فتح فصل ثانوي مزدوج جديد لتخصص استخلاص وتصنيع الزيوت النباتية في مطروح    أسعار البنزين والسولار اليوم الأحد 19 أكتوبر 2025    خالد الغندور: بيراميدز زعيم القارة الأفريقية بلا منازع واستعاد هيبة دوري الأبطال    بوني يقود إنتر لانتصار ثمين على روما في كلاسيكو الكالتشيو    ليلة من البهجة في الجونة.. نانسي عجرم تشعل الأجواء ويسرا وإلهام شاهين يتفاعلان وكيت بلانشيت تتوج بطلة للإنسانية    أحمد سعد يغادر إلى ألمانيا بطائرته الخاصة استعدادًا لحفله المنتظر    وفاة ضابط شرطة في حادث مأساوي على طريق الإسماعيلية الصحراوي    مصرع شخصين وإصابة آخرين إثر حادث تصادم سيارتين فى النزهة    زيلينسكي: ترامب لم يعطني ردًا حاسمًا لصواريخ توماهوك    «العمل العربية» تشارك في الدورة ال72 للجنة الإقليمية بالصحة العالمية    توابع زيادة البنزين، ارتفاع جديد في أسعار الجبن الأبيض والرومي والشيدر بالأسواق    شبانة: أداء اليمين أمام مجلس الشيوخ مسئولية لخدمة الوطن والمواطن    التعليم توضح الفئات المستفيدة من أجهزة التابلت 2025-2026.. من هم؟ (إجراءات وضوابط التسليم)    رئيس مصلحة الجمارك يتفقد قرية البضائع بمطار القاهرة    وزارة السياحة والآثار تنفي التقدّم ببلاغ ضد أحد الصحفيين    موعد مباراة منتخب المغرب ضد الأرجنتين في نهائي كأس العالم للشباب والقنوات الناقلة    مصرع عروسين اختناقًا بالغاز داخل شقتهما ليلة الزفاف بمدينة بدر    أتلتيكو مدريد ينتصر على أوساسونا بالدوري    عملوها الرجالة.. منتخب مصر تتوج بكأس العالم للكرة الطائرة جلوس    نتنياهو يعلن نيته الترشح مجددًا لرئاسة الوزراء في الانتخابات المقبلة    نتنياهو: الحرب ستنتهي بعد تنفيذ المرحلة الثانية بما يشمل نزع سلاح حماس    السيسي يوجه بزيادة حجم استثمارات «ميرسك» العالمية في السوق المصرية    مكافأة على سجله الأسود بخدمة الانقلاب .. قاضى الإعدامات المجرم "عصام فريد" رئيسًا ل"مجلس شيوخ العسكر" ؟!    ذات يوم مع زويل    زيكو: بطولتي الاولى جاءت أمام فريق صعب ودائم الوصول للنهائيات    أحمد ربيع: نحاول عمل كل شيء لإسعاد جماهير الزمالك    «سيوافقان على الانضمام».. عمرو الحديدي يطالب الأهلي بالتعاقد مع ثنائي بيراميدز    تراجع عيار 21 الآن بالمصنعية.. سعر الذهب اليوم الأحد بالصاغة بعد الانخفاض الكبير عالميًا    الخارجية الأميركية تزعم نية حماس شن هجوم واسع ضد مواطني غزة وتحذر من انتهاك وقف إطلاق النار    سيتغاضى عنها الشركاء الغربيون.. مراقبون: تمثيل كيان العدو بجثامين الأسرى والشهداء جريمة حرب    إصابة 10 أشخاص بينهم أطفال في هجوم كلب مسعور بقرية سيلا في الفيوم    رابط المكتبة الإلكترونية لوزارة التعليم 2025-2026.. فيديوهات وتقييمات وكتب دراسية في مكان واحد    شبورة كثيفة وسحب منخفضة.. بيان مهم من الأرصاد الجوية بشأن طقس مطروح    تفاصيل محاكمة المتهمين في قضية خلية مدينة نصر    استعدوا لأشد نوات الشتاء 2026.. الإسكندرية على موعد مع نوة الصليب (أبرز 10 معلومات)    المستشار الألماني: الاتحاد الأوروبي ليس في وضع يسمح له بالتأثير على الشرق الأوسط حتى لو أراد ذلك    زحف أمريكي غاضب