفر وأغني من منظور التاريخ، ذلك المدي البعيد. ألا ترمي الآن؟
ينظر إلي يديه الاثنتين عاكساً منشتيهما بحيث لا تقابله واجهاتهما المفصحتان الملونتان، وإنما ظهرا كفيه، لتظلا محافظتين علي سريتهما التامة، في موقعهما التليد يمين وشمال. يحرك ظهري المنشتين كأنه يوازن بين ثقل هذه وتلك، مقارناً بين قيمة تلك وهذه، بمنطق السوق. ألا تعرف محتوي هذه؟ ربما، تقريباً؛ ألا تعرف قيمة الأخري؟ نعم، ربما إلي حد ما؟ أي سر إذن يبقي لهذه أو لتلك؟
لا يجيب. ألا ترمي؟ حتماً سيرمي أو ترمي أنت؟ المسألة قانون ومنطق وليست تخميناً ولا تطوعاً أو تبرعاً، سيرمي يُمني أو يُسري، يمني ويسري معاً. لم لا؟ أليس هو الأنا والأنت، لم لا؟ فعلا لا يرمي من منشة اليمين ولا من منشة الشمال، يرمي الكل، يخلط الأوراق جميعاً، لم لا؟
ينظر حواليه: كراس فارغة، طاولات مهجورة ما تزال، ينظر إلي ساعته، ما تزال مسمرة علي الساعة نفسها من ساعات أمس أو قبله. ينظر إلي الأوراق أمامه مولية إياه ظهرها محتفظة بسر القيمة والرسم لنوعية اللعبة واللاعبين، من يجهل ومن يعلم؟ خلطة يمين وشمال، ربما تسعف في ترتيبها وبناء معناها غيبية حظ أو...؟ تقول غيبية مرة أخري؟
ينظر إلي ساعة معصمه المصرة علي ساعة خلت من زمن أمس أو ما قبله. كراس فارغة ما تزال، وطاولات في انتظار ما تزال...
يترك المكان.
عرس الديب
لعب في الأرض والسماء، فرحة ألوان تزهو في الأرجاء، تمرح قلوب الصغار في هذا التحول الدافئ ما بين متناوب صحو وإمطار، مفاجئ ممتع، يتنزل حبات مائية غليظة غير مؤذية، بقدر ما هي محفزة علي التقافز والتنادي بما له معني وليس له، بقدر ما تتنزل في الآن نفسه تقريباً، أشعة شمس دفيئة، يبدو المزيج بين الحالين كالتناوب القصير الأمد بينهما، مضاعفاً مرح أطفال يبلغ أوجه بالمشهد الأخاذ: ارتسام أقواس بهيجة بألوان متجاورة متلاحمة متداخلة... الأحمر لي... وأنا الأصفر... لا. سبقتك إليه. أنا الأحمر والأصفر... أنا الأبيض البرتقالي... لا أبيض برتقالي، لا أبيض لا أسود، أنا الوردي.. وأنا...
يتقاسم الأطفال ألون السماء مبتهجين بملكية بعضها، مبتئسين بما يمتلكه منها بعض آخر دون بعض لمجرد سبق لسان؛ حتي إن منهم من لا يبقي له ما يختاره، ليطلب الشراكة مع غيره إذا رضي، ويبقي الابتئاس أشد في حنايا الصغار ممن لم يستبقوا ويسبقوا في الاختيار بثمرة اللسان... الأهم الأبهج ليس مجرد ألوان السماء، إنما امتداد هذه الأقواس المرسومة في الفضاء مترامية من أقصاه إلي أقصاه، كثيراً ما يحلم الصغار بقطع مسافة أرضية معادلة لنصف استدارة الأقواس اللونية في السماء، يقتسمونها مسافات أرضية، كما يوزعونها بينهم ملكيات لونية، ليستشعروا العجز عن ذلك، لترتد خيبتهم فرحة عارمة بكل شيء، وامتلاك كل الألوان، منها الممتلك سبقاً بأكثر من لسان، ومنها المبتكر لفظاً والمنكر وجوداً... أنا الأزرق، أنت الأسود والأبيض، أنا الحنائي... أنا الكرموسي... الفقوسي، البطيخي...
