منح الأديب "يحيي حقي" بطله لمصلحة البريد التي حمَّلته الأمانة في حقيبة صغيرة، يعلِّقلها علي كتفه ويجوب بركوبته القري والكفور، يوزع أظرفًا مغلقة، لكن بمجرد تسليمها للمرسل إليه، يدرك "البوسطجي" من ملامحه وأفعاله ما كان يحمله له: هناك جوابات تُفرح الناس، وأخري تفعل العكس، يتنهد البوسطجي وربما يتفكه بما علي الأظرف المتبقية من أغلاط الإملاء والعناوين متمتمًا: الحقيبة أكبر من حجمها، الحقيبة مستودع أسرار... داخل المحل ذي الفترينات الزجاجية الوثيرة توقفت يد الشابة العشرينية عند حقيبة نسائية بيضاء، تحب اللون الأبيض كما يريحها أنه لا يستلزم ثيابًا شديدة التحديد، راعت حجم وعدد الجيوب والثنيات، بالإضافة لشرطها الخاص: جيب سري لا يمكن لأحدهم اكتشافه، صغير يكفي لشريط الحبوب، أما الواقي الذَكري فلم تعد تبتاعه، اشترطت أن يكون علي "الزبون". تدفع الثمن وتستلم حقيبتها وتخرج، تجفل من صوت فرامل سيارة مفاجئة عند عبورها الشارع فتغمض عينيها.. يفتح غاندي "مخلاته" ويطيَّر حمامة، ظلت شريدة سنوات قبل أن تجد من يستقبل رسالتها، صار هو خلال هذه الفترة مريضًا بالفشل الكُلوي والهزال لإضرابه عن الطعام بعدما فشل العصيان المدني أن يؤتي ثماره. مخلاة غاندي لا تختلف كثيرًا عن "بؤجة" الدمّور تحملها المرأة الأربعينية بيد وبالأخري تمسك بيد ابنتها أم ضفيرتين طويلتين وتقطعا طريقًا رفيعًا بين الغيطان في غبشة الفجر تنبههما لسعات الهاموش والعث، تتنشقا الندي ممزوجًا برائحة الروث في المشوار المرهق، وإفطار "العيش المُلدن والجبن القريش" يُهضم أثناء الطريق الذي ينتهي بافتراقهما عند باب المدرسة؛ وعندما تخرج البنت من هذا الباب ظهرًا ستجد "بؤجة" الدمور علي الباب في انتظارها ويد أمها ممدودة ككل يوم: منديل يا حاجة، منديل يا حاج. حقيبة جوته الممتلئة بخطابات الغرام لا تناسب زماننا، بل هي متهمة بالغش، ليس غش جوته في روايات خيالية تعتصر دموع العشاق، بل غش النفس لأنه لم يعد هناك من يستحق. هذا ما أخذ يفكر به الشاب أبو نظارات طبية سميكة مرددًا: ده زمن نيرون. لكن أبدًا ليس زمن جوته. اعتصر نفسه لسنوات في الكتابة ثم أعادت له حبيبته أشعاره وخطابات غرامه مذيلة بنقطة النهاية، يخرج صورهما المشتركة من حقيبته الصغيرة ويمزقها ويرميها تحت قدميه، فيصرخ الشيخ الجالس علي المقعد المقابل له بالمنتزه: حرام تكسر الورد. ينظر الشاب للصوت فيري الشيخ يسد أذنيه بيديه متألمًا: أما تسمع صرخاته!! يحدق الشاب إلي مزق الأوراق بيده ويمصمص شفتيه متعجبًا: الكِبر عبر صحيح. مع شقشقة كل صباح ينهض الشيخ من فراشه ويعبئ الحقيبة بالسندوتشات والحلوي التي يحبها حفيده، وعندما رفع صوته وقال إنه خدع الله مِرارًا بنوايا توبة زائفة، ابتسم الحفيد فظهرت غمَّازة الحُسن علي خده وقال: عفريت يا جدو. عفريت. أما البنت أم ضفيرتين طويلتين التي تتلقف السندوتشات من الولد أبوشامة حُسن وتركض بين صفوف مقاعد المنتزه لتعطي نصفها لأمها السارحة بمناديل "بؤجة"الدمور، فلم تعبأ بالجد "الشيخ" ولا بكلماته. تدلدلت الحقيبة البيضاء من علي المقعد المجاور عندما سمعت الشيخ يؤكد أن الله كان يصدق توبته كل مرة وينقذه من مصائب جمة، جذبتها الشابة في اللحظة الأخيرة قبل أن تهوي، وسَرحتْ متذكرة دعاء أمها كل يوم وهي تراها تملأ حقيبتها بالأوراق والماكياج والأمشاط: عقبال ما تمليها حفاضات وكوافيل. أحقا؟ أتعني هذا حقا؟ تدعو بإخلاص؟ تظنني سأتزوج مثل أي واحدة؟ مررت أناملها فوق موضع الجيب السري وتمتمت بدعاء وهي تتابع ركض الأطفال، حك الشيخ بين فخذيه وبدا متألمًا، ثم قلب الحقيبة فجأة فهوت بقايا السندوتشات علي الأرض فهمس كأنه لا يريد أن يسمعه أحد: دي كلها ذنوب. اقترب الولد يلملم بقايا وجبته المُغبرة ويجري بينما الشيخ يشنهف بدموعه كلمات عن ندمه لأنه لم يكف عن خداع الله. وراح يهز الحقيبة ليتخلص مما تبقي فيها، ويدعو الله أن يتوقف عن دعمه حتي لا تثقل كفته الداكنة، توقف الشاب أبو نضارات عن تمزيق رسائله ضاربًا كفًا بكف، ثم نهض واقترب من الشيخ يربت كتفيه بحنان فالتقت عيناه في تلك اللحظة بعيني الشابة الممسكة بحقيبتها البيضاء، ابتسم لها، فيما كانت تتمني في نفس اللحظة ألا يأتي الزبون وأن يستجيب الله لدعاء أمها. وكانت سيدة المناديل الورقية مازالت تدور. فيما توقف بوسطجي يحيي حقي في مكان وزمان بعيد وفتح الرسائل لتسرية الوقت لكنه عجز عن إغلاقها فاشتبكت الحكايات وتداخلت المصائر. أًغلق المنتزه الآن لأن هناك من تسلل ووضع بين صفوف المقاعد الخشبية حقيبة "نيرون". كان بداخلها قنبلة منزلية الصنع حسب خبراء المتفجرات. وجدوا بجوار الأشلاء بقايا بؤجة دمور، وعدسات طبية سميكة، وشريط حبوب منع الحمل، وورد دهمته الأقدام.