من نيويورك إلى سان فرانسيسكو ضد «استبداد ترامب»    ارتفاع يصل إلى 37 جنيهًا في الضاني والبتلو، أسعار اللحوم اليوم بالأسواق    وائل جسار: فخور بوجودي في مصر الحبيبة وتحية كبيرة للجيش المصري    منة شلبي: أنا هاوية بأجر محترف وورثت التسامح عن أمي    انجذاب لشخص في محيط عملك.. حظ برج العقرب اليوم 19 أكتوبر    لا تتردد في استخدام حدسك.. حظ برج الدلو اليوم 19 أكتوبر    ياسر جلال: أقسم بالله السيسي ومعاونوه ناس بتحب البلد بجد وهذا موقف الرئيس من تقديم شخصيته في الاختيار    محمود سعد يكشف دعاء السيدة نفيسة لفك الكرب: جاءتني الألطاف تسعى بالفرج    تحالف مصرفى يمول مشروع «Park St. Edition» باستثمارات 16 مليار جنيه    لا مزيد من الإحراج.. طرق فعالة للتخلص من رائحة القمامة في المطبخ    الطعام جزء واحد من المشكلة.. مهيجات القولون العصبي (انتبه لها)    فوائد شرب القرفة باللبن في المساء    أتلتيكو مدريد يتخطى أوساسونا في الدوري الإسباني    أخبار 24 ساعة.. زيادة مخصصات تكافل وكرامة بنسبة 22.7% لتصل إلى 54 مليار جنيه    هل يجوز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها دون علمه؟.. أمين الفتوى يوضح    توجيهات عاجلة من وكيل صحة الدقهلية لرفع كفاءة مستشفى جمصة المركزي    البحوث الفلكية: 122 يوما تفصلنا عن شهر رمضان المبارك    الجارديان عن دبلوماسيين: بريطانيا ستشارك في تدريب قوات الشرطة بغزة    الوطنية للانتخابات: إطلاق تطبيق إلكتروني يُتيح للناخب معرفة الكثافات الانتخابية    "الإفتاء" توضح حكم الاحتفال بآل البيت    مواقيت الصلاة اليوم السبت 18 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    أعضاء مجلس الشيوخ يؤدون اليمين الدستورية.. اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الماركسي المُخضرم
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 01 - 2016

مع خالد محيى الدين فى موسكو ( نوفمبر 1964) تصوير محمد حسنين هيكل في منتصف أربعينيات القرن العشرين، كان هناك جيل يتفتح خارج ذاته، في الوقت الذي كانت الحرب العالمية علي وشك أن تنتهي. وحرب فلسطين الأولي ضد الصهيونية علي وشك أن تبدأ. والجامعة العربية تضع حجر أساسها والاستعمار البريطاني جاثم متحالف مع القصر وأحزاب الأقلية المُترفة اجتماعياً ضد أحزاب الأمة - الشعب - الوفد. والمجتمع يثور بحثاً عن الحرية والاستقلال والعدل الاجتماعي والديمقراطية، كان لطفي الخولي مع جيله من أبناء الطبقة البرجوازية الصغيرة تسعي بشق الأنفس لتوفير حياة مقبولة إنسانية في حدها الأدني وتعليم أولادها حتي الجامعة والحلم بالمستقبل.
ظل يتعلم ويتثقف ويقرأ ويناقش ويختلف ويصارع ويجرب ويناضل ويقفز علي الأسوار ويخاطر باقتحام المناطق المجهولة. يلتحق بأحزاب وبتنظيمات فوق الأرض وتحت الأرض. يجتمع في الجامعة وعلي المقاهي وفي منازل الأصدقاء وصالونات الصحف. يدخل ويخرج من تخشيبات الأقسام والسجون. كان يدرس القانون، ويتعاطي السياسة ضد التيار السائد. عرف التعددية إذ كان والده ينتمي إلي الحزب الوطني، وعمه البهي الخولي من الإخوان، وأخواله من الوفد، أما أصدقاؤه فكانوا من الاشتراكيين.