تمتزج أصوات، نداءات، أغان، رقصات، فرحة الدنيا في الأرض والسماء، وتنهمر حبات مطر غليظة في صفاء سماء وإشراق، بزهو ألوان قوسية؛ يحتمي الطفلان بجدار يلتحمان بظهريهما إليه، تتنزل الحبات المطرية الغليظة علي البارز من وجه وكيان: أطراف القدمين، أرنبة الأنف، مع مداعبة رشات خفيفة لباقي الوجه؛ الكفان في التحامهما بالجدار، يمتدان من أحدهما في تطلع وفضول ينفسحان لتلقي حبات المطر، كف أولي، صيحة ارتعاب مفتعل مرحة، لحظة التقاء القطرات ببشرة الكف، تمتد كف ثانية، تتلو صيحات مرح غامر، تتشكل لعبة من ملء الكفين بالقطرات المنزلة، أنا أكثر، أنا أكثر، تقرب البنت جمع كفيها المملوءين ماء باتجاه صديقها، ينكر عليها ذلك مبرزاً في الآن نفسه كفيه المليئين بما يراه أكثر... لا. نعم. لا. يرمي الفتي بجمع ما في كفيه علي وجه صديقته، ترد بالمثل بملء كفيها في حالة غضب، تمسح البلل عن وجهها وأطراف شعرها، الفتي مثلها يمسح ما ابتل من ملامحه في حال أقل غضباً، أكثر انشراحاً، تزداد الفتاة غضباً وعبوساً، تبدو منصرفة عن المجال، تقاطع اللعبة أي لعبة، يجدها الفتي فرصة ليسترضيها برشة علي حين غرة من الخلف علي قفاها، تلتفت في غضب أشد، ترميه بجمع كفيها مرات متسارعة تشل بها حركته غير المنتظمة، زادها إغراقه في الضحك ارتخاء وتثاقلا، يستسلم للرش، مظهراً تجلده لما يصيبه من بلل في تحد واحتمال، تتوقف أمام استسلامه مستشعرة متعة انتصار، يظل واقفاً في صمود، قبل أن تكسو ملامحه مسحة غيظ وعبوس، يستدير منصرفاً في هدوء، لتخطو وراءه تواجهه تمسح بطرف كمها بعض ما يبلله، يستعيد أنفاسه المغيظة، تداعبه ابتسامه، ينفض أطرافه مما عليها من بلل، يتبادلان من جديد لعبة الرش بينهما بملء الأكف من قطرات المطر، أنا الأولي... أنا الأول... الأكثر... الأقل... أنا... أنت...
تزهو بألوانها الأقواس في السماء، مثلما تزهو بفرحتها القلوب الصغيرة المتقافزة تحت القطرات المطرية المتراقصة علي أشعة الشمس، يتبادلان البشر، قلبان تشبعا بللا يهفوان إلي التنشف والتدفؤ، يتجهان صوب الأقرب من منزليهما المتجاورين، وحيدان كل في فترة غياب وليّه، يدلفان بخفة، يخطران بهرج في الأرجاء، يتسابقان نحو الحمّام والمناشف، عطلة مدرستها اليوم كمدرسته، فترة غياب والديها اليوم تطول، مثلها يقول فترة غياب والديه تطول، يهدآن وقد تنشفا وتشبّعا ببعض دفء، تعرض عليه بعض الحلوي، يسعي وراءها نحو المطبخ، تلفظ بعض عبارات الحفاوة والضيافة، هكذا تفعل أمها، هكذا يفعلون... يُظهر بعض سمات الضيف المتهيب، هكذا يفعل زوارهم، هكذا يفعلون... تناوله الحلوي، يأخذ مقتصداً، تدعوه للمزيد، صنع الدار هذه، تقول مترددة بعض الشيء، ثم لتفرغ عبارتها باعتداد: إنها صنع يديها، صنعتها