ولدت الروائية السويدية "سلمي لاجرلوف" في مقاطعة "فارملاند"، شمالي السويد يوم 20 نوفمبر عام 1858. بدأت حياتها العملية كمُعلمة قبل أن تنشر روايتها الأولي "ملحمة جوستا برلنج" عام 1891، والتي حظيت بقبول واسع في السويد. قررت "سلمي" التخلي عن مهنة التدريس عام 1895 والتفرغ للكتابة الأدبية. قامت برحلة إلي فلسطين في مطلع القرن العشرين وأقامت في القدس لبعض الوقت، وعند عودتها لبلادها أصدرت كتاباً حول تلك الرحلة؛ التي ظلت ماثلة في ذهنها أثناء كتابة رواية "القدس" التي صدرت عام 1902، وتحولت إلي فيلم سينمائي عام 1996. حصلت "لاجرلوف" علي جائزة نوبل في الأدب عام 1909، وتم اختيارها ضمن أعضاء الأكاديمية التي تمنح جوائز نوبل في عام 1914. وحصلت علي الدكتوراه الفخرية في الآداب عام 1928 من جامعة "جريفس فالد" الألمانية. ومن أشهر مؤلفاتها "رحلة نيلز العجيبة"، و"روابط خفية"، "عجائب المسيح الدجال"، "ملك البرتغال" و"البيت العتيق"، و"ذكريات من طفولتي"، و"يوميات سلمي لاجرلوف". وتوفيت في 16 مارس 1940 تحظي "لاجرلوف" بمكانة مرموقة في السويد، لدرجة أن الحكومة السويدية قامت بوضع صورتها علي إحدي العملات السويدية عام 1992، كما تمتد شهرتها إلي بقية دول الشمال الاسكندنافية لأنها استطاعت التعبير عن الحياة الريفية في هذه البقعة من العالم. لكن "لاجرلوف" لم تنل شهرة عالمية كبيرة علي غرار أغلب الأدباء الذين حصلوا علي جائزة نوبل. ولقد ثار جدل حول مدي استحقاقها للجائزة، وعن مُحاباة لجنة نوبل السويدية لأديبة من السويد، في حين تجاهلت اللجنة أديباً سويدياً آخر، هو الكاتب المسرحي الكبير "أوجست استريندبرج"، لقيامه بمُهاجمة المؤسسات السويدية. ولم تصمد أعمالها في مواجهة الزمن كما صمدت بعض أعمال مُعاصريها الذين لم يحصلوا علي جائزة نوبل. ويري البعض أن مرجع هذا إلي هيمنة الأعمال الأدبية الصادرة باللغة الانجليزية ثم باللغة الفرنسية علي المشهد الإبداعي العالمي، والتي لا تترك سوي مساحة هامشية ضيقة للأعمال الإبداعية بلغات أخري. وهناك دلائل كثيرة علي هذه الهيمنة اللغوية، كانعكاس للهيمنة السياسية علي الساحة العالمية. ومن الضروري أن يتعرف القارئ العربي علي ثقافات وآفاق أرحب من الذي تتبناه وتروج له المؤسسات المُهيمنة علي النشر والتوزيع عالمياً، في ظل الثورة المعلوماتية التي تجتاح العالم، وتسهل عملية التواصل، وتعمل علي كسر الهيمنة الأدبية. ومن المُدهش أن يكتب العديد من المهتمين بالعملية الإبداعية في الغرب عن دهشتهم لعدم الاحتفاء بهذه الكاتبة وأعمالها ذات القيمة المعرفية والجمالية الراقية، بعد أن طالعوا بعض أعمالها بالصدفة. تعتمد رواية "القدس" علي قصة حقيقية حدثت وقائعها في السويد في نهاية القرن التاسع عشر، وتتناول الرواية موضوعاً من أكثر الموضوعات حساسية لدي البشر، وهو الصراع بين الدين في صيغته المُتطرفة، وبين الوطن. وفكرة الوطنية لدي "سلمي لاجرلوف" هي ضفيرة متماسكة من الانتماء إلي الأرض، والتمسك بالهوية القومية وبالدين كمقوم أساسي من مقومات الحياة الفردية والمجتمعية. أما التطرف الديني، من وجهة نظرها، فهو ناجم عن خلل نفسي ناجم عن تجارب حياتية قاسية. تعرض الرواية لتاريخ طويل من التمسك بالأرض والعادات والتقاليد في منطقة ريفية في شمال السويد، وتبلور مفهوم الوطن بمعناه الواضح الملموس؛ الذي يصمد في