في السياسة، تتلمذ لطفي الخولي علي يد أساتذة كبار: حنفي محمود المواطن المتمرد، وعبد المعبود الجبيلي رجل العلم الماركسي، وفتحي رضوان الوطني الغيور. وسرعان ما انخرط في العمل السياسي، مع اليسار الماركسي الذي ساند ودعم الاجراءات التي اتخذتها ثورة يوليو 1952، ولم يكن ذلك مجرد مواقف تكتيكية أو عابرة أو متعلقة بأشخاص. بل كانت تعبيراً عن واقع، أنه لا يوجد تناقض بين المنهج الماركسي في التفكير وبين الالتزام السياسي بمواثيق الثورة. فكان جمال عبد الناصر بعد الثورة بحاجة إلي دعم كل من اعتقد أن لديه إمكانات لمساعدة حركته، خصوصاً أن الضباط الأحرار غير ملتزمين أيدولوجياً. ويعتقد لطفي الخولي في حوار أجراه معه كارم يحيي نهاية عام 1995 أن أفكار تصفية الإقطاع وتنحية رأس المال عن السيطرة علي الحكم والعدالة الاجتماعية لم تكن واردة لدي تنظيم الضباط الأحرار إلا من خلال الاتصالات التي تمت مع اليسار عموماً والحركة الاشتراكية. وظل عبد الناصر داخل مجلس قيادة الثورة أقرب إلي اليسار منه إلي اليمين، وخلال عامي 56 و1957 التقي عبد الناصر بكافة شيع اليسار والتنظيمات الشيوعية، تلبية لدعوة خالد محيي الدين أحد الضباط الأحرار، وقد حضر لطفي الخولي جميع أو معظم هذه اللقاءات.
أصبح لطفي الخولي مستقلاً عن التنظيمات الشيوعية منذ عام 1955، دون أن يعلن ذلك، لأن عبد الناصر كان قد عقد صفقة الأسلحة التشيكية وشارك في مؤتمر باندونج وصوته عال ضد الإمبريالية، واختلفوا حينها أهو عميل الأمريكان أم لا يزال عميلاً لبريطانيا؟ ورغم استقلاله ظلت علاقاته طيبة بالتظيمات، وأحياناً كانت تُفسر مقالاته ومواقفه بأنه مع التنظيمات، كما لم يُرفع اسمه من سجلات المباحث العامة. ويتم اعتقاله باستمرار. حتي بداية الستينيات، لم يجد لطفي الخولي واليساريين أي وضوح لدي جمال عبد الناصر في إدارته، لا في الرؤية ولا النظرية ولا مشروع اجتماعي اقتصادي سياسي، وكان لذلك صدي في كتابات محمد حسنين هيكل، محاور ناصر الوحيد. يقول لطفي الخولي: "مع صدام عبد الناصر مع الغرب حول أهداف الاستقلال الوطني وتوجهه إلي باندونج وانفتاحه للمرة الأولي علي العالم الجديد، ما يسمي فيما بعد بالعالم الثالث، اكتشف أهمية وزن مصر في هذا العالم، بالتالي تعزز بحث عبد الناصر عن نظرية ورؤية ومشروع له أبعاده الاجتماعية، فطلب من خالد محيي الدين أن يوافيه بالكتب سواء التي تؤيد أو تناقش أو تعارض الاشتراكية". وفي عام 1959، وقع صدام بين النظام والاتحاد السوفييتي، ترتب عليه اعتقال اليساريين والشيوعيين، كان لطفي الخولي واحداً منهم.
وعندما اتخذ جمال عبد الناصر قرار الإفراج عن الشيوعيين المصريين، المعتقلين والمسجونين، وعندما تبين للشيوعيين المنظمين، أن القيادات الثورية للنظام في مصر تضع كهدف بناء المجتمع الاشتراكي، وعندما ظهر أن النظام يدعم باطراد مواقع الثورة الاجتماعية من خلال المعارك التي خاضها ضد الإمبريالية والاستعمار الجديد والرجعية الداخلية، والدعوة إلي وحدة قوي اليسار كلها، أقدم الماركسيون المنظمون سابقاً علي إنهاء الوجود التنظيمي المستقل لتنظيماتهم، ودعوا إلي إقامة تنظيم ثوري واحد لكل القوي الاشتراكية علي اختلاف مدارسها الفكرية. ومنذ ذلك الوقت بذل اليسار الماركسي جهوداً مضنية من أجل أن تنجح وحدة جميع القوي الملتزمة بمواثيق الثورة، ولأكثر من مرة وُضع اليسار الماركسي موضع الامتحان، وجاء الامتحان الأكبر عقب هزيمة يونيو، عندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر عزمه عن التنحي، فخرج اليسار الماركسي علي رأس الجماهير التي تحركت من القري والمُدن لتطالب بالصمود، وببقاء ناصر، وصارت قضية الماركسيين الأساسية، هي قضية تحرير الأرض.