بالكامل، وتحذق صنع الكثير من غيرها، بدءاً بالخلط والعجن والدلك ثم الفرن... آه مرة التهب كوعها بطرف معدن الفرن، أغفلت أن تحمي يديها بالقفاز، التهبت وصاحت صيحة... رغم ذلك لم تكترث، وتابعت تحضير الحلوي رغم اعتراض أمها، تضحك ناظرة في كل اتجاه باعتزاز، متمرسة بأشغال المطبخ وغيره، والحلوي ليس مثلها من يتقن ما تستطيع... يقفز في وجهها... كذابة، لا يمكن ولا تعرف، تقسم أنها صنعتها يقسم أنها تكذب، تقسم أنه حمار ولا يفهم، يقسم أنها وأمها وأباها حمير، ترميه بقطعة حلوي يرمي بحلواه علي الأرض... زبل، هذي حلوي هذي؟ يقول ويكرر، يتحول منصرفاً، تتركه، ثم تلحق به عند الباب... عندها حلوي أحسن صنعتها أمها، ينظر إليها ملياً، يحدقان كل في الآخر، يداعب أساريرهما افترار، يعودان، تفتح درجاً تسحب منه علبة حلوي مثلثة الأشكال، هرمية مرصوفة، يتذوقان معاً، معسّلة بنكهة فاكهة، صحيح تجيب، فأمها حاذقة في شؤون المطبخ، تحاول أن تعلمها، لكن بعض أسرار الخلط وتفاصيله ثم... علي كل فالصغيرة لا تتابع أو هي لا تفلح في التعلم، يقول إنه لم يتذوق مثل هذه الحلويات، ولاشك أن بها شيء من صنع يديها؟ تنكر، تؤكد أن أمها هي التي تعرف وتصنع كل شيء... ولكن لابد أن تكوني ساعدت في ذلك؟ بعض الشئ، تقول مترددة كالمرغمة علي الاعتراف، يؤكد أنه لم يتذوق في حياته حلوي بهذا الطعم، حتي في بيتهم... أبداً أبداً ؟ أبداً يجيب، وحتي تلك الحلوي الأولي كانت ألذ مذاقاً... تلك؟ نعم. نعم نعم... يستدرك حكمه السابق
بأنها زبل، لا ألذ منها تلك الأولي أيضاً، يقسم علي ذلك. أحلي ما تذوق في حياته، يستزيد منها عربوناً علي صدقه، يفتر ثغرها عن ابتسامة رضي، يستجيب بافترار ثغر مماثل، يؤكد أنها وأمها حاذقتان فعلا، أمه تحاول أيضاً، لكن حلواهم ليست بهذه النكهة، تقول إن عندهم الكثير من الحلوي، تطلعه علي أشكال أخري، بعضها دائري وآخر هلالي، ينبه إلي أنها لو كانت ملونة بالأصفر والأخضر والأحمر لكانت كقوس السماء الجميل، تؤكد ما يفتنها من دفء القطرات المطرية مع مشهد القوس الملون العظيم، يؤكد فتنته بالمشهد كذلك، يضيف أن كل شيء جميل: الحلوي والمطر الدافئ والقوس الملون... عرس الديب تردد علي سمعه، يتساءل عما يسمع. عرس الديب تؤكد له، يسمونه عرس الديب، هذا التناوب والتداخل، شرقة وبرقة، ما بين صحو وإمطار، يسمي عرس الديب... هكذا يسمونه.
تعجبه العبارة والمعني يكرر مثلها. يكرران في تراقص. عرس الديب. عرس الديب عرس... لم لا يجربان لعبة العرس؟ يصمتان يهدآن معاً في آن. من أين الصوت المقترح المفتتح؟ تقول إنها لعبة بنات جميلة، عرس وعروس تمثلها إحدي البنات مع الأخريات يمثلن الأمهات والعمات إلخ إلخ... في دور وتسلسل؛ بدون عريس؟ حقاً...
