بأسلوبه السهل الممتنع يفتح الكاتب والناقد محمود عبد الشكور، في كتابه "كنت صبياً في السبعينيات"، باباً سحرياً في ذاكرة كل قارئ علي حدة. باب يقوده إلي استكمال وقائع وتفاصيل الكتاب انطلاقاً من تجربته هو أو إلي فهم أفضل لما وراء ظاهرة أو حدث لم يعايشه فوصله مضبباً إذا كان من جيل تالٍ لجيل المؤلف. الكتاب، الصادر عن دار الكرمة، رحلة مثيرة للخيال في ذاكرتنا الجمعية كمصريين، ورغم أن طموحه الظاهر من عنوانه بسيط ويتمثل في استعراض جزء من سيرة كاتبه كصبي في عقد السبعينيات، إلا أنه يتسع ليتحول إلي تأريخ لزمن وذائقة ومزاج شعب في لحظة تحول عنيف، تأريخ يعتمد علي المهمش والمنسي والهارب من المؤرخين الرسميين. هنا، تلعب الإعلانات وبرامج الراديو والتليفزيون والأغاني وما إلي ذلك دوراً محورياً في رسم ملامح الحياة في مصر في السبعينيات. هكذا نعرف أن أطفال السبعينيات تشكل وعيهم علي وقع إعلانات: "هات لنا ريري"، "سلام عشانه... حافظ كيانه"، و"سلام عشان خضر العطار"، وبرامج الإذاعة: كلمتين وبس، إلي ربات البيوت، علي الناصية، والتليفزيون: اخترنا لك، النادي الدولي، نادي السينما. لكن أهمية الكتاب لا تكمن فقط في الجانب المعلوماتي الراصد لتفاصيل اندثر معظمها ويخايلنا الآن كطيف من زمن هارب، إنما تكمن بالأساس في الأسلوب الشائق للكاتب الذي يكتب بحميمية عن تفاصيله الخاصة، ويقدم من خلالها عالماً مشتركاً يخص كل من عاشوا في هذه الفترة، ليثبت أن العام يمكن طرحه بشكل أعمق عبر الخاص، وأن المهمش والمغيب والحميم قد يكون أكثر قدرة علي إضاءة الأحداث و"القضايا الكبري". يبدأ الكتاب، بموت عبد الناصر، كأن وعي المؤلف بدأ مع خبر الموت الصادم وحزن الآباء علي من رآوا فيه الأب والزعيم. ومن خلال المفتتح الروائي بامتياز يسحبنا الكاتب بسلاسة معه في عالمه الموزع بين ذكرياته الأولي في شقة شبرا ثم حياته اللاحقة مع أهله في الصعيد. تبدو شخصيات الكاتب، خاصةً عائلة الكاتب أقرب لشخصيات روائية حية، نكاد نراها رأي العين، الأب والأم تحديداً نشعر بعد الانتهاء من القراءة أنهما شخصيتان ستبقيان معنا لفترة، وهناك شخصيات عابرة جداً ومع هذا لا تنسي. منها مثلاً الأستاذ بولس مدرس التاريخ الذي طلب من عبد الشكور أن يختار شخصية تاريخية ويكتب عنها للإذاعة المدرسية، فاختار الأخير نابليون بونابرت ليفاجأ بعدها برفض الأستاذ بولس لإذاعة الفقرة عن بونابرت في الإذاعة المدرسية بحجة أن "الميثاق" هاجم نابليون وبالتالي يجب البحث عن شخصية تاريخية أخري! كانت أول مرة يسمع فيها المؤلف عن "الميثاق"، وحين أوضح له أبوه ما هو ونصحه بقراءته أدرك أن مدرس التاريخ يعيش خارج التاريخ. يكتب: "فتشت عن الكتاب، قرأته، وجدت فعلا أنه يهاجم نابليون ويتحدث عن قوي الشعب العامل. اكتشفت أن العبارات التي كانت تزين الغلاف الأخير لكراساتنا، مثل: "العمل حق.. العمل شرف.. العمل واجب.. العمل حياة"، مأخوذة حرفياً من الميثاق، بل اكتشفت أن تعبير "النكسة" ولد علي صفحات الميثاق وليس مع هزيمة 1967 كان السياق في الميثاق يتحدث عن نكسة المطالب الشعبية بعد ثورة 19 ، مدرس التاريخ نفسه كان مشوشاً، اضطربت الدنيا من حوله، نشأ في زمن كراهية إسرائيل، زمن القومية العربية، والاشتراكية، فتغيرت الدنيا بما يشبه الانقلاب: من الحزب الواحد إلي الأحزاب الشكلية المتعددة. ومن زمن "قها" و"إدفينا" (ألذ أنواع المربات المصرية) إلي عصر "السفن أب" و"بونبون سيما" وسجائر "مارلبورو" و"كنت" و"روثمانز كينج سايز". من الحرب مع إسرائيل إلي السلام معها. من التسامح إلي الفتن الطائفية". يخلص المؤلف إلي أن الأستاذ بولس قرر أن يواجه كل ذلك بالتوقف عند عام صدور ميثاق العمل الوطني، وكأن شيئاً لم يحدث في البلد بعده. "كان التشوش عند الجميع، وكنت أحاول أن أفهم". الجملة الأخيرة، ربما تمثل مفتاحاً أساسياً لفهم الكتاب الذي يعد من وجهة نظري محاولة من الكاتب لفهم هذه الحقبة وتمثلها وإدراك ما ترتب عليها لاحقاً، إذ لا يتوقف الأمر عند مجرد سرد لذكريات والحنين إلي زمن، محاولة فك وإعادة تركيب سعياً للفهم. بينما أقرأ الكتاب، كنت أعقد مقارنات بين ما أقرأه وبين ما عايشته كطفلة في العقد اللاحق، أدهشتني التشابهات ومن بينها: دور الراديو الكبير بين وسائل الترفيه، الصحف والمجلات كباب أول نحو الثقافة، التعلق بالتنس بفضل المعلق الراحل عادل شريف بأسلوبه الفريد الجامع بين الطرافة والثقافة والذكاء، دور برامج مثل "نادي السينما" و"أوسكار" في التثقيف سينمائياً. لكن الأهم أني رأيت الثمانينيات كمجرد ملحق للسبعينيات بكل تحولاتها الراديكالية، كنتيجة مترتبة علي مقدمة محذوفة، وما يحاوله "كنت صبياً في السبعينيات" هو أن يقدم لنا بدايات التحول بطريقة سلسة وشائقة.