بعد رحيل عبد الناصر، حافظ اليسار الماركسي علي مواقفه المبدأية من النظام الذي أقامته ثورة يوليو. وكانت نقطة البدء أنه خاض معركة ترشيح أنور السادات رئيساً للجمهورية، مقاوماً كل المحاولات لاقتراح أسماء أخري للرئاسة. وفق ما جاء في مذكرة رُفعت إلي الرئيس أنور السادات في فبراير 1973 توضح موقف اليسار في مصر، ووقع عليها لطفي الخولي، فقد أسس اليسار الماركسي مواقفه علي أسباب موضوعية تماماً؛ فالسادات كان النائب الأول لعبد الناصر، وله ماضيه الوطني المعروف كمناضل ضد الإمبريالية والاستعمار، وقد رشح نفسه علي أساس أن برنامجه هو "برنامج 30 مارس"، وبعد انتخابه رئيساً قدم "برنامج العمل الوطني" انطلاقاً من المواقف الأساسية لثورة يوليو، وفي حكمه أُتيح لعدد من اليسار الماركسي مشاركة إيجابية أوسع، في كل مؤسسات العمل الوطني. في رؤية لطفي الخولي انطلقت مساندة اليسار الماركسي لحكم السادات من موقف واقتناع ثابت بأن الإمبريالية الأمريكية وخادمتها إسرائيل تريد الإطاحة بنظم الحكم الوطنية التقدمية في المنطقة مركزة أشد ضرباتها ضد النظام المصري، كما أن الماركسيين المصريين علي قناعة بأن نجاح الإمبريالية في هذا المخطط ليس في مصلحتهم كفكر وكأشخاص، لذلك كان طبيعيا أن تشكل قوي اليسار النواة الصلبة للوحدة الوطنية ضد المخطط الإمبريالي الذي يستهدف الإطاحة بالسادات.
كان لطفي الخولي، ومعه عبد الرحمن الشرقاوي وأبوسيف يوسف وأحمد طه أحمد وأديب ديمتري وعادل سيف النصر وعبد المنعم الغزالي ومحمد حلمي ياسين وفيليب جلاب، يرون أن مهمة تجميع قوي اليسار تتطلب أن يُبذل جهد عادل وصادق في كل ثلاثة مجالات، أولاُ القضية الوطنية؛ انطلاقاً من الإصرار علي تحرير كامل وعدم التفريط في قضية فلسطين فيجب أن يتم توجيه السياسة الإعلامية التي تحقق التثقيف السياسي للجماهير علي أساس المبدأ القائل بأن الدولة تصبح قوية، عندما يعرف الشعب كل شيء، ويستطيع أن يكوّنْ رأياً في كل شئ، ويفعل كل شيء بوعي. ثانيا الاقتصاد؛ لابد من وضع التشريعات التي تحد من شرور الرأسمالية الطفيلية، ووضع التشريعات التي تحدد مجالات نشاط الرأسمالية الوطنية بما يسمح لها بالإسهام في مشروعات التنمية، ومواصلة خط التحولات الاجتماعية لثورة يوليو والمبادرة بطرح الخطة العشرية للمناقشة علي أوسع نطاق جماهيري منظم. ثالثاً التنظيم السياسي؛ تأكيد المبدأ القائل بأن الاتحاد الاشتراكي يجب أن يبقي متحالفاً يضم قوي اجتماعية متمايزة ولكنها ذات مصالح مشتركة.
امتلك السادات من الخبرة السياسية ومن الذكاء ما دفعه لأن يمد يده لليسار الماركسي داعياً إياه بالتحالف معه، من ثم عادت علاقة لطفي الخولي بالسادات إلي سابق عهدها في بداية عام 1974، إلا أنها لم تخل من توترات، وما لبثت أن انقطعت نهائياً منذ بداية عام 1976، العام الذي تأسس فيه حزب التجمع، أحد أبرز الأحزاب اليسارية الذي كان لطفي الخولي أحد مؤسسية وأحد أعضاء قيادته حتي قبيل رحيله بعامين، وفي إحدي الاجتماعات المُغلقة للأمانة المركزية الذي كان مخصصاً لتقييم موقف حزب التجمع في أعقاب فشله في الانتخابات العامة عام 1978، والتي اطلع الكاتب صلاح عيسي علي محضرها، وأعلن ما جاء فيها، أن لطفي الخولي رأي أن اليسار المصري تعرض لحملة دعائية وبوليسية مكثفة منذ نشأته علي الخريطة السياسية المصرية، أضرت في قدرته علي الحركة الطليعية بين الجماهير بل وصادرت عملياً هذه الحركة. وفي تحليل لطفي الخولي للخلاف بين فصائل اليسار حول التكتيك الملائم للحركة، قال إنه كان أمام اليسار دائماً اختياران؛ الأول أن يدعو للصدام مع السلطة القائمة ويقاطعها، ويسعي للضغط عليها بالالتحام بالجماهير الشعبية وتحريكها. والثاني أن يحاول التأثير في هذه السلطة ودفعها إلي مواقف أكثر اعتدالاً وأكثر ديمقراطية.