تأخذ الفتاة سمت عروس، ترتدي بعض ما تجده مناسباً لعروس، فضفاضاً عريضاً أبيض أو شبه ذلك، تجرجر أذيالها مع منديل مطروز مخرم علي الرأس ينحدر حتي أسفل الذقن، بينما الفتي العريس إلي جانبها، لم يجد شيئاً يغير من حاله إلي هيئة عريس، غير تصنع اختيال في مشية رزانة وانتصاب إلي جانبها، يتقدمان نحو صدر غرفة الاستقبال، يردان تحية الضيوف الحضور، بابتسامة وإيماءة عرفان، يتهادي موكبهما الثنائي متأنياً، تتقدمه ثلة صبيات مثني مثني بالزهور والشموع، يقتنصان عبارات الإعجاب المدوية بجمالهما وانسجامهما وسحر المشهد كله، تعلو الزغاريد والأدعية الصالحة للنجمين القمرين العروسين، ربي يحفظهم من شر حاسد. ربي يسعدهم ويرزقهم الغرس الصالح. الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، يعبق من حولهما، يعم الأرجاء فوح أبخرة وعطور. الكون فرح بهما... يردان علي التحايا بالبشر والإيماء، تصدح لمرآهما الأنغام والتصفيقات، تتقدمهما إلي صدر الغرفة مجموعة صبيات بملامح مزينة وشعور مهدلة يجللهن البياض، يحملن في أيديهن الشموع وباقات الزهور، تحيط بهما عن يمين وشمال بضع نساء مختصات في زينة العرس وشؤون الزفة، علي رأسهن "النكّافة" الكبيرة، تلحظ وتومئ بالإشارة، النسوة المختصات بعضهن يستبقن إلي مجلس العروسين، يرتبن آخر اللمسات ما ليس في حاجة إلي ترتيب، منهن حاملات أذيال فستان العرس المترامي علي خطوات فاتنة العرائس وفارس العرسان، تشير بلطفها النكّافة، تجلسهما جنباً إلي جنب، حيث يجب علي منصة وعرش بارز، تحيط بهما الشموع والزهور، تجلس حول أقدامهما ثلة الصبيات، دمي ملائكية مشرقات زاهيات، يبدأ الاحتفال الكبير، فرقة المزامير والدقة المراكشية، ثم الشيخات المغنيات الراقصات، تطوف كؤوس الشاي والحلويات، مختلف مشروبات، ألوان معاصير ومذاقات، تصدح الأصوات مرددة أغاني شعبية غزلية، تهز شغاف النفوس، تتحرك لإيقاعها الأجساد، راقصة متماسكة متداخلة، قل متبارية في المرح، رجال ونساء، فرادي، مثاني... يرقصون محلقين في أجواء الطرب، يرسمون بتعاريج الحركات إيقاعات اللحن والنغم، مرة بعد أخري يلتفت العريس صوب عروسه المحتشمة، يسر إليها عبارة وله وعشق، يزداد لها خداها المزينان احمراراً، مفترة عن ابتسامة رضي داخلي، أو يعلق علي حركة أو إشارة من الراقصين، يبتسم لها قلباهما معاً في تبادل وتوادد.
مرة بعد أخري، وبتقدير من قبل النكّافة للفترة الزمنية وبإشارتها اللطيفة، يقوم العروسان، تقوم النسوة المختصات بإلباس العروس، يحملن أذيال ما تخطر فيه، متجهات بها إلي غرفة اللباس، حيث يفترق العريس عن عروسه مؤقتاً، وحيث تستريح هي لفترة، يجددن زينتها ويغيرن لباسها بلباس آخر، ليعود فارس العرسان إلي أميرته علي شوق أحر من جمر، يأخذ بيدها باتجاه منصة الجلوس من جديد، هكذا بين كل فترة وأخري، سبعة ألبسة ملائكية أميرية، علي سبع مراحل وفترات من ليلة العروس، كل لباس ينتمي إلي عصر وحضارة، تعدد ألوان وأشكال في كل شيء، والمناولون المبتسمون اللطاف، ما ينفكون يطوفون بطيبات المآكل والمشارب علي الحضور، وحدهما فارس الليلة وأميرتها، لا يتذوقان شيئاً من تلك الطيبات، فهما ما عدا توزيع الابتسامات، وتبادل عبارات سرية بينهما، يتحليان بالبشر والرزانة، كفاهما عرسهما عن أي مأكل أو مشرب، إلا أن النكّافة العليمة العرافة، لا تبخل عليهما في فترات الاستراحة القصيرة، بمناولتهما مما لذ وطاب، مما يقوي همة الرجال، ويفتح شهية النساء، تناولهما ذلك، وهي تنصح وتغمز وتلمز، والفاهم يفهم.