مواجهة طارئ جديد يتمثل في ظهور طائفة دينية مُتعصبة، تعتبر نفسها التجسيد الصحيح للمسيحية، وتقرر اعتزال المجتمع بعد أن تيأس من استقطابه، ثم تقرر في النهاية الهجرة إلي القدس، وهو ما يؤدي إلي تمزق الروابط الأسرية، والعلاقات العاطفية، ويدفع الحبكة إلي التطور والتشعب في عدة مسارات متوازية. ترصد الرواية لحظة انبثاق تلك الطائفة المتعصبة، والخلفية النفسية لمن انضموا إليها، والصدام بينهم وبين المجتمع المحيط، حتي قرار هذه الطائفة بالهجرة من أجل تأسيس مجتمع جديد في أرض غريبة. يعتمد تطور الحبكة في الرواية علي رصد حالات الهوس والاختلال النفسي والذهني التي تنتاب بعض الشخصيات وتخلق لديهم تصورات ورؤي غامضة؛ تدفع بهم إلي الانضمام إلي تلك الطائفة. وتعتمد "لاجرلوف" في وصف هذه الحالات علي مشاهد سريعة الإيقاع، سريالية الطابع، تستدعي فيها الموروث الثقافي والأسطوري للريف السويدي في ذلك الزمن، وتعتمد علي تقنية الحلم لتطوير تلك المشاهد، وتنفذ إلي المكونات النفسية للشخصية. وتحاكي هذه المشاهد بنية الملاحم والأساطير، خاصة بلغتها الوصفية الدقيقة، والتي تحوم حول تخوم الشعر. تضع "لاجرلوف" هذا القلق الإنساني الفوار والتوتر النفسي الحارق في مواجهة استاتيكية رجال الدين التقليديين، وعجزهم عن الانتباه إلي تلك الحالات ومن ثم التعامل معها وتوفير الدعم الروحي لها، مما جعلها فريسة لخطاب غامض ذي رؤية مشوشة. فنحن نعلم من البداية، أن القس يُعاني خللاً جسمانياً يفقده القدرة علي التركيز. ويسعي مدير المدرسة إلي تعويض ضعف القس، وتقوية إيمان الرعية في مواجهة الهرطقة التي قد تجتاح الأبرشية، إلا أنه شخص سلطوي يعتبر نفسه وصياً علي الآخرين، ويعتبر الجميع مجرد تلاميذ أمامه. وتشير الرواية إلي غياب القطب الاجتماعي المؤثر في تماسك الأبرشية، بعد موت إنجمار الثري الذي يحظي باحترام الجميع، وقبل أن ينضج ابنه ووريثه. تجسد الرواية قدرة النسق الاجتماعي علي مواجهة تلك النزعات المُتطرفة، حين يرفض إنجمار الشاب الانضمام إلي الطائفة الجديدة، ويتمكن من وقف تمددها، وتقلص عدد المُنتمين لها، حتي تقتصر عضويتها علي قلة من المهووسين. تمعن هذه القلة المعزولة في الانفصال عن المجتمع، وتعيش عالمها الخاص، حتي تصلها دعوة للهجرة إلي مدينة القدس في فلسطين. تصل أحداث الرواية إلي ذروتها لحظة مغادرة المهاجرين لقريتهم، وهم يودعون الأهل والقارب والنهر والتلال والمفردات التي عاشوا فيها وعاشت فيهم. ويتصاعد التوتر ومع لحظات الوداع الطويلة والمؤثرة، إلا أنهم يتبعون صوتاً داخلياً يصم آذانهم عن توسلات الأهل والأقارب، وبكاء الأطفال الذين يرفضون السفر، ويقررون البقاء في الوطن. لقد صدرت هذه الرواية منذ قرن من الزمن، إلا أن الصراع الذي تطرحه ما زال قائماً حتي هذه اللحظة، نشهده ونكتوي بناره. وترصد "سلمي لاجرلوف" الطبيعة البشرية بعين ثاقبة، وتقدم تحليلاً نفسياً وذهنياً وافياً لمن يتصورون أنهم الفرقة الناجية، ويتوهمون امتلاك الفهم الوحيد الصحيح للدين، ويسحقون الكثير من الجمال أثناء فرارهم من الواقع. ورغم أن رواية "القدس" تقدم تجربة من الماضي ومن بلد في أقصي الشمال، إلا أنها مفيدة لنا هنا، والآن. وهي رواية تثبت قدرة الفن الحقيقي كشف مكنونات الذات البشرية بتنويعاتها المختلفة، وقدرته علي عبور الحواجز الثقافية، وعلي تجاوز الزمن والمكان.