اختلف لطفي الخولي مع السادات كثيرا حتي بعد اغتيال الأخير، وانعكس ذلك في القضايا التي انحاز إليها ، أبرزها تضامنه مع الفريق سعد الدين الشاذلي الذي لجأ إلي القضاء لطلب استصدار جواز سفر له، فكتب لطفي الخولي في جريدة الأنباء الكويتية في إبريل عام 1984 قائلاً: "أيا كانت المبررات الأمنية والسياسية التي يمكن أن يستند إليها رسمياً في حجب جواز سفر عن مواطن، فإنها غير مقبولة، ديمقراطياً وإنسانياً. والفريق سعد الدين الشاذلي لم يرتكب يوماً جريمة مخلة بالشرف ولم يصدر ضده حكم في هذا الشأن، وإنما هو مواطن علي درجة عالية من الاحترام ذاتياً، فهو علي الأقل بطل من أبرز الاستراتيجيين العسكريين، فما الذي فعله الشاذلي حتي يُمنع عنه جواز سفره؟ هل لأنه رفض اتفاقيات كامب ديفيد وسياسة السادات في الصلح المنفرد مع إسرائيل؟ وهو في هذا الموقف يشارك جميع الوطنيين في مصر في رفضهم لاختيارات السادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أهدرت طاقة الوطن وكبلته بالقيود، فالرجل لم يتآمر في الظلام، بل كان صريحاً شجاعاً عاملاً في النور. عارض السادات واستقال من منصبه كسفير. من هنا فإن القوي الوطنية في مصر تساند الشاذلي في جواز سفره. وتدعو إلي التعامل معه بمنهج ما بعد السادات وليس بمنهج السادات".
في أيامه الأخيرة، كتب لطفي الخولي بداية عام 1999 رؤيته وتوقعاته لتطورات قضايا ثلاث، الغريب أن اليسار الماركسي لم يكن من بينها ، بل "المسألة العراقية" و"المسألة الإسرائيلية" و"الانتقال من القرن العشرين إلي القرن الحادي والعشرين"، والتي وُجدت في درج مكتبه وتم نشرها في العدد التذكاري الاستثنائي الذي صدر من مجلة الطليعة بعد رحيلة ، إذ يري أننا سنظل مهمومين إلي السنة العاشرة من القرن الحادي والعشرين بالمسألة العراقية التي برزت وتفجرت منذ اجتياح العراق الكويت بداية التسعينيات. المسألة العراقية في نظره مثلها مثل انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه وسقوط جدار برلين والحرب الباردة، فقد كان من الممكن إطفاء النيران وحل المسألة داخل البيت العربي. وكان هناك شبه إجماع علي مقايضة احتلال الكويت بتلبية بعض المطالب الإقليمية والبترولية والمالية العراقية. نشطت في هذا الاتجاه جهود مصرية وسعودية. غير أن النظام العراقي الذي اعتبر الكويت تاريخياً جزءاً مقتطعاً من ترابه الوطني، رفض المساومة التي طرحها الحل العربي، ما دفع إلي تداول المسألة العراقية، وانتهاز الولايات المتحدة الفرصة لإثبات قوتها وجدارتها في قيادة العالم من خلال الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وظلت واشنطن علي مدي يقرب من ثماني سنوات، منذ حرب الخليج الثانية حتي الضربات الأخيرة التي وجهتها للعراق في ديسمبر 1998 بحجة أنه يرفض التعاون مع هيئة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل مروراً بقرارات مجلس الأمن بفرض عقوبات، هي اللاعب الأساسي الوحيد في المسألة العراقية.
أما بخصوص المسألة الإسرائيلية، التي يعني بها لطفي الخولي وضع الدولة العبرية عند اليهود أو الفلسطينيين أو العرب أو العالم، فقد لمس أن إسرائيل الدولة وإسرائيل المجتمع وإسرائيل المواطن ظلت ولا تزال تفتقد للأمن، رغم أنها تتمتع بأقوي جيش وأحدث الأسلحة التقليدية والنووية بالقياس إلي الفلسطينيين وكل الدول العربية، وتحظي علاوة علي ذلك بضمان أمني لأكبر وأقوي دولة في العالم، الولايات المتحددة، فضلاً أنها حققت اقتصاداً قوياً. ظل الإفتقاد للأمن حتي بعد انتصار إسرائيل عام 1967 واستكمالها احتلال كل فلسطين و70 ألف كيلو متر مربع من الأراضي العربية في مصر وسوريا والأردن، وعلي الرغم من إبرام معاهدات سلام مع مصر والأردن واتفاقيات حول مبادئ إقرار تسوية سلمية مع منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي للفلسطينيين. اكتسبت عقدة الأمن هذه صياغة سؤال أقرب للغز المستحيل علي الحل: السلام يضمن الأمن أم الأمن يضمن السلام؟ لعل جذر المسألة، التي لم يكن نيتانياهو وائتلاف الليكود الحاكم إلا مجرد العامل الكاشف عنه بعنف أهوج، يكمن في أن إسرائيل باتت الدولة الاستعمارية الوحيدة المتخلفة عن القرن العشرين، التي تحكمها أيدولوجية شمولية وذلك في عصر شهد انهيار جميع النظم الشمولية النهج.
بصفة عامة، يعتقد لطفي الخولي أن السنوات العشر الأولي من القرن الحادي والعشرين سوف تشهد تغير في أغلب قيادات العالم، بحيث يصاحب هذا التغير تحول غير مسبوق في طبيعة وتكوين القوي الحية الفاعلة للمجتمعات بمعني أن هذه القوي والقيادات التي تفرزها تكونت - غالباً - في الثلث الأخير من القرن العشرين، والتي تمرست علي حالة المفاجأة في المتغيرات، وتصبح بالتالي أقدر نسبياً علي استيعابها والتعامل معها بقدر أوفر من العقلانية والانضباط. وأن هذه القيادات ستكون وليدة صراع ديمقراطي. وسوف تتجه الحركة بالساحة الدولية إلي معركة النظام الدولي الجديد: قطب واحد أو أقطاب متعددة؟ سنلاحظ أن روسيا تسعي بدأب إلي توليف قوة دولية ثلاثية الأطراف تضمها مع الهند والصين لمنازعة الولايات المتحدة علي قطبية العالم. فمنذ منتصف العشرين برزت الولايات المتحدة كأقوي وأغني دولة في العالم، ولا تزال حركة الأمركة السياسية والعسكرية والاقتصادية تتواصل وتطرد وتغزو عقل وقلب الإنسان والأوطان. وطرح لطفي الخولي في نهاية توقعاته عدة أسئلة: هل صحيح كما يتنبأ كثير من المفكرين أن القرن الحادي والعشرين هو قرن أمريكي؟ وأن كل البشر وكل البلدان يدخلون هذا القرن وقد صاروا بطريقة أو بأخري أمريكيين في الثقافة وأسلوب الحياة والقانون وأنظمة الحكم، بدرجات متفاوتة؟ هل تتقطع جذور الإنسان بثقافته وحضاراته وقومياته المتعددة؟ أيخسر معركة الخصوصية وهوية الانتماء مع الأمركة؟
رحل لطفي الخولي وهو لا يتصور أن من الممكن كسب هذه المعركة بدون أن يتحول الإنسان في غير أمريكا، من مستهلك وحسب لأفكار وفنون وعلوم وتكنولوجيا وسلع الآمركة، إلي منتج، ليس بالضرورة إلي أفكار أو سلع إلخ.. بديلة ولكن بالأساس إلي القدرة الذاتية والموضوعية التي تسلحه بشجاعة العلم والحرية في الخلق والابتكار والمنافسة الإنسانية علي دفع حركة الحياة في القرن الحادي والعشرين إلي عالمية متعددة الثقافات والحضارات. فقد استخلص من تجربة جيله، أن تزاوج الإدارة مع العقلانية هي سر كل حركة إلي الأمام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.