في آخر الليل، أواخر بداية الصباح الباكر، تلتم ثلة الأقران والأتراب من صديقات وأصدقاء العروسين، لتبدأ الزفة إلي الشقة السعيدة التي تشهد ليلتهما الأولي، بعد اشتياق واحتراق، تصدح حولهما الألحان والأنغام، تتراقص حول خطوهما الأرواح والأجساد، تتقدمهما الشموع والزهور إلي عتبة الغرفة البهيجة، ليلتفتا إلي جمهورهما، يردان التحية والسلام وليخطوا خطوتهما الأولي، نحو عزلتهما المنشودة المشروعة.
عرّها. يلتقط لفظة كالهمس من بعيد، كأنها صادرة عن جدار حجرة لا تضم غيرهما. عرّها عرّها. عرّها. يتكرر الهمس كالهاتف الغامض من موقع مجهول، ليفهم أنه صادر عنها منحنية برأسها في حشمة وخجل، يكاد يغطي المنديل المنسدل علي رأسها كامل ملامح وجهها، تكرر بالهمس نفسه هاتفها الآمر، أو تنبيهها إلي أنه يجب أن يعرّيها، يكشف عنها، وكأن الصوت صادر عن غيرها، يظل متردداً كالمتبلد أو المتهيب، لا يعرف قصد الهاتف الآمر، ولا كيف يطيعه، تبادر من ذاتها تزيح ما ينسدل علي وجهها، موضحة أن العريس يعرّي وجه عروسه تتكشف له ملامحها، يحدق الطفل في رفيقته مبهوراً، مما استصعبه وهو سهل يسير... يسود الصمت بينهما، منحنية بنظرتها إلي أرض الغرفة، بينما عيناه مجمدتان في استقامة علي فراغ أمامه. قبّلْها، يهتف به همس. ينتفض في داخله غير متأكد مما يسمع. قبّلْها. يكرر الهاتف الهامس الغامض، قبّلْها. قبّلْها... يلتفت باتجاه فتاته. العريس يقبل عروسه. يختطف من خطها قبلة، تئن بضحكة سرية خفيفة، يهتز لها الكتفان الصغيران يتساءل. ما تعرفش. يهمس هاتفها في سمعه. لا. أعرف. لا تعرف. أعرف. لا...أ...
تفاجئه ملتفتة إليه، تبادر بشفتيها الممطوطتين تلتقيان بشفتيه، هكذا تقول متباهية. كيف تعرف؟ تقول إنها تعرف. كيف؟ أعرف، تهز كتفيها في ابتسامة، يريد أن يعرف كيف تعرف. تتردد وكأنها تقيس حجم خطوتها، عرفتْ ذلك وتعرفه من الأفلام؟ الأفلام؟ نعم. لا. نعم. لا... من أمك. يرسلها كطلقة رصاصة لم يقدر مبلغ غورها. بل أمك أنت. أمها التي تقبل أباها بذلك الشكل، بل أمه وأباه المقبلان لبعضها علي ذلك النحو، أمه. أمها. أبوه. أبوها...
تدفعه بعنف، يدفعها بدوره، يتدافعان يتشابكان، يرتميان علي الأرض، يتدحرجان جنباً وظهراً متشابكين متشادين، يتقوي عليها حيناً، تتقوي عليه حيناً آخر، يتقلبان جنباً لجنب طهراً لبطن تتقوي في موقع غالب علي بطنه، يتدارك في موقع غالب علي بطنها، يتقلبان متشابكين متعاركين، ليهمدا كالمنهكين فجأة، بطناً لبطن، صدراً لصدر، وجهاً لوجه، تأخذهما سكينة شبه تعب وإرهاق، شبه استمراء وارتياح، أحدهما في موقع لا غالب، يلفهما هدوء، الآخر لا مغلوب، يتسمعان أنفاسهما يتحسسان لهاثهما الصامت، يستشعران نبضهما متداخلا متبادلا... العريس يقبل